قال الشيخ سعيد رسلان بعد أن أثنى على الله و حمده :
فإنّ من أوجب ما يتوجب على المسلم أن يحافظ على لسانه و يتأكد هذا في شهر رمضان لأنّ النبي صلى الله عليه و على آله و سلم ربط بين الصيام و اللّسان و ذكر أنّ الإنسان لا يكون صائما و لسانه يهدر بين شدقيه، يتكلم بكل كلمة عوراء بلا زمام و لا خطام و لا حدّ و لا قيد، أخرج البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن إبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم : "من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"، و أخرج النسائي و البخاري في رواية "من لم يدع قول الزور و العمل به و الجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" فربط بين ترك وترك و جعل الشرط قائما بجزائه "من لم يدع فليس لله حاجة في أن يدع".
- و "يدع" يعني يترك،
- من لم يترك قول الزور و هو قول محرم
- و العمل به و هو العمل المحرم، فليس لله حاجة في أن يدع، في أن يترك طعامه و شرابه.
و في رواية البخاري و النسائي زاد النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "و الجهل" و هو العدوان باللسان و بالجوارح على السواء "من لم يدع قول الزور و العمل به و الجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"، و أخرج الطبراني في الصغير و في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم : "من لم يدع الخلا و الكذب فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" و أخرج البخاري و اللفظ له و مسلم عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "و الصيام جنة" أي وقاية "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنّي صائم إنّي صائم" ، و أخرج ابن خزيمة و ابن حبان و هو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "ليس الصيام من الأكل و الشرب، إنّما الصيام من اللغو و الرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إنّي صائم إنّي صائم"، و أخرج ابن ماجه و النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "رب صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع، و رب قائم ليس له من قيامه إلّا السّهر" و في رواية "ربّ صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و ربّ قائم حظه من صيامه السّهر" هذا كثير، فما أكثر الذين يمسكون عن الحلال، الحلال لله، و يقعون فيما حرّم الله، يمسكون عن الطعام و الشراب و يقبلون الرشوة و يغتصبون أموال الناس و يعتدون عن الحرمات باللسان، و النبي صلى الله عليه و على آله و سلم بيّن حرمة عرض المسلم و العرض هو موطن المدح و الذم من الإنسان، و ليس بالعرض الذي يذهب إليه الناس بالأذهان عند الإطلاق و إنما هو موضع المدح و الذم قال رسول الله النبي صلى الله عليه و على آله و سلم: "الربا إثنان و سبعون بابا" أو قال "حوبا" أو قال "إثما" "أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه" و هي أعلى درجة في الزنا فهي في زنا المحارم و بالأم خاصّة، فهي أعلى الدرجات في الزنا، قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "الربا إثنان و سبعون بابا أو قال إثما أو قال حوبا، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه، و إنّ أربى الربا استطالة الجل في عرض أخيه"، فتأمل فإنّ أقل درجة في هذا الأمر الكبير هي أعلى درجة في ذلك الأمر الخطير، فبيّن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم أنّ أقلّ درجة من الإثنتين و السبعين هي أعلى درجة في زنا المحارم و مع ذلك فأعلى من ذلك و أجل و أفظع و أشنع استطالة الرجل في عرض أخيه.
اللّسان من نعم الله العظيمة و لطائف صنعه الغريبة صغير جِرمه عظيم طاعته و جُرمه، إذ لا يستبين الكفر و الإيمان إلّا بشهادة اللّسان و هما غاية الطاعة و العصيان، فبهذا المخلوق الصّغير يعبّر الإنسان عن بغيته و يفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته و يدافع عن نفسه و يعبّر عن مكنون فؤاده و ذات ضميره، يحادث به جليسه و يؤانس به رفيقه و به السقطة و الدنو و الرفعة و العلو، و اللّسان رحب الميدان ليس له مرد و لا لمجاله منتهى و لا حدّ، له في الخير مجال رحب وله في الشرّ ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللّسان و من أهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان و ساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى باب البوار و لا يكبّ الناس في النّار إلاّ حصائد ألسنتهم و لا ينج من شرّ اللّسان إلاّ من قيده بلجام الشرع، فينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلاّ كلاما ظهرت فيه المصلحة كما قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : "و متى استوى الكلام و تركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه" إذا استوى الكلام و تركه في المصلحة، فمن أراد التسنّن و اتّباع النبي صلى الله عليه و على آله و سلم فعليه أن يمسك و لا يتكلم لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه و ذلك كثير في العادة و السلامة لا يعدلها شيء.
