الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أهله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فقد شرعت معانقة القادم من السفر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما قدم جعفر من الحبشة عانقه النبي صلى الله عليه و سلم).
أخرجه أبو يعلى في ((المسند)) وأودعه الإمام الألباني في ((الصحيحة)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، و إذا قدموا من سفر تعانقوا).
أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) وحسنه الإمام الألباني.
وعن الشعبي قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا صافحوا، فإذا قدموا من سفر عانق بعضهم بعضا).
أخرجه البيهقي في ((الكبرى)) و ((الشعب)) و ((الآداب)) وحسن إسناده الإمام الألباني.
وفي رواية عند الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) بلفظ (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا، إذا التقوا، تصافحوا، وإذا قدموا من سفر، تعانقوا).
وفي رواية عند ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) بلفظ (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدموا من سفر تعانقوا).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب.
فقال: ابن عبد الله ؟
قلت: نعم.
فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني و اعتنقته.
أخرجه البخاري في ((الإخوان)) و أحمد وقال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)): و إسناده حسن كما قال الحافظ ( 1 / 195 ) و علقه البخاري.
وعن معاذة، قالت: (كان أصحاب صلة إذا التقوا عانق بعضهم بعضا).
أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) وإسناد رجاله ثقات غير أبي بكر بن مالك وهو: القطيعي، قال ابن حجر في ((اللسان)): صدوق في نفسه مقبول تغير قليلا.
وله متابع أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) بإسناد رجاله ثقات قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، عن معاذة العدوية، قالت: (كان أصحاب صلة بن أشيم إذا دخلوا عليه يلتزم بعضهم بعضا).
وكذلك يشرع المعانقة أحيانا في الحضر.
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ' خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة رضي الله عنها فقال لكع أثم لكع يعني حسنا فظننا أنه إنما تحسبه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتق كل واحد منهما صاحبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه '.
قال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)): ((و لهذا كنت أتحرج من المعانقة في الحضر، و بخاصة أنني كنت خرجت في المجلد الأول من هذه " السلسلة " ( رقم 160 ) حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن الانحناء و الالتزام و التقبيل. ثم لما جهزت المجلد لإعادة طبعه، و أعدت النظر في الحديث، تبين لي أن جملة " الالتزام " ليس لها ذكر في المتابعات أو الشواهد التي بها كنت قويت الحديث، فحذفتها منه كما سيرى في الطبعة الجديدة من المجلد إن شاء الله، و قد صدر حديثا و الحمد لله. فلما تبين لي ضعفها زال الحرج و الحمد لله، و بخاصة حين رأيت التزام ابن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث خروجه صلى الله عليه وسلم إلى منزله رضي الله عنه الثابت في " الشمائل المحمدية " ( رقم 113 ص 79 – مختصر الشمائل ) و لكن هذا إنما يدل على الجواز أحيانا، و ليس على الالتزام والمداومة كما لو كان سنة، كما هو الحال في المصافحة فتنبه. و قد رأيت للإمام البغوي رحمه الله كلاما جيدا في التفريق المذكور و غيره، فرأيت من تمام الفائدة أن أذكره هنا، قال رحمه الله في " شرح السنة " ( 12 / 293 ) بعد أن ذكر حديث جعفر و غيره مما ظاهره الاختلاف: " فأما المكروه من المعانقة والتقبيل، فما كان على وجه الملق و التعظيم، و في الحضر، فأما المأذون فيه فعند التوديع و عند القدوم من السفر، و طول العهد بالصاحب و شدة الحب في الله. و من قبل فلا يقبل الفم، و لكن اليد و الرأس و الجبهة. و إنما كره ذلك في الحضر فيما يرى لأنه يكثر و لا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم، و ظنوا أنه قصر بحقوقهم، و آثر عليهم، و تمام التحية المصافحة ". و اعلم أنه قد ذهب بعض الأئمة كأبي حنيفة و صاحبه محمد إلى كراهة المعانقة، حكاه عنهما الطحاوي خلافا لأبي يوسف. و منهم الإمام مالك، ففي " الآداب الشرعية " ( 2 / 278 ): " و كره مالك معانقة القادم من سفر، وقال: " بدعة "، و اعتذر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بجعفر حين قدم، بأنه خاص له، فقال له سفيان: ما تخصه بغير دليل، فسكت مالك. قال القاضي: وسكوته دليل لتسليم قول سفيان و موافقته، و هو الصواب حتى يقوم دليل التخصيص")) اهـ.
أما ما أخرجه أبو داود في ((سننه)) وغيره عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر حيث سير من الشام إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أخبرك به إلا أن يكون سرا قلت إنه ليس بسر هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصافحكم إذا لقيتموه قال ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل لي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود.
