بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فعداوة إبليس قديمة منذ أن أُمر بالسجود لأبينا آدم - عليه الصلاة والسلام - فامتنع وأبى واستكبر؛ قال الله تعالى: {ِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وهذه العداوة من إبليس وجنده مستمرة لأبناء آدم - عليه الصلاة والسلام - منذ ولادتهم وبدء حياتهم إلى مماتهم، والشيطان أشد ما يكون حريصا على إضلال العبد عند ساعة الاحتضار.
أخرج الشبلي في ((آكام المرجان في أحكام الجان)) عن صفوان عن بعض الأشياخ قال: (الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من افتتانه إياه في الدنيا).
فيا عبد الله مادامت روحك في جسدك والشيطان لك بالمرصاد؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)).
رواه أحمد والحاكم وحسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)).
وأخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)).
قال الخطابي رحمه الله كما في ((عون المعبود)): ((وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت يقول لأعوانه دونكم هذا فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم)) اهـ
وقال ابن الجوزي رحمه الله في ((الثبات عند الممات)): ((وقد يعرض إبليس للمريض والمحتضر فيؤذيه في دينه ودنياه وقد روى أبو اليسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من الغرق والحرق والهدم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)).
وفي حديث آخر: ((أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت يقول: لأعوانه دونكموه فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه)).
وقد يستولي على الإنسان حينئذ فيضله في اعتقاده وربما حال بينه وبين التوبة وربما منعه من الخروج من مظلمة أو آيسه من رحمة الله ويقول له قد أقبلت إليك سكرات الموت لا تطيقها الجبال ونزع شديد وقد كان أن يرفق بك ربك فما فائدة هذا التعذيب وستفارق المحبوبات وسيبلي هذا البدن ثم لا يدري أبن المصير فيقع بهذه الوساوس القلق وربما جاء الاعتراض على القدر.
فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدوقة للحرب وحين يحمي الوطيس فينبغي أن يتجلد ويستعين بالله على العدو وليرجع عنه خائبا)) اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله في ((تفسيره)): ((وفي قراءة أبى: ((رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ))؛ أي: يكونوا معي في أموري، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز)) اهـ.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع، وإن الشيطان لأقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده، لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده، لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يألم كل عرق منه على حياله)).
أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) وضعفه الإمام الألباني رحمه الله في ((الضعيفة)) (رقم 2083).
ومن الأدلة التي يستدل بها على حضور الشياطين عند الاحتضار قول الله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98].
قال العلامة المفسر الشنقيطي رحمه الله في ((أضواء البيان)): ((الاستعاذة بالله تعالى من حضور الشيطان في أمرٍ من الأمور كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون. وقد أورد الإمام ابن كثير حديث تخبّط الشيطان عند الموت والذي سبق ذكره، وذلك في معرض تفسيره لهذه الآية)) اهـ.
وقد بوب القرطبي رحمه الله في ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)): (باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته وجلساؤه في الدنيا وما يخاف من سوء الخاتمة).
وبوب الشبلي رحمه الله في ((آكام المرجان في أحكام الجان)): (الباب الرابع والتسعون في بكاء الشيطان على المؤمن لفوات فتنته عند الموت).
ومن القصص التي تذكر في هذا ما أخرجه الشبلي في ((آكام المرجان في أحكام الجان)) عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: (رأيت أبي عند الموت يلهج بقوله: لا بعد لا بعد.
فقلت: يا أبت رأيتك تقول: لا بعد لا بعد فما هذا.
قال: الشيطان واقف عند رأسي يقول: فتنى يا أحمد وأنا أقول: لا بعد لا بعد)) اهـ.
وأخرج البيهقي في ((شعب الإيمان)) قال: قال عطاء بن يسار رحمه الله: أشرق إبليس على رجل في الموت فقال: قد أمنتني.
فقال: ما أمنتك بعد.
وذكر السخاوي رحمه الله في ((الضوء اللامع)) عند ترجمة عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد السلام بن أبي المعالي البهاء الكازروني قال: ((وكانت وفاته بها في يوم الجمعة تاسع عشر شعبان سنة ثمان وصح عن من حضره وقت الاحتضار أنه سمعه وهو في النزع يقول: أنه ما أعرفك يا شيطان أو أنت الشيطان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم فاضت روحه ولعل ذلك ثمرة ذكره لله في الأسحار)) اهـ.
وتجد الشياطين يتمثلون للمسلم عند احتضاره بأبويه ويقولون له مت على اليهودية وبعضهم يقول مت على النصرانية.
قال القرطبي رحمه الله في ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)): ((وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر.
فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فكان يقول: لا لا.
فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي يقول أحدهما: مت يهوديا فإنه خير الأديان والآخر يقول: مت نصرانيا فإنه خير الأديان؛ فكنت أقول لهما: لا لا إلي تقولان هذا؟)) اهـ.
فاجتهد في الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ففيها التحصين من الشيطان الرجيم، وكذلك عليك بسلاح المؤمن وتضرع إلى الله عز وجل أن يحفظك من فتنة الشيطان عند الموت، فعن أبي اليسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا)) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الإمام الألباني.
