تمثيل ابن قدامة أحوال الناس في عبورهم إلى دار الخزي أو دار المقامة ( تمثيل بليغ)
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإذا علم الإنسان سبب وجوده في هذه الحياة الدنيا، وهو تحقيق التوحيد وعبادة الله عز وجل، وأن الموت يطارده وهو مدركه لا محالة، شمر عن ساعد الجد، وتجشم الصعاب، للوصول إلى أعلى الدرجات، وعمل لما بعد الموت، ومن غفل أو تناسى أو تكاسل وأخلد إلى الراحة، فربما انحط في أسفل الدركات، وعاش عيشة الحيوانات.
ففرق كبير بين من يلتقط الغالي والنفيس وبين من يقع على الحجر والحقير، وأحوال الناس في هذه الدنيا كما يصورهم ابن قدامة رحمه الله على ثلاثة أقسام:
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله في ((الوصية المباركة)) (ص 78-86): ((وإنني قد خطر لي أن أمثل هذه الدنيا وأهلها كمثل أهل سفينة ألقتهم الريح إلى جزيرة في البحر، فيها معادن الجواهر، كلها من الياقوت والزمرد والزبرجد والبلور والمرجان والدر واللؤلؤ وما دون ذلك إلى العقيق والسيح ثم بعد ذلك زلف وحجارة مما لا قيمة لها، وفيها أنهار وبساتين، وفي الجزيرة حمى الملك قد حد له حدوداً وأحاط عليه حائطاً فيه خزائن للملك وإماء وولدان. فنزل أهل السفينة في الجزيرة، وقيل لهم: إن مقامكم بها يوم وليلة، فاغتنموا مدتكم القصيرة فيما أمكنكم من هذه الجواهر الكثيرة: فأما الحازمون فأسرعوا إلى تلك الجواهر ينتقون منها، ويحملونه إلى مخازنهم في السفينة، ويجدون، ويجتهدون، فإذا تعبوا تذكروا قدر تلك الجواهر التي يحصلونها، وكثرة قيمتها، وقلة مقامهم في تلك الجزيرة، وأنهم عن قليل راحلون منها، لا يقدرون على الازدياد، فرفضوا الراحة، وتركوا الدعة، وأقبلوا على الجد والاجتهاد، وإن عرض لهم النوم تذكروا ذلك، فذهب عنهم لذة النوم والكرى، وتمثلوا: عند الصباح يحمد القوم السرى.
وأما آخرون فأخذوا من الجواهر شيئاً، واستراحوا في أوقات الراحة، وناموا في أوقات النوم.
وأما فرقة أخرى فلم يعرضوا للجواهر أصلاً، وآثروا النوم، والراحة، والتفرج. ومنهم قوم على جمع الزلف، والحزف، والحجارة، والشقف. وقوم أقبلوا على اللعب والنزهات، وتشاغلوا باللذات، وسماع الحكايات المطربات، وقالوا: ذرة منقودة خير من درة موعودة.
والفرقة الثالثة عدلوا إلى حمى الملك فطافوا به، فلم يجدوا له باباً، ففتحوا لهم فيه ثلماً، واقتحموه ففتحوا خزائن الملك، وكسروا أبوابها، وانتهبوا منها، وعبثوا بجواري الملك والولدان، وقالوا: ليس لنا دار غير هذه الدار، وأقاموا على ذلك حتى ذهبت مدة المقام، وضربت كؤوس الرحيل، ونودي بالتحويل بل بالحث والتعجيل.
فأما الدين حصلوا الجواهر فرحلوا مغتبطين ببضائعهم، لا يأسون على المقام إلا للازدياد مما كانوا فيه.
وأما الفرقة الثانية فاشتد جزعهم لعدم استبضاعهم، وكثرة تفريطهم، وقلة زادهم، وتركهم ما عمروه، وارتحالهم إلى ما أخربوه.