فالحديث ضعفه الإمام الألباني.
المعانقة تكون باليمين.
والمشروع أن تكون المعانقة باليمين وهو أن تضع عنقك من جهة اليمن على جهة اليمن من عنق مَن تعانق.
والدليل عموم الحديث فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه في ظهوره وترجله وتنعله). متفق عليه.
وكذلك قياسا على المصافحة والسنة فيها أن تكون باليمين.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)): ((كذلك المصافحة يصافح باليمين ولا يصافح باليسار فإن مد إليك يده اليسرى للمصافحة فلا تصافحه اهجره لأنه خالف السنة إلا إذا كانت اليد اليمنى شلاء لا يستطيع أن يحركها فهذا عذر)) اهـ.
وقد بوب النووي رحمه الله في ((رياض الصالحين)): استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم.
ثم قال: ((كالوضوء والغسل والتيمم، ولبس الثوب والنعل والخف والسراويل ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والخروج من الخلاء، والأخذ والعطاء وغير ذلك مما هو في معناه)) اهـ.
ولا شك أن المعانقة في معناه.
والقياس المعانقة على المصافحة يقتضيه؛ ولم أجد حديثا صحيحا يخص مشروعية المصافحة باليمين غير ما أتي من حديث عائشة رضي الله عنها وغيره من استحباب البدء باليمين في كل ما هو من باب التطييب والتكريم.
أما ما يروى عن أبي رهم أنه سمع أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - يقول: (إنه ليس من أهل مجلس يذكرون فيه من اللغو و الباطل حتى يلتزم بعضهم بعضا بالرؤوس، ثم يقومون، فيقولون: نستغفر الله و نتوب إليه إلا غفر الله لهم ما أحدثوه في المجلس).
في إسناده ابن لهيعة ضعيف كما في ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) لابن حجر.
وقد ذكر القاضي المهلب بن أبي صفرة التميمي المالكي الأندلسي رحمه الله في كتابه ((المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح )) بعد أن ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال القاضي المهلب: وخرجه في: الأخذ باليمين في المعانقة.
وهذا لم أجده عند غيره.
وقد جاء في الجامع الصحيح للبخاري رحمه الله: باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت.
قال العلامة ابن المنيّر رحمه الله في ((المتواري على أبواب البخاري)): ((المعانقة ترجم عليها، ولم يذكر حديثها. وإن كان قد ذكر معانقة النبي للحسن في غير هذا الكتاب. ذكره في باب (ما ذكر في الأسواق) وكان الذي منعه من ذكره ههنا أن عادته لا يكرر الحديث، إلا إذا اختلفت ألفاظه، أو إسناده. فلما لم يجد لهذا الحديث عنده إسناداً آخر كان في مهلة التماسه فاحترم قبل ذلك. و الله أعلم)) اهـ.
والسنة في المعانقة أن تكون باليمن لما سبق بيانه، هذا ما حدثنا به شيخنا الفاضل محمد الأنقر حفظه الله عن الشيخ العلامة محمد بن هادي المدخلي حفظه الله.
أما ما جاء عن أول من عانق.
قال السفاريني رحمه الله في ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)): ((أول من صافح وعانق سيدنا إبراهيم خليل الله الرحمن الرحيم. كما في مثير الغرام والأنس الجليل والأوائل.
وذلك أنه لما اجتمع عليه الإسكندر الأكبر، في الحرم المكي المفضل الموقر، صافحه خليل الرحمن، وعانقه وقبله بين عينيه قبل المفارقة، وأعطاه الراية وعممه، وأهداه للخير وعممه، وتشرع الإسكندر بشريعته، ودخل معه في ملته.
وقد بينت ذلك في كتابي الجواب المحرر، في الخضر والإسكندر)) اهـ.
ولم أجد في هذا الباب إلا حديثا ضعيفا أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) عن تميم الداري قال: سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن معانقة الرجل الرجل إذا هو لقيه ؟
فقال: ((كانت تحية الأمم وخالص ودهم: وأول من عانق إبراهيم عليه السلام)).
قال العقيلي في ((ضعفاء)): ((سليمان وعمر مجهولان، والحديث غير محفوظ.
ثم قال: وقد تابعه من هو نحوه أو دونه وليس له رواية من طريق يثبت)) اهـ.
وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)): ((عند ترجمة عمر بن حفص بن محبر.
قلت: لعل الآفة منه في رفعه، فيحتمل أنه موقوف)) اهـ.
هذا و الله أعلم، وب الله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 27 رجب سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 24 أبريل سنة 2017 ف
أما بعد:
فقد شرعت معانقة القادم من السفر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما قدم جعفر من الحبشة عانقه النبي صلى الله عليه و سلم).