قال الخطابي رحمه الله كما في ((عون المعبود)):((استعاذته عليه السلام من تخبط الشيطان عند الموت هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله أو يؤيسه من رحمة الله تعالى أو يكره الموت ويتأسف على حياة الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنقلة إلى دار الآخرة فيختم له بسوء ويلقى الله وهو ساخط عليه)) اهـ
وقال الشوكاني رحمه الله في ((تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين)): ((واستعاذ صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان عند الموت، أي: يفتنه ويغلبه على أمره ويحسن له ما هو قبيح ويقبح له ما هو حسن ويناله بشيء من المس كالصرع والجنون ولما قيده بالتخبط عند الموت كان أظهر المعاني فيه هو أن يغويه ويوسوس له ويلهيه عن التثبت بالشهادة والإقرار بالتوحيد)) اهـ.
وقال المناوي رحمه الله في ((فيض القدير)): ((أي يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني أو عقلي عند الموت بنزعاته التي تزل بها الأقدام ، وتصرع العقول والأحلام وقد يستولي على المرء عند فراق الدنيا فيضله أو يمنعه من التوبة و يعوقه عن الخروج عن مظلمة قبله أو يؤيسه من الرحمة أو يكره له الرحمة فيختم له بسوء والعياذ بالله)) اهـ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)).
قال النووي رحمه الله في ((شرح على مسلم)): ((فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا يغتر بما يرينه له)) اهـ.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله كما في ((فتح الباري)): ((فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه)) اهـ.
وقال العلامة المغلطاي رحمه الله في ((شرح ابن ماجه)): ((وقوله: ((من فتنة المحيا والممات))، أي: الحياة والموت ويحتمل زمان ذلك، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاحتضار والمسائلة في القبر)) اهـ.
فنحن في حاجة إلى دعاء ربيا أن يثبتنا على الصراط المستقيم، يجنبنا فتنة الشيطان عند الممات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمن ليُنْضي شياطينه كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر)).
أخرجه أحمد وأدرجه الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)) (رقم 3586).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ((تفسيره)): ((ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره)) اهـ.
وأختم بوصية عظيمة جامعة فيما ينبغي للعبد أن يحاجج به شيطانه عند الاحتضار للحافظ ابن الجوزي رحمه الله قال في كتابه ((الثبات عند الممات)): ((وينبغي للمؤمن أن يجيب الشيطان عن كل شيء قاله بجواب فيقول له: أولا: قد علمت ما فعلت بأبي وعرفت عداوتك لي فما وجه هذا الإشفاق علي.
ثم يجدد التوبة وينظر فيما يوصي به ويخرج عن المظالم ويقضي الديون ويقول للشيطان لا وجه لليأس من رحمة الله)) اهـ.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 20 رجب سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 17 أبريل سنة 2017 ف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فعداوة إبليس قديمة منذ أن أُمر بالسجود لأبينا آدم - عليه الصلاة والسلام - فامتنع وأبى واستكبر؛ قال الله تعالى: {ِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وهذه العداوة من إبليس وجنده مستمرة لأبناء آدم - عليه الصلاة والسلام - منذ ولادتهم وبدء حياتهم إلى مماتهم، والشيطان أشد ما يكون حريصا على إضلال العبد عند ساعة الاحتضار.
أخرج الشبلي في ((آكام المرجان في أحكام الجان)) عن صفوان عن بعض الأشياخ قال: (الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من افتتانه إياه في الدنيا).
فيا عبد الله مادامت روحك في جسدك والشيطان لك بالمرصاد؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)).
رواه أحمد والحاكم وحسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)).
وأخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه)).
قال الخطابي رحمه الله كما في ((عون المعبود)): ((وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت يقول لأعوانه دونكم هذا فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه بعد اليوم)) اهـ
وقال ابن الجوزي رحمه الله في ((الثبات عند الممات)): ((وقد يعرض إبليس للمريض والمحتضر فيؤذيه في دينه ودنياه وقد روى أبو اليسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من الغرق والحرق والهدم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)).
وفي حديث آخر: ((أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت يقول: لأعوانه دونكموه فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه)).
وقد يستولي على الإنسان حينئذ فيضله في اعتقاده وربما حال بينه وبين التوبة وربما منعه من الخروج من مظلمة أو آيسه من رحمة الله ويقول له قد أقبلت إليك سكرات الموت لا تطيقها الجبال ونزع شديد وقد كان أن يرفق بك ربك فما فائدة هذا التعذيب وستفارق المحبوبات وسيبلي هذا البدن ثم لا يدري أبن المصير فيقع بهذه الوساوس القلق وربما جاء الاعتراض على القدر.
فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدوقة للحرب وحين يحمي الوطيس فينبغي أن يتجلد ويستعين بالله على العدو وليرجع عنه خائبا)) اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله في ((تفسيره)): ((وفي قراءة أبى: ((رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ))؛ أي: يكونوا معي في أموري، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز)) اهـ.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع، وإن الشيطان لأقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده، لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده، لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يألم كل عرق