و في اللّسان آفتان عظيمتان إن خلُص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام و آفة السكوت، و قد يكون كلٌّ منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاصٍ لله مراءٍ مباهٍ إذا لم يخف على نفسه، و المتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله جلّ و علا، و كثرة آفات اللّسان في الخطأ و الكذب و الغيبة و النميمة و النفاق و الفحش و المراء و تزكية النفس و الخوض في الباطل و الخصومة و إيذاء الخلق و هتك العورات و غيرها، و في لزوم السكوت جمع الهم و دوام الوقار و جمع للفكر و الذكر و العبادة و السلامة من تبعات القول في الدنيا و الآخرة، و ليحذر المسلم من تلك الآفات فإنه محاسب و مجازى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) و قال تعالى (و لا تقف ما ليس ل كبه علم، إنّ السمع و البصر و الفؤاد، كلّ أولئك كان عنه مسئولا) و قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "من كان يؤمن بالله و باليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه و جعل النبي صلى الله عليه و على آله و سلم من حسن إسلام المرء تركَه ما لا يعنيه فقال صلى الله عليه و سلم كما في حديث الترمذي و هو صحيح "من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"، و حين سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: "الفم و الفرج" أخرجه الترمذي و ابن ماجة و هو حديث حسن، و تأمل في خطورة اللسان و الكلام فيما قال النبي الهمام صلى الله عليه و على آله و سلم "إنّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب" ما يتبيّن فيها، و في رواية "يضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب" قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى و هو يبيّن هذا الأمر الكبير قال "و من العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ و الإحتراز من أكل الحرام و الظلم و الزنا و السرقة و شرب الخمر و من النظر المحرم وغير ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين و الزهادة و العبادة و هو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بال يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق و المغرب، كم ترى من رجل متورع عن الفواحش و الظلم و لسانه يفري في أعراض الأحياء و الأموات و لا يبال ما يقول " قال عطاء بن أبي رباح "إنّ من كان قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلام كلّ ما سوى كتاب الله أو أمر بمعروف أو نهي عن المنكر أو أن تنطق في معيشتك التي لابد منها، فما زاد على ذلك فهو من فضول الكلام، أتنكرون أنّ عليكم حافظين كراما كاتبين عن اليمين و عن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره و ليس فيها شيء من أمر آخرته ".
من أشد أمراض اللّسان، الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره لو بلغه، سواء ذكرته في بدنه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في ثوبه أو في داره أو في مركبه، كل ذلك غيبة، و هي تحصل أيضا بالقلب، فهناك غيبة القلب و هي سوء الظن بالمسلمين، و الغيبة محرمة بالإجماع ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح و التعديل و النصيحة و ما أشبه ، قال تعالى (و لا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أن يأكل أحدكم لحم أخيه ميتا فكرهتموه)، و قد أبان صلى الله عليه و سلم الغيبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم قال : "أتدرون ما الغية ؟" قالوا: الله و رسوله أعلم. قال : "ذكرك أخاك بما يكره" قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ يعني لم أفتر عليه و إنّما ذكرته بما فيه من نقص و عيب مما يكره ذكره. أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته" و هذا رواه مسلم. و بهذا يتبين من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة و البهتان، الكذب عليه بهتان له، الكذب على الشخص حرام سواء كان له أو كان عليه، برّا كان أم كان فاجرا، لكن الإفتراء على المسلم أشد بل الكذب كله حرام و هو من أشدّ آفات اللسان و لا يطاد يسلم منه إلّا من رحم الله ربّ العالمين، و الغيبة تعدّ على أعراض المسلمين و النبي صلى الله عليه و على آله و سلّم قال محذّرا "إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم حرام عليكم" و هذا متفق عليه، و قال صلى الله عليه و سلّم "كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه و ماله و عرضه" و هذا رواه مسلم. فجمع النبي صلى الله عليه و سلم في حديث واحد حرمة الدم و المال و العرض، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى "إنّ بعض الناس لا تراه إلّا منتقدا داء ينسى حسنات الطوائف و الأجناس و يذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء و السلامة و يقع على الجرح و الأذى و هذا من رداءة النفوس و فساد المزاج"، فاحذر الغيبة قولا و سماعا، فإنّك إن جلست في مجلس يغتاب فيه فلا تنكر فأنت مشارك أيضا و عليك الإثم، و الغيبة لا تقتصر على السماع وحده بل الغيبة بالفعل و بالإشارة و بالغمز و بالهمز و بالكتابة و بالمحاكاة و بالحركة و بكل ما يفهم المقصود منه، فكلّ ذلك داخل في الغيبة و هو حرام، و احرص على أن تذب و تدفع على أعراض المسلمين في المجالس و المحافل فقد قال صلى الله عليه و سلم "من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذي و هو حديث صحيح
و من آفات اللسان و مما شاع بين المسلمين في كثير من مجالسهم ما يتواطئون عليه من الاستهزاء و السخرية و هو محرم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن)، و السخرية: الاستهانة و التحقير و التنبيه على العيوب و النقائص، و ذلك يكون بالفعل و بالقول، و قد يكون بالإشارة و بالإماء أيضا.