وأما الفرقة الثالثة فكانوا أشد جزعاً، وأعظم مصيبة، وقيل لهم: لا ندعكم حتى نحملكم ما أخرجتم من خزائن الملك في أعناقكم وعلى ظهوركم، فارتحلوا على هذه الصفة حتى وردوا مدينة الملك العظمى، فنودي في المدينة أنه قد قدم قوم كانوا في مدينة الجواهر فتلقاهم أهل المدينة وتلقاهم الملك وجنوده فاستنزلوهم وقيل لهم: اعرضوا بضاعتكم على الملك، فأما أهل الجواهر فعرضت بضائعهم، فحمدهم الملك، وقال: أنتم خاصتي، وأهل مجالستي ومحبتي، ولكم ما شئتم من كرامتي، وجعلهم ملوكاً، لهم ما شاءوا، وإن سألوا أعطوا، وإن شفعوا شفعوا، وإن أرادوا شيئاً كان، وقيل لهم: خذوا ما شئتم واحتكموا ما أردتم، فأخذوا القصور، والدور، والجوار، والبساتين، والقرى، والرساتيق، وركبوا المراكب، وسار بين أيديهم وحولهم الولدان، والجنود، وصاروا ملوكاً ينزلون في جوار الملك، ويجالسونه، وينظرون إليه، ويزورونه، ويشفعون إليه فيمن شاءوا، وإن سألوه أعطاهم، وإن ما لم يسألوه ابتدأهم.
وأما الفرقة الثانية فقيل لهم: أين بضائعكم؟ فقالوا: ما لنا بضاعة. قيل لهم: ويحكم أما كنتم في معادن الجواهر؟ أما أنتم وهؤلاء الذين صاروا ملوكاً في موضع واحد؟ قالوا: بلى، ولكنا آثرنا الدعة والنوم، وقال بعضهم: اشتغلنا ببناء الدور والمساكن، وقال بعضهم: اشتغلنا بجمع الزلف والشقف. فقيل لهم: تباً لكم أما علمتم قلة مقامكم، ونفاسة الجواهر التي عندكم، أما علمتم أن تلك ليست لكم بدار مقام، ولا محل منام، أما أيقظكم الأيقاظ، أما وعظكم الوعاظ؟ قالوا: بلى، والله قد علمنا فتجاهلنا، وأوقظنا فتناومنا، وسمعنا فتصاممنا. فقيل لهم: تباً لكم آخر الدهر، فعضوا أيديهم ندماً، وبكوا على التفريط بعد الدموع دماً، وبقوا آسفين متحيرين، ووقفوا منتظرين أن يتصدق عليهم بعض الذين صاروا ملوكاً بشفاعة، أو يتكلم لهم عند الملك بكلمة.
أما الفرقة الثالثة: فجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم يائسين، مبلسين حيارى، سكارى، قد زلت بهم القدم، وحل بهم الندم، ونزل بهم الألم، وافتضحوا عند الأمم، فأبعدهم الملك عن داره، وطردهم من جواره، وأمر بهم إلى السجن فجروا إليه، قد أيقنوا بالعذاب، وجل أمرهم عن العتاب، {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} [فصلت: 24].
فانظر - رحمكم الله - إلى تفاوت ما بين المنزلتين، وما حصل من الفرق بين الفريقين بالصبر في تلك المدة اليسيرة؛ التي أقاموا في الجزيرة، فهذا تقريب مثال الدنيا، ومن عمل بالطاعة، ومن استوعبها بالتفريط والإضاعة)) اهـ.
فتصور هذا المثل أمامك كلما فترت وتكاسلت، واستعد للقاء فهو قريب إما اليوم أو غدا، واعمل لما بعد الموت، واعلم أن المصير إما لجنة النعيم، أو لدار الجحيم.
هذا والله أعلم وبالله التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول سنة 1439 هـ
الموافق لـ: 6 فبراير سنة 2018 ف