القول الأمين في ذم الكذب والكذابين
لأبي جهاد سمير الجزائري
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
هذه كلمات تكتب بماء الذهب بل بماء العينين لخصتها من كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" للإمام ابن حبان البستي رحمه الله تعالى في ذم الكذب والتحذير من هذا الخلق الذميم خاصة بين أهل العلم وطلابه.
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى في كتابه الماتع النافع "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار" :
في شرحه لحديث: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فجر"
(متفق عليه)
النفاق أساس الشر وهو أن يظهر الخير، ويبطن الشروهذا الحدُّ يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي، الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر. وهذا النوع مُخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار. وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها: من الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام. وهم موجودون في كل زمان، ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية.
والمقصود هنا: القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث فهذا النفاق العملي - وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية - فإنه دهليز الكفر، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، فإن الصدق، والقيام بالأمانات، والوفاء بالعهود، والورع عن حقوق الخلق هي جماع الخير، ومن أخص أوصاف المؤمنين. فمن فقد واحدة منها فقد هدم فرضاً من فروض الإسلام والإيمان، فكيف بجميعها؟.
قلت (أبو جهاد) :
لا يكذب المرئ إلا من مهانته...أو عادة سوء أو قلة الأدب
لجيفة الكلب عندي خير رائحة...من كذب المرئ في جد أو في لعب
القول الأمين في ذم الكذب والكذابين
قال الحافظ ابن حبان رحمه الله:
إن الله جل وعلا فَضَّلَ اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان
فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن
يُعَوِّدَ آلة خَلَقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته
بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه، لأن اللسان يقتضي ما عوِّد: إن صدقاً فصدقاً، وإن كذاباً فكذباً.
ولقد أحسن الذي يقول:
عَوِّد لسانك قول الخَير تَحْظَ به ... إن اللسان لما عَوَّدْتَ معتادُ
موكّل بتقاضي ما سننتَ له ... فاختر لنفسك، وانظر كيف ترتاد
وأنشدني الأبرش:
الكِذْبُ مُرديك، وإن لم تخف ... والصِّدْقُ منجيك على كل حال
فانطق بما شئت تجد غِبَّه ... لم تُبْتَخَسْ وزنة مثقال
وسمعت أحمد بن محمد بن الأزهر يقول: سمعت محمد بن خلف بن أبي الأزهر يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول ما من مُضْغْةَ أحبُّ إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب.
وقال أبو حاتم رضي الله عنه: كل شيء يستعار ليتجمَّلَ به سَهْلٌ وجودُه، خلا اللسان، فإنه لا ينبئ إلا عما عُوِّدَ، والصدق ينجي والكذب يُرَديِ، ومن غلبَ لسانَه أمّره قومه، ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئاً يصدق به، ولا يكذب من هانت عليه نفسه.
وأنشدني الكريزي:
كذبتَ، ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدَّقا
إذا عرف الكذاب بالكذب لم يزل ... لدى الناس كذابا، وإن كان صادقا
وقال أبو حاتم: لو لم يكن للكذب من الشَّين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صَدٌَق لم يُصدّق، لكان الواجب على الخلق كافَّة لزوم التثبت بالصدق الدائم، وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسياً، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالخزي في كل لحظة وطرفة.
سمعت أحمد بن محمد بن الأزهر يقول: سمعت نصر بن علي الجهضمي يقول: إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان.
وأنشدني محمد بن عبد الله البغدادي:
إذا ما المرء أخطأه ثلاث ... فبعه، ولو بكَفٍّ من رَماد
سلامة صدره، والصدق منه، ... وكتمان السرائر في الفؤاد
وقد أنبأنا أبو خليفة حدثنا ابن كثير أنبأنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الأحوص عن عبد الله قال حَسْبُ المؤمن من الكذب أن يحدث بكل ما سمع.
وأنشدني محمد بن إسحاق الواسطي:
وإذا الأمور تزاوجت ... فالصدق أكرمها نِتَاجا
الصدق يعقد فوق رأ ... س حَليفه بالصدق تاجا
والصدق يقدح زَنده ... في كل ناحية سراجا
قال ابن حبان : أنبأنا القطان حدثنا نوح بن حبيب حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن رِبْعِيٍّ قالوا من ذكرت يا أبا سفيان؟ قال: ذكرت ربعيا، وتَدْرون مَنْ كان ربعي؟ كان رجلا من أشجع زَعَم قومُه أنه لم يكذب قط، فسعى به ساع إلى الحجاج، فقال: هاهنا رجل من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط، وأنه يكذب لك اليوم، فإنك ضربت على ابنيْه البعث فَعَصَيَا، وهما في البيت، وكان عقوبة الحجاج للعاصي ضرب السيف، قال: فدعاه، فإذا شيخ منحن، فقال له أنت ربعي؟ قال: نعم، قال: ما فعل أباك؟ قال: هاهما ذان في البيت، قال: فحمله وكساه وأوصى به خيراً.
قال أبو حاتم رضي الله عنه:
أنشدني المنتصر بن بلال:
تحدث بصدق إن تحدثت، وليكن ... لكل حديث من حديثك حينُ
فما القول إلا كالثياب، فبعضها ... عليك، وبعض في التخوت مصونُ
وأنشدني عبد العزيز بن سليمان الأبرش:
كم من حسيب كريم كان ذا شرف ... قد شانه الكذب وسط الحيّ إن عمدا
وآخر، كان صُعُلوكا، فشَرّفه ... صدقُ الحديث وقولٌ جانب الفَنَدَا
فصار هذا شريفا فوق صاحبه ... وصار هذا وضيعاً تحته أبدا
وأنشدني محمد بن المنذر بن سعيد الهروي:
القول كاللبن المحلوب، ليس له ... رَدٌّ وكيف يردُّ الحالبُ اللبن؟
في ضرعه، وكذاك القول ليس له ... في الجوف ردٌّ قبيحاً كان أو حسنا
قال أبو حاتم رضي الله عنه: الواجب على العاقل ترك الإغضاء عن تعهد اللسان، لأن من كثر كلامه كثر سَقَطه، والسقط ربما تعدى غيره فيهلكه في ورطة لا حيلة له في التخلص منها، لأن اللسان لا يندمل جرحه ولا يلتئم ما قطع به، وكلْمُ إذا وصل إلى القلب لم ينزع إلا بعد مدة طويلة، ولم يستخرج إلا بعد حيلة شديدة، ومن الناس من لا يُكْرَم إلا للسانه، ولا يهان إلا به، فالواجب على العاقل أن لا يكون ممن يهان به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
أفقر خلق الله إلى عفوه
أبو جهاد سمير الجزائري
راجيا الإخلاص في القول والعمل