و أشدّ أنواع السخرية و أشدّ أنواع الاستهزاء، الاستهزاء بالدين و أهله، و لخطورته و عظم أهله أجمع العلماء على أنّ الاستهزاء بالله و بدينه و برسوله كفر بواح يخرج من الملّة بالكليّة، فمن استهزأ بالله ربّ العالمين أو استهزأ برسوله الكريم أو استهزأ بدين الله العظيم فهو كافر قد انتقل من الملّة، قال شيخ الإسلام رحمه "إنّ الاستهزاء بالله و بآيته و برسوله كفر يكفُر صاحبه بعد إيمان". تفنن البعض في أنواع السخرية و الاستهزاء، هناك من يهزأ بالحجاب و آخر بتنفيذ الأحكام الشرعية و آخرون سلقوا رجال الدعوة إلى الله ربّ العالمين بألسنتهم، كما للسنّة أيضا نصيبا من ذلك الاستهزاء فهذا يستهزئ باللحية و هذا يستهزئ بقصر الثياب و هما من سنن المصطفى صلى الله عليه و على آله و سلم، تأمل قول ربك (و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب، قل أبلله و رسوله و آياته كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعفوا عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) و سبب نزولها قد ورد فيه أنّ رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغنا بطونا و أكذبنا ألسنة و أجبننا عند اللقاء" فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، و جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلّم و قد ارتحل و ركب ناقته و قال يا رسول الله "إنما كنا نخوض و نلعب"، إنما كنا نأتي بما نأتي به في مجالسنا هو لهو فارغ و حديث بطّال لا نحاسب عليه، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم " أبالله و رسوله و آياته كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"، و قد فضح الله عزّ وجلّ موقف المستهزئين بالمؤمنين و المستهزئين بأهل الخير و الصلاح فقال تعالى (زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة و الله يرزق من يشاء بغير حساب)، كثير من الناس إذا قيل له إن ما تقوله من باب الاستهزاء بربّ العالمين، فيقول حينئذ لا نقصد الدين و لا نقصد الرجل بذاته بل نمزح و نمرح و ما علم المسكين إلى أين يؤدي مرحه و مزاحه، إنه خزيٌ في الدنيا و عذاب في الآخرة و قد حذر النبي صلى الله عليه و سلم من فلتات اللسان و ضحكات المجالس، فقال صلى الله عليه و سلم "ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له" أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي بإسناد حسن، "ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له" هو واد في جهنم أو عذاب مهين أو هو خزي من لدن ربّ العالمين، "ويل له ويل له" هذا شائع جدّا، فإنّ كثيرا من الناس في المجالس قد تحوّلوا إلى مضحكي الملك، فما كان قديما عند تلك الطوائف البُدائية، فإنّه كان عند كل ملك من الملوك مضحك يأتي بأمور تضحك الجلساء و تضحك الثكلى و هو متبذّل ليس له مروءة و يأتي بتلك الأعمال و لا يبالي، فكثير من الناس يأتون بمثل هذه الأمور و لا يبالون و يطلقون ألسنتهم مستهزئين بدين الله ربّ العالمين حتى إنهم ربما تناولوا النبي صلى الله عليه و على آله و سلم و هذا كفر، كفر بالله ربّ العالمين و خروج من الملّة و الدين، و في جواب اللّجنة الدائمة للإفتاء على من قال لآخر "يا لحية" و هذا عندنا في مجتمعانا نحن و هو أن يقول له "يا أبا ذقن"، إذا قال له ذلك مستهزئا فما الحكم، الجواب "الإستهزاء باللحية منكر عظيم، فإن قصد القائل بقوله يا لحية السخرية فذلك كفر" فإذا قال له ذلك فقد أتى بكفر، هذا حكم عام و تنزيله على الأعيان في تكفير المعين يحتاج توفر الشروط و انتفاء الموانع و إقامة الحجة على التفصيل و لكن هذا الحكم في دين الله عز و جل إن قصد الإستهزاء به إن قصد الإستهزاء باللحية فهذا كفر، الناس يظنون الدين عبثا و لعبا و أن لهم أن يأتوا فيه بما يشاءون و أن الواحد منهم مطلق الصراح لم يربه أبوه و لا أمه و إنما أطلقوه في الشوارع كاللقطاء فعنده كل رذيلة ثمّ يدخل دين الله ربّ العالمين و يغشى المساجد و يصير إماما و يفعل ما يحب و يطول لسانه كل مقدّس و لا يبالي، و إذا ما جوبه بالحكم انقلبت حماليق عينيه، هذا إن أراد الاستهزاء و هي في الغالب لا تقال إلا بقصد الاستهزاء، و أما إن قصد التعريف أراد أن يعرفه بتلك الصّفة أو قصد التعريف فليس بكفر و لكن لا ينبغي أن يدعوه به، و قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى "و من الناس من ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أو لم يلقهم، مثل قوله المطوعة كذا و السنيّة كذا و كذا فهذا يخشى أن يكون مرتدا و لا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة" ما الذي ينقمه عليهم؟ و لا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة و أهل إقبال على ربّ العالمين، هذا الذي يحدث في المجتمع لا يقرّب من رب العالمين و لا يدن من الخروج من الذل الذي تورطت فيه الأمة و إنما ينبغي الإلتزام بدين الله جلّ و علا، ينبغي أن يحترم الإنسان شعائر الله و أن يكون وقّافا عند حدود الله تبارك و تعالى لا يتجاوزها و النبي صلى الله عليه و سلم بيّن لنا في مثال تطبيقي النتيجة التي يؤول إليها إطلاق اللسان و إطلاق الجوارح في الإعتداء على الناس و على الحرمات، قال صلى الله عليه و على آله و سلم لأصحابه رضي الله عنهم يوما "أتدرون ما المفلس؟" قالوا : إن المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع، فقال " المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة، و يأتي و قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثمّ طُرح في النار" أخرجه مسلم في صحيحه، فتأمل يأتي بحسنات يوم القيامة و أتى بجهد و لكن لم يحفظه و الشأن ليس في العمل الصالح و إنما الشأن كل الشأن في حفظ العمل الصالح مما يحبطه، فالنبي صلى الله عليه و على آله و سلم بيّن لنا في هذا الحديث أنّ المفلس ليس الذي لا يملك درهما و لا دينارا و إنّما المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات و صلاة و صيام و زكاة و لكنه يأتي و قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا و اعتدى على هذا و تطاول على هذا ولم يحترم هذا و آذى المسلمين في مشاعرهم و في أموالهم و في أعراضهم و في أبدانهم و أبشارهم فيُعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثمّ طُرح في النار و بأس القرار.
و من آفات اللسان الكلام فيما لا يعني، لا تتكلم إلا فيما يعنيك "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و من آفات اللسان أيضا الخوض في الباطل و المراء "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" متفق عليه، و التشدّق و التقعّر في الكلام "إن أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة مساويكن أخلاقا الثرثارون المتشدّقون المتفيهقون" يعني الذين يتنطّعون في الكلام و يتوسّعون فيه "إياكم و الفُحش، فإن الله لا يحب الفُحش و لا التفحُّش" كما قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم، و كذلك أن يمازح المرء أخاه و قد نهى عن ذلك رسول الله، نهى أن تُمازح أخاك فإنه باب من أبواب الشر يؤدي إلى كثير من الضُّر، و كذلك من آفات اللسان إفشاء السر و إخلاف الوعد و النميمة "فإنه لا يدخل الجنة نمام" "لا يدخل الجنة قتات" كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن أوجب الواجبات على الصائم في رمضان أن يحفظ لسانه و إلا فليس لله حاجة في أن تعذّب نفسك، ليس لله حاجة في أن تظل صائما مبتعدا عن الطعام و الشراب في الحر و في قسوة الجو و أن تعاني ما تعاني من الظمأ و العطش و السغب و أن تظل بعيدا عما تشتهيه مما أحله الله لك ثم تطلق لسانك بعد فيما حرمه الله عليك فإنه لا صوم لمن كان كذلك كما قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" و من لأخطر أبواب المجاهدة في دين الله ربّ العالمين أن يحفظ المرء لسانه كما مر في هذا الكلام الذي ذكره هذا العالم الرباني "و من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ و الإحتراز من أكل الحرام" فتجد الرجل لا يأكل حراما و لا ما فيه شبهة و يتحرز من الظلم لا يظلم أحد و لا يزني و لا يسرق و لا يشرب الخمر و لا ينظر إلى المحرمات و يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين و الزهادة و العبادة و هو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلق لها بالا يزل بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق و المغرب و لو لم نخرج إلا بهذا لكفانا في إصلاح الحياة، في إصلاح الحياة على مستوى الفرد و على مستوى الأمة فإنه من أعظم أبواب المجاهدة في دين الله ربّ العالمين و جرّب تعرف أن تكون حافظا للسانك و أن تكون ظابطا للفظك هذا من أكبر و أعظم أبواب المجاهدة في دين الله رب العالمين و الناس يجرون في هذا الأمر على طبعهم و الله المستعان و عليه التكلان و صلى الله و سلم على نبينا محمد و صلى الله على نبينا و على آله و سلم
فإنّ من أوجب ما يتوجب على المسلم أن يحافظ على لسانه و يتأكد هذا في شهر رمضان لأنّ النبي صلى الله عليه و على آله و سلم ربط بين الصيام و اللّسان و ذكر أنّ الإنسان لا يكون صائما و لسانه يهدر بين شدقيه، يتكلم بكل كلمة عوراء بلا زمام و لا خطام و لا حدّ و لا قيد، أخرج البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن إبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم : "من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"، و أخرج النسائي و البخاري في رواية "من لم يدع قول الزور و العمل به و الجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" فربط بين ترك وترك و جعل الشرط قائما بجزائه "من لم يدع فليس لله حاجة في أن يدع".
