لمن أراد أن يتذكر
فصل
(توالد المعاصي )
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها ، ويولد بعضها بعضا ، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها ، كما قال بعض السلف : إن من عقوبةالسيئة السيئة بعدها ، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها : اعملني أيضا ، فإذا عملها قالت الثالثة اعملني أيضا وهلم جرا ، فتضاعف الربح وتزايدت الحسنات .
وكذلك كانت السيئات أيضا ، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة ، وصفات لازمة ، وملكات ثابتة ، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها ، فتسكن نفسه وتر عينه .
ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه ، وضاق صدره ، وأعيت عله مذاهبه ، حتى يعاودها ، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ، ولا داعية إليها ، إلا لما يجد من الألم بمفارقتها .
كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال آخر :
فكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا ، وتحرضه عليها ، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها .
ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين ، فتؤزه إليها أزا .
فالأول قوى جند الطاعة بالمدد ، فصاروا من أكبر أعوانه ، وهذا قوىجند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه .
الداء والدواء / ابن قيم الجوزية
تعليق