بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله و على صحبة و من والاه
أما بعد:
قد يظهر هذا العنوان استفزازي لمن قرأ حول الصداقة، لكن هذه حقيقة متيقنة و مجربة، و هي مما يؤكد على ضرورة الاعتدال في كل شيء، فإنك لما تقرأ في باب الصداقة و الصحبة تجد الكلام حول مدح الصداقة و كيفية التعامل مع الأصدقاء و كيفية الاختيار و هذا الكلام يتعلق بالظاهر وهو صحيح، لكن هاك كلاما نفيسا من عالم رباني عبقري، تقي زاهد و ورع قال كلامه هذا بعد مرور زمن كبير من عمره مما يظهر من مقدمته في الكتاب:
فقد جاء في كتاب السير و الأخلاق في مداواة النفوس لابن حزم رحمه الله قوله :
"... من امتحن بأن يخالط الناس، فلا يلق بوهمه كله إلى من صحب، ولا يبن منه إلا على أنه عدو مناصب، ولا يصبح كل غداة إلا وهو مترقب من غدر إخوانه، وسوء معاملتهم، مثل ما يترقب من العدو المكاشف، فإن سلم من ذلك فلله الحمد. وإن كانت الأخرى، ألفي متأهبا ولم يمت هما. وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة وأصفاني إياها غاية الصفاء، في حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق، والغضب والرضى، تغير علي أقبح تغير بعد اثني عشر عاما متصلة في غاية الصفاء، ولسبب لطيف جدا ما قدرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هما شديدا.
ولكن لا تستعمل مع هذا سوء المعاملة، فتلحق بذوي الشرارة من الناس، وأهل الحب منهم. ولكن ها هنا طريق وعرة المسلك، شاقة المتكلف، يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا، واحذر من العقعق، حتى يفارق الناس راحلا إلى ربه تعالى، وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا، يجوز صاحبها صفاء نيات ذوي النفوس السليمة، والعقود الصحيحة البرآء من المكر والخديعة.
ويحوي فضائل الأبرار، وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامه الدهاة، وتخلص الخبثاء ذوي النكراء والدهاء، وهي أن تكتم سر كل من وثق بك، وأن لا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم، من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه، وإن كان أخص الناس بك، وأن تفي لجميع من أئتمنك، ولا تأمن أحدا على شيء من أمرك تشفق عليه، إلا لضرورة لا بد منها، فارتد حينئذ واجتهد، وعلى الله تعالى الكفاية.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، وإن لم يعتمدك بالرغبة، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك، وساع عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. وعامل كل أحد في الأنس أحسن معاملة، وأضمر السلو عنه إن فات ببعض الآفات التي تأتي مع مرور الأيام والليالي، تعش مسالما مستريحا.
لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل إستعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذل المعروف..." انتهى
لكن عليكم إخواني أن تتدبروا كلامه جيدا، فهو لم يزهد في الصداقة بل نبهنا لكيفية التعامل باطنا مع الأصدقاء حتى لا نتفا جئ
و لقد صدق رحمه الله فقد جاء الحديث بذلك : قال صلى الله عليه و سلم : "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما و ابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما" صححه الألباني رحمه الله في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (حديث 472) .