- و "يدع" يعني يترك،
- من لم يترك قول الزور و هو قول محرم
- و العمل به و هو العمل المحرم، فليس لله حاجة في أن يدع، في أن يترك طعامه و شرابه.
و في رواية البخاري و النسائي زاد النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "و الجهل" و هو العدوان باللسان و بالجوارح على السواء "من لم يدع قول الزور و العمل به و الجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"، و أخرج الطبراني في الصغير و في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم : "من لم يدع الخلا و الكذب فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" و أخرج البخاري و اللفظ له و مسلم عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "و الصيام جنة" أي وقاية "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنّي صائم إنّي صائم" ، و أخرج ابن خزيمة و ابن حبان و هو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "ليس الصيام من الأكل و الشرب، إنّما الصيام من اللغو و الرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إنّي صائم إنّي صائم"، و أخرج ابن ماجه و النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم قال : "رب صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع، و رب قائم ليس له من قيامه إلّا السّهر" و في رواية "ربّ صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و ربّ قائم حظه من صيامه السّهر" هذا كثير، فما أكثر الذين يمسكون عن الحلال، الحلال لله، و يقعون فيما حرّم الله، يمسكون عن الطعام و الشراب و يقبلون الرشوة و يغتصبون أموال الناس و يعتدون عن الحرمات باللسان، و النبي صلى الله عليه و على آله و سلم بيّن حرمة عرض المسلم و العرض هو موطن المدح و الذم من الإنسان، و ليس بالعرض الذي يذهب إليه الناس بالأذهان عند الإطلاق و إنما هو موضع المدح و الذم قال رسول الله النبي صلى الله عليه و على آله و سلم: "الربا إثنان و سبعون بابا" أو قال "حوبا" أو قال "إثما" "أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه" و هي أعلى درجة في الزنا فهي في زنا المحارم و بالأم خاصّة، فهي أعلى الدرجات في الزنا، قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "الربا إثنان و سبعون بابا أو قال إثما أو قال حوبا، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه، و إنّ أربى الربا استطالة الجل في عرض أخيه"، فتأمل فإنّ أقل درجة في هذا الأمر الكبير هي أعلى درجة في ذلك الأمر الخطير، فبيّن النبي صلى الله عليه و على آله و سلم أنّ أقلّ درجة من الإثنتين و السبعين هي أعلى درجة في زنا المحارم و مع ذلك فأعلى من ذلك و أجل و أفظع و أشنع استطالة الرجل في عرض أخيه.
اللّسان من نعم الله العظيمة و لطائف صنعه الغريبة صغير جِرمه عظيم طاعته و جُرمه، إذ لا يستبين الكفر و الإيمان إلّا بشهادة اللّسان و هما غاية الطاعة و العصيان، فبهذا المخلوق الصّغير يعبّر الإنسان عن بغيته و يفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته و يدافع عن نفسه و يعبّر عن مكنون فؤاده و ذات ضميره، يحادث به جليسه و يؤانس به رفيقه و به السقطة و الدنو و الرفعة و العلو، و اللّسان رحب الميدان ليس له مرد و لا لمجاله منتهى و لا حدّ، له في الخير مجال رحب وله في الشرّ ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللّسان و من أهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان و ساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى باب البوار و لا يكبّ الناس في النّار إلاّ حصائد ألسنتهم و لا ينج من شرّ اللّسان إلاّ من قيده بلجام الشرع، فينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلاّ كلاما ظهرت فيه المصلحة كما قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : "و متى استوى الكلام و تركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه" إذا استوى الكلام و تركه في المصلحة، فمن أراد التسنّن و اتّباع النبي صلى الله عليه و على آله و سلم فعليه أن يمسك و لا يتكلم لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه و ذلك كثير في العادة و السلامة لا يعدلها شيء.
و في اللّسان آفتان عظيمتان إن خلُص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام و آفة السكوت، و قد يكون كلٌّ منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاصٍ لله مراءٍ مباهٍ إذا لم يخف على نفسه، و المتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله جلّ و علا، و كثرة آفات اللّسان في الخطأ و الكذب و الغيبة و النميمة و النفاق و الفحش و المراء و تزكية النفس و الخوض في الباطل و الخصومة و إيذاء الخلق و هتك العورات و غيرها، و في لزوم السكوت جمع الهم و دوام الوقار و جمع للفكر و الذكر و العبادة و السلامة من تبعات القول في الدنيا و الآخرة، و ليحذر المسلم من تلك الآفات فإنه محاسب و مجازى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) و قال تعالى (و لا تقف ما ليس ل كبه علم، إنّ السمع و البصر و الفؤاد، كلّ أولئك كان عنه مسئولا) و قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم : "من كان يؤمن بالله و باليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" متفق عليه و جعل النبي صلى الله عليه و على آله و سلم من حسن إسلام المرء تركَه ما لا يعنيه فقال صلى الله عليه و سلم كما في حديث الترمذي و هو صحيح "من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"، و حين سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: "الفم و الفرج" أخرجه الترمذي و ابن ماجة و هو حديث حسن، و تأمل في خطورة اللسان و الكلام فيما قال النبي الهمام صلى الله عليه و على آله و سلم "إنّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب" ما يتبيّن فيها، و في رواية "يضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب" قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى و هو يبيّن هذا الأمر الكبير قال "و من العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ و الإحتراز من أكل الحرام و الظلم و الزنا و السرقة و شرب الخمر و من النظر المحرم وغير ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين و الزهادة و العبادة و هو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بال يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق و المغرب، كم ترى من رجل متورع عن الفواحش و الظلم و لسانه يفري في أعراض الأحياء و الأموات و لا يبال ما يقول " قال عطاء بن أبي رباح "إنّ من كان قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلام كلّ ما سوى كتاب الله أو أمر بمعروف أو نهي عن المنكر أو أن تنطق في معيشتك التي لابد منها، فما زاد على ذلك فهو من فضول الكلام، أتنكرون أنّ عليكم حافظين كراما كاتبين عن اليمين و عن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره و ليس فيها شيء من أمر آخرته ".
من أشد أمراض اللّسان، الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره لو بلغه، سواء ذكرته في بدنه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في ثوبه أو في داره أو في مركبه، كل ذلك غيبة، و هي تحصل أيضا بالقلب، فهناك غيبة القلب و هي سوء الظن بالمسلمين، و الغيبة محرمة بالإجماع ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح و التعديل و النصيحة و ما أشبه ، قال تعالى (و لا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أن يأكل أحدكم لحم أخيه ميتا فكرهتموه)، و قد أبان صلى الله عليه و سلم الغيبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم قال : "أتدرون ما الغية ؟" قالوا: الله و رسوله أعلم. قال : "ذكرك أخاك بما يكره" قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ يعني لم أفتر عليه و إنّما ذكرته بما فيه من نقص و عيب مما يكره ذكره. أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته" و هذا رواه مسلم. و بهذا يتبين من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة و البهتان، الكذب عليه بهتان له، الكذب على الشخص حرام سواء كان له أو كان عليه، برّا كان أم كان فاجرا، لكن الإفتراء على المسلم أشد بل الكذب كله حرام و هو من أشدّ آفات اللسان و لا يطاد يسلم منه إلّا من رحم الله ربّ العالمين، و الغيبة تعدّ على أعراض المسلمين و النبي صلى الله عليه و على آله و سلّم قال محذّرا "إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم حرام عليكم" و هذا متفق عليه، و قال صلى الله عليه و سلّم "كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه و ماله و عرضه" و هذا رواه مسلم. فجمع النبي صلى الله عليه و سلم في حديث واحد حرمة الدم و المال و العرض، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى "إنّ بعض الناس لا تراه إلّا منتقدا داء ينسى حسنات الطوائف و الأجناس و يذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء و السلامة و يقع على الجرح و الأذى و هذا من رداءة النفوس و فساد المزاج"، فاحذر الغيبة قولا و سماعا، فإنّك إن جلست في مجلس يغتاب فيه فلا تنكر فأنت مشارك أيضا و عليك الإثم، و الغيبة لا تقتصر على السماع وحده بل الغيبة بالفعل و بالإشارة و بالغمز و بالهمز و بالكتابة و بالمحاكاة و بالحركة و بكل ما يفهم المقصود منه، فكلّ ذلك داخل في الغيبة و هو حرام، و احرص على أن تذب و تدفع على أعراض المسلمين في المجالس و المحافل فقد قال صلى الله عليه و سلم "من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذي و هو حديث صحيح
و من آفات اللسان و مما شاع بين المسلمين في كثير من مجالسهم ما يتواطئون عليه من الاستهزاء و السخرية و هو محرم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن)، و السخرية: الاستهانة و التحقير و التنبيه على العيوب و النقائص، و ذلك يكون بالفعل و بالقول، و قد يكون بالإشارة و بالإماء أيضا.