أخرجه أبو يعلى في ((المسند)) وأودعه الإمام الألباني في ((الصحيحة)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، و إذا قدموا من سفر تعانقوا).
أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) وحسنه الإمام الألباني.
وعن الشعبي قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا صافحوا، فإذا قدموا من سفر عانق بعضهم بعضا).
أخرجه البيهقي في ((الكبرى)) و ((الشعب)) و ((الآداب)) وحسن إسناده الإمام الألباني.
وفي رواية عند الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) بلفظ (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا، إذا التقوا، تصافحوا، وإذا قدموا من سفر، تعانقوا).
وفي رواية عند ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) بلفظ (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدموا من سفر تعانقوا).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب.
فقال: ابن عبد الله ؟
قلت: نعم.
فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني و اعتنقته.
أخرجه البخاري في ((الإخوان)) و أحمد وقال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)): و إسناده حسن كما قال الحافظ ( 1 / 195 ) و علقه البخاري.
وعن معاذة، قالت: (كان أصحاب صلة إذا التقوا عانق بعضهم بعضا).
أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) وإسناد رجاله ثقات غير أبي بكر بن مالك وهو: القطيعي، قال ابن حجر في ((اللسان)): صدوق في نفسه مقبول تغير قليلا.
وله متابع أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) بإسناد رجاله ثقات قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، عن معاذة العدوية، قالت: (كان أصحاب صلة بن أشيم إذا دخلوا عليه يلتزم بعضهم بعضا).
وكذلك يشرع المعانقة أحيانا في الحضر.
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ' خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة رضي الله عنها فقال لكع أثم لكع يعني حسنا فظننا أنه إنما تحسبه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتق كل واحد منهما صاحبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه '.
قال الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)): ((و لهذا كنت أتحرج من المعانقة في الحضر، و بخاصة أنني كنت خرجت في المجلد الأول من هذه " السلسلة " ( رقم 160 ) حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن الانحناء و الالتزام و التقبيل. ثم لما جهزت المجلد لإعادة طبعه، و أعدت النظر في الحديث، تبين لي أن جملة " الالتزام " ليس لها ذكر في المتابعات أو الشواهد التي بها كنت قويت الحديث، فحذفتها منه كما سيرى في الطبعة الجديدة من المجلد إن شاء الله، و قد صدر حديثا و الحمد لله. فلما تبين لي ضعفها زال الحرج و الحمد لله، و بخاصة حين رأيت التزام ابن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث خروجه صلى الله عليه وسلم إلى منزله رضي الله عنه الثابت في " الشمائل المحمدية " ( رقم 113 ص 79 – مختصر الشمائل ) و لكن هذا إنما يدل على الجواز أحيانا، و ليس على الالتزام والمداومة كما لو كان سنة، كما هو الحال في المصافحة فتنبه. و قد رأيت للإمام البغوي رحمه الله كلاما جيدا في التفريق المذكور و غيره، فرأيت من تمام الفائدة أن أذكره هنا، قال رحمه الله في " شرح السنة " ( 12 / 293 ) بعد أن ذكر حديث جعفر و غيره مما ظاهره الاختلاف: " فأما المكروه من المعانقة والتقبيل، فما كان على وجه الملق و التعظيم، و في الحضر، فأما المأذون فيه فعند التوديع و عند القدوم من السفر، و طول العهد بالصاحب و شدة الحب في الله. و من قبل فلا يقبل الفم، و لكن اليد و الرأس و الجبهة. و إنما كره ذلك في الحضر فيما يرى لأنه يكثر و لا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم، و ظنوا أنه قصر بحقوقهم، و آثر عليهم، و تمام التحية المصافحة ". و اعلم أنه قد ذهب بعض الأئمة كأبي حنيفة و صاحبه محمد إلى كراهة المعانقة، حكاه عنهما الطحاوي خلافا لأبي يوسف. و منهم الإمام مالك، ففي " الآداب الشرعية " ( 2 / 278 ): " و كره مالك معانقة القادم من سفر، وقال: " بدعة "، و اعتذر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بجعفر حين قدم، بأنه خاص له، فقال له سفيان: ما تخصه بغير دليل، فسكت مالك. قال القاضي: وسكوته دليل لتسليم قول سفيان و موافقته، و هو الصواب حتى يقوم دليل التخصيص")) اهـ.
أما ما أخرجه أبو داود في ((سننه)) وغيره عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر حيث سير من الشام إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أخبرك به إلا أن يكون سرا قلت إنه ليس بسر هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصافحكم إذا لقيتموه قال ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل لي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود.