و لبيان ذلك أحببت أن أنقل كلام المناوي في فيض القدير حول هذا الحديث، قال رحمه الله :
"... أي ربما انقلب ذلك بتغيير الزمان والأحوال بغضا فلا تكون قد أسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته أو حبا فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحي منه إذا أحببته ذكره ابن الأثير وقال ابن العربي : معناه أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن فقد يعود الحبيب بغيضا وعكسه فإذا أمكنته من نفسك حال الحب عاد بغيضا كان لمعالم مضارك أجدر لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار وقال عمر رضي الله تعالى عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وعليه أنشد هدبة بن خشرم :
وأبغض إذا أبغـضت بغضا مقاربًــا ***فـإنـك لا تـدري مـتى أنـت راجــعُ
وكن معدنا للخير واصفح عن الأذى ***فــإنــك راءٍ مـا عـمـلـت وســامــعُ
وأحـبب إذا أحببت حـبـًّـا مـقـاربـًـا *** فــإنـك لا تدري مـتى أنـت نــازعُ
ولهذا قال الحسن البصري أحبوا هونا وأبغضوا هونا فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا ..." انتهى
أسأل الله لنا جميعا الفائدة
و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه
أما بعد:
قد يظهر هذا العنوان استفزازي لمن قرأ حول الصداقة، لكن هذه حقيقة متيقنة و مجربة، و هي مما يؤكد على ضرورة الاعتدال في كل شيء، فإنك لما تقرأ في باب الصداقة و الصحبة تجد الكلام حول مدح الصداقة و كيفية التعامل مع الأصدقاء و كيفية الاختيار و هذا الكلام يتعلق بالظاهر وهو صحيح، لكن هاك كلاما نفيسا من عالم رباني عبقري، تقي زاهد و ورع قال كلامه هذا بعد مرور زمن كبير من عمره مما يظهر من مقدمته في الكتاب:
فقد جاء في كتاب السير و الأخلاق في مداواة النفوس لابن حزم رحمه الله قوله :
"... من امتحن بأن يخالط الناس، فلا يلق بوهمه كله إلى من صحب، ولا يبن منه إلا على أنه عدو مناصب، ولا يصبح كل غداة إلا وهو مترقب من غدر إخوانه، وسوء معاملتهم، مثل ما يترقب من العدو المكاشف، فإن سلم من ذلك فلله الحمد. وإن كانت الأخرى، ألفي متأهبا ولم يمت هما. وأنا أعلمك أن بعض من خالصني المودة وأصفاني إياها غاية الصفاء، في حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق، والغضب والرضى، تغير علي أقبح تغير بعد اثني عشر عاما متصلة في غاية الصفاء، ولسبب لطيف جدا ما قدرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمني ذلك سنين كثيرة هما شديدا.
ولكن لا تستعمل مع هذا سوء المعاملة، فتلحق بذوي الشرارة من الناس، وأهل الحب منهم. ولكن ها هنا طريق وعرة المسلك، شاقة المتكلف، يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا، واحذر من العقعق، حتى يفارق الناس راحلا إلى ربه تعالى، وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا، يجوز صاحبها صفاء نيات ذوي النفوس السليمة، والعقود الصحيحة البرآء من المكر والخديعة.
ويحوي فضائل الأبرار، وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامه الدهاة، وتخلص الخبثاء ذوي النكراء والدهاء، وهي أن تكتم سر كل من وثق بك، وأن لا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم، من سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه، وإن كان أخص الناس بك، وأن تفي لجميع من أئتمنك، ولا تأمن أحدا على شيء من أمرك تشفق عليه، إلا لضرورة لا بد منها، فارتد حينئذ واجتهد، وعلى الله تعالى الكفاية.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه، وإن لم يعتمدك بالرغبة، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك، وساع عليك، فإن ذوي التراكيب الخبيثة، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم. وعامل كل أحد في الأنس أحسن معاملة، وأضمر السلو عنه إن فات ببعض الآفات التي تأتي مع مرور الأيام والليالي، تعش مسالما مستريحا.
لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل إستعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة، وبذل المعروف..." انتهى
لكن عليكم إخواني أن تتدبروا كلامه جيدا، فهو لم يزهد في الصداقة بل نبهنا لكيفية التعامل باطنا مع الأصدقاء حتى لا نتفا جئ
و لقد صدق رحمه الله فقد جاء الحديث بذلك : قال صلى الله عليه و سلم : "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما و ابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما" صححه الألباني رحمه الله في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (حديث 472) .
و لبيان ذلك أحببت أن أنقل كلام المناوي في فيض القدير حول هذا الحديث، قال رحمه الله :
"... أي ربما انقلب ذلك بتغيير الزمان والأحوال بغضا فلا تكون قد أسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته أو حبا فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحي منه إذا أحببته ذكره ابن الأثير وقال ابن العربي : معناه أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن فقد يعود الحبيب بغيضا وعكسه فإذا أمكنته من نفسك حال الحب عاد بغيضا كان لمعالم مضارك أجدر لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار وقال عمر رضي الله تعالى عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وعليه أنشد هدبة بن خشرم :
وأبغض إذا أبغـضت بغضا مقاربًــا ***فـإنـك لا تـدري مـتى أنـت راجــعُ
وكن معدنا للخير واصفح عن الأذى ***فــإنــك راءٍ مـا عـمـلـت وســامــعُ
وأحـبب إذا أحببت حـبـًّـا مـقـاربـًـا *** فــإنـك لا تدري مـتى أنـت نــازعُ
ولهذا قال الحسن البصري أحبوا هونا وأبغضوا هونا فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا ..." انتهى
أسأل الله لنا جميعا الفائدة
و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه