سلسلة مقال
خطب و مواعظ من حجة الوداع
الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
ومن خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبته بالخيف من منى كما في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فقال: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم)). رواه أحمد وابن ماجه والدارمي والحاكم وغيرهم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل له، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم)). رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وابن حبان وغيرهم، ورواه أبو نعيم في كتابه أخبار أصبهان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد مسجد الخيف))، فقال: وذكر الحديث.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. وقال: من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له)). رواه أحمد والدارمي وابن حبان وغيرهم(1).
وقد روى هذا الحديث جمع من الصحابة بلغت عدتهم أكثر من عشرين صحابياً منهم غير من تقدم: معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، ولذا عدّه غير واحد من أهل العلم في جملة الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل من أسباب تواتره كون النبي صلى الله عليه وسلم خطب به الناس في مسجد الخيف من منى.
والخيف ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يسمى مسجد الخيف لأنه في سفح جبلها، وهو في زماننا هذا مسجد كبير واسع يتسع لآلاف المصلين مع كافة خدماته، قامت على بنائه والعناية به الدولة وفقها الله وحرسها، وتقام فيه أيام الحج دروس عديدة، كما خصص فيه أماكن متعددة لإجابة المستفتين وإرشاد السائلين.
وإنما خطب صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ليتلقى عنه الجمع الغفير الذي شهد حجته صلى الله عليه وسلم تعاليم الدين، ويبثوا ما يسمعونه في أقطار الأرض.
والحديث بمجموع طرقه يشتمل على أربع جمل رئيسة:
الجملة الأولى: هي المشتملة على الدعوة لسامعي الحديث ومبلغيه غيرهم.
الجملة الثانية: هي المتضمنة بيان الفائدة من تبليغ الحديث وهي استنباط ما فيه من الفقه.
الجملة الثالثة: المبدوءة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ...)).
الجملة الرابعة: المبدوءة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله...)).
وقد صدّر صلى الله عليه وسلم حديثه هذا بدعوة مباركة ميمونة، خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع حديثه، ووعاه وبلّغه كما سمعه، ولو لم يكن في فضل العلم وبيان شرفه إلاّ هذا الحديث لكفى به شرفاً، فإن هذه الدعوة النبوية الكريمة المباركة متضمنة لجمال الظاهر والباطن، فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الإيمان، وابتهاجِ الباطن به، وفرح القلب وسروره والتذاذه به، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه، ولهذا يَجْمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة كما في قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، فالنضرة في وجوههم، والسرور في قلوبهم، ثم ما يتلقون من نعيم وثواب على ذلك يظهر نضارة على وجوههم كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
ولا ريب أن هذه الدعوة المباركة لمن حمل السنة وبلغها للأمة بالنضرة تحمل البشارة لمن وقف نفسه، ووفر جهده لخدمة السنة وإبلاغها، وفي هذا حفز للهمم وإذكاء للعزائم، وحمل للنفوس على الجد والمثابرة، والصبر والمصابرة، وبذل الوسع في تحقيق ذلك.
وقد دل الحديث على أن للعلم الذي استحق أهلُه هذه البشارة أربعَ مراتب:
أولها وثانيها: سماعه وعقله، فإذا سمعه ووعاه بقلبه، أي: عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه، وكذلك عَقْلُه هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب.
والمرتبة الثالثة: تعاهده وحفظه حتى لا ينساه فيذهب.
والمرتبة الرابعة: تبليغه وبثه في الأمة ليحصل به ثمرته ومقصوده، وهو بثه في الأمة، فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا يُنفق منه وهو معرض لذهابه، فإن العلم ما لم يُنفق منه ويُعلَّم فإنه يوشك أن يذهب، فإذا أُنفق منه نما وزكا على الإنفاق.
وإنما دعا صلى الله عليه وسلم لسامع السنة ومبلغها بالنضارة جزاءاً وفاقاً لما قام به من بثها، وجعلها بذلك غضة طرية، وسعى في نضارة العلم وإحياء السنة فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وقد جاء عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه قال: ((ما من أحد يطلب الحديث إلاّ وفي وجهه نضرة)).
* * *
--------------
(1) السلسلة الصحيحة (404).