فالحديث ضعفه الإمام الألباني.
المعانقة تكون باليمين.
والمشروع أن تكون المعانقة باليمين وهو أن تضع عنقك من جهة اليمن على جهة اليمن من عنق مَن تعانق.
والدليل عموم الحديث فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه في ظهوره وترجله وتنعله). متفق عليه.
وكذلك قياسا على المصافحة والسنة فيها أن تكون باليمين.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)): ((كذلك المصافحة يصافح باليمين ولا يصافح باليسار فإن مد إليك يده اليسرى للمصافحة فلا تصافحه اهجره لأنه خالف السنة إلا إذا كانت اليد اليمنى شلاء لا يستطيع أن يحركها فهذا عذر)) اهـ.
وقد بوب النووي رحمه الله في ((رياض الصالحين)): استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم.
ثم قال: ((كالوضوء والغسل والتيمم، ولبس الثوب والنعل والخف والسراويل ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والخروج من الخلاء، والأخذ والعطاء وغير ذلك مما هو في معناه)) اهـ.
ولا شك أن المعانقة في معناه.
والقياس المعانقة على المصافحة يقتضيه؛ ولم أجد حديثا صحيحا يخص مشروعية المصافحة باليمين غير ما أتي من حديث عائشة رضي الله عنها وغيره من استحباب البدء باليمين في كل ما هو من باب التطييب والتكريم.
أما ما يروى عن أبي رهم أنه سمع أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - يقول: (إنه ليس من أهل مجلس يذكرون فيه من اللغو و الباطل حتى يلتزم بعضهم بعضا بالرؤوس، ثم يقومون، فيقولون: نستغفر الله و نتوب إليه إلا غفر الله لهم ما أحدثوه في المجلس).
في إسناده ابن لهيعة ضعيف كما في ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) لابن حجر.
وقد ذكر القاضي المهلب بن أبي صفرة التميمي المالكي الأندلسي رحمه الله في كتابه ((المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح )) بعد أن ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال القاضي المهلب: وخرجه في: الأخذ باليمين في المعانقة.
وهذا لم أجده عند غيره.
وقد جاء في الجامع الصحيح للبخاري رحمه الله: باب المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت.
قال العلامة ابن المنيّر رحمه الله في ((المتواري على أبواب البخاري)): ((المعانقة ترجم عليها، ولم يذكر حديثها. وإن كان قد ذكر معانقة النبي للحسن في غير هذا الكتاب. ذكره في باب (ما ذكر في الأسواق) وكان الذي منعه من ذكره ههنا أن عادته لا يكرر الحديث، إلا إذا اختلفت ألفاظه، أو إسناده. فلما لم يجد لهذا الحديث عنده إسناداً آخر كان في مهلة التماسه فاحترم قبل ذلك. و الله أعلم)) اهـ.
والسنة في المعانقة أن تكون باليمن لما سبق بيانه، هذا ما حدثنا به شيخنا الفاضل محمد الأنقر حفظه الله عن الشيخ العلامة محمد بن هادي المدخلي حفظه الله.
أما ما جاء عن أول من عانق.
قال السفاريني رحمه الله في ((غذاء الألباب شرح منظومة الآداب)): ((أول من صافح وعانق سيدنا إبراهيم خليل الله الرحمن الرحيم. كما في مثير الغرام والأنس الجليل والأوائل.
وذلك أنه لما اجتمع عليه الإسكندر الأكبر، في الحرم المكي المفضل الموقر، صافحه خليل الرحمن، وعانقه وقبله بين عينيه قبل المفارقة، وأعطاه الراية وعممه، وأهداه للخير وعممه، وتشرع الإسكندر بشريعته، ودخل معه في ملته.
وقد بينت ذلك في كتابي الجواب المحرر، في الخضر والإسكندر)) اهـ.
ولم أجد في هذا الباب إلا حديثا ضعيفا أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الإخوان)) عن تميم الداري قال: سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن معانقة الرجل الرجل إذا هو لقيه ؟
فقال: ((كانت تحية الأمم وخالص ودهم: وأول من عانق إبراهيم عليه السلام)).
قال العقيلي في ((ضعفاء)): ((سليمان وعمر مجهولان، والحديث غير محفوظ.
ثم قال: وقد تابعه من هو نحوه أو دونه وليس له رواية من طريق يثبت)) اهـ.
وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)): ((عند ترجمة عمر بن حفص بن محبر.
قلت: لعل الآفة منه في رفعه، فيحتمل أنه موقوف)) اهـ.
هذا و الله أعلم، وب الله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 27 رجب سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 24 أبريل سنة 2017 ف