و أشدّ أنواع السخرية و أشدّ أنواع الاستهزاء، الاستهزاء بالدين و أهله، و لخطورته و عظم أهله أجمع العلماء على أنّ الاستهزاء بالله و بدينه و برسوله كفر بواح يخرج من الملّة بالكليّة، فمن استهزأ بالله ربّ العالمين أو استهزأ برسوله الكريم أو استهزأ بدين الله العظيم فهو كافر قد انتقل من الملّة، قال شيخ الإسلام رحمه "إنّ الاستهزاء بالله و بآيته و برسوله كفر يكفُر صاحبه بعد إيمان". تفنن البعض في أنواع السخرية و الاستهزاء، هناك من يهزأ بالحجاب و آخر بتنفيذ الأحكام الشرعية و آخرون سلقوا رجال الدعوة إلى الله ربّ العالمين بألسنتهم، كما للسنّة أيضا نصيبا من ذلك الاستهزاء فهذا يستهزئ باللحية و هذا يستهزئ بقصر الثياب و هما من سنن المصطفى صلى الله عليه و على آله و سلم، تأمل قول ربك (و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب، قل أبلله و رسوله و آياته كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعفوا عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) و سبب نزولها قد ورد فيه أنّ رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغنا بطونا و أكذبنا ألسنة و أجبننا عند اللقاء" فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، و جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلّم و قد ارتحل و ركب ناقته و قال يا رسول الله "إنما كنا نخوض و نلعب"، إنما كنا نأتي بما نأتي به في مجالسنا هو لهو فارغ و حديث بطّال لا نحاسب عليه، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم " أبالله و رسوله و آياته كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"، و قد فضح الله عزّ وجلّ موقف المستهزئين بالمؤمنين و المستهزئين بأهل الخير و الصلاح فقال تعالى (زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة و الله يرزق من يشاء بغير حساب)، كثير من الناس إذا قيل له إن ما تقوله من باب الاستهزاء بربّ العالمين، فيقول حينئذ لا نقصد الدين و لا نقصد الرجل بذاته بل نمزح و نمرح و ما علم المسكين إلى أين يؤدي مرحه و مزاحه، إنه خزيٌ في الدنيا و عذاب في الآخرة و قد حذر النبي صلى الله عليه و سلم من فلتات اللسان و ضحكات المجالس، فقال صلى الله عليه و سلم "ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له" أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي بإسناد حسن، "ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له ويل له" هو واد في جهنم أو عذاب مهين أو هو خزي من لدن ربّ العالمين، "ويل له ويل له" هذا شائع جدّا، فإنّ كثيرا من الناس في المجالس قد تحوّلوا إلى مضحكي الملك، فما كان قديما عند تلك الطوائف البُدائية، فإنّه كان عند كل ملك من الملوك مضحك يأتي بأمور تضحك الجلساء و تضحك الثكلى و هو متبذّل ليس له مروءة و يأتي بتلك الأعمال و لا يبالي، فكثير من الناس يأتون بمثل هذه الأمور و لا يبالون و يطلقون ألسنتهم مستهزئين بدين الله ربّ العالمين حتى إنهم ربما تناولوا النبي صلى الله عليه و على آله و سلم و هذا كفر، كفر بالله ربّ العالمين و خروج من الملّة و الدين، و في جواب اللّجنة الدائمة للإفتاء على من قال لآخر "يا لحية" و هذا عندنا في مجتمعانا نحن و هو أن يقول له "يا أبا ذقن"، إذا قال له ذلك مستهزئا فما الحكم، الجواب "الإستهزاء باللحية منكر عظيم، فإن قصد القائل بقوله يا لحية السخرية فذلك كفر" فإذا قال له ذلك فقد أتى بكفر، هذا حكم عام و تنزيله على الأعيان في تكفير المعين يحتاج توفر الشروط و انتفاء الموانع و إقامة الحجة على التفصيل و لكن هذا الحكم في دين الله عز و جل إن قصد الإستهزاء به إن قصد الإستهزاء باللحية فهذا كفر، الناس يظنون الدين عبثا و لعبا و أن لهم أن يأتوا فيه بما يشاءون و أن الواحد منهم مطلق الصراح لم يربه أبوه و لا أمه و إنما أطلقوه في الشوارع كاللقطاء فعنده كل رذيلة ثمّ يدخل دين الله ربّ العالمين و يغشى المساجد و يصير إماما و يفعل ما يحب و يطول لسانه كل مقدّس و لا يبالي، و إذا ما جوبه بالحكم انقلبت حماليق عينيه، هذا إن أراد الاستهزاء و هي في الغالب لا تقال إلا بقصد الاستهزاء، و أما إن قصد التعريف أراد أن يعرفه بتلك الصّفة أو قصد التعريف فليس بكفر و لكن لا ينبغي أن يدعوه به، و قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى "و من الناس من ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أو لم يلقهم، مثل قوله المطوعة كذا و السنيّة كذا و كذا فهذا يخشى أن يكون مرتدا و لا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة" ما الذي ينقمه عليهم؟ و لا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة و أهل إقبال على ربّ العالمين، هذا الذي يحدث في المجتمع لا يقرّب من رب العالمين و لا يدن من الخروج من الذل الذي تورطت فيه الأمة و إنما ينبغي الإلتزام بدين الله جلّ و علا، ينبغي أن يحترم الإنسان شعائر الله و أن يكون وقّافا عند حدود الله تبارك و تعالى لا يتجاوزها و النبي صلى الله عليه و سلم بيّن لنا في مثال تطبيقي النتيجة التي يؤول إليها إطلاق اللسان و إطلاق الجوارح في الإعتداء على الناس و على الحرمات، قال صلى الله عليه و على آله و سلم لأصحابه رضي الله عنهم يوما "أتدرون ما المفلس؟" قالوا : إن المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع، فقال " المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة، و يأتي و قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثمّ طُرح في النار" أخرجه مسلم في صحيحه، فتأمل يأتي بحسنات يوم القيامة و أتى بجهد و لكن لم يحفظه و الشأن ليس في العمل الصالح و إنما الشأن كل الشأن في حفظ العمل الصالح مما يحبطه، فالنبي صلى الله عليه و على آله و سلم بيّن لنا في هذا الحديث أنّ المفلس ليس الذي لا يملك درهما و لا دينارا و إنّما المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات و صلاة و صيام و زكاة و لكنه يأتي و قد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا و اعتدى على هذا و تطاول على هذا ولم يحترم هذا و آذى المسلمين في مشاعرهم و في أموالهم و في أعراضهم و في أبدانهم و أبشارهم فيُعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثمّ طُرح في النار و بأس القرار.
و من آفات اللسان الكلام فيما لا يعني، لا تتكلم إلا فيما يعنيك "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و من آفات اللسان أيضا الخوض في الباطل و المراء "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" متفق عليه، و التشدّق و التقعّر في الكلام "إن أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة مساويكن أخلاقا الثرثارون المتشدّقون المتفيهقون" يعني الذين يتنطّعون في الكلام و يتوسّعون فيه "إياكم و الفُحش، فإن الله لا يحب الفُحش و لا التفحُّش" كما قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم، و كذلك أن يمازح المرء أخاه و قد نهى عن ذلك رسول الله، نهى أن تُمازح أخاك فإنه باب من أبواب الشر يؤدي إلى كثير من الضُّر، و كذلك من آفات اللسان إفشاء السر و إخلاف الوعد و النميمة "فإنه لا يدخل الجنة نمام" "لا يدخل الجنة قتات" كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن أوجب الواجبات على الصائم في رمضان أن يحفظ لسانه و إلا فليس لله حاجة في أن تعذّب نفسك، ليس لله حاجة في أن تظل صائما مبتعدا عن الطعام و الشراب في الحر و في قسوة الجو و أن تعاني ما تعاني من الظمأ و العطش و السغب و أن تظل بعيدا عما تشتهيه مما أحله الله لك ثم تطلق لسانك بعد فيما حرمه الله عليك فإنه لا صوم لمن كان كذلك كما قال النبي صلى الله عليه و على آله و سلم "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه" و من لأخطر أبواب المجاهدة في دين الله ربّ العالمين أن يحفظ المرء لسانه كما مر في هذا الكلام الذي ذكره هذا العالم الرباني "و من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ و الإحتراز من أكل الحرام" فتجد الرجل لا يأكل حراما و لا ما فيه شبهة و يتحرز من الظلم لا يظلم أحد و لا يزني و لا يسرق و لا يشرب الخمر و لا ينظر إلى المحرمات و يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين و الزهادة و العبادة و هو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلق لها بالا يزل بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق و المغرب و لو لم نخرج إلا بهذا لكفانا في إصلاح الحياة، في إصلاح الحياة على مستوى الفرد و على مستوى الأمة فإنه من أعظم أبواب المجاهدة في دين الله ربّ العالمين و جرّب تعرف أن تكون حافظا للسانك و أن تكون ظابطا للفظك هذا من أكبر و أعظم أبواب المجاهدة في دين الله رب العالمين و الناس يجرون في هذا الأمر على طبعهم و الله المستعان و عليه التكلان و صلى الله و سلم على نبينا محمد و صلى الله على نبينا و على آله و سلم
قمت بفضل الله و كرمه الإنتهاء من تفريغ مادة هده المحاظرة يوم الجمعة 03/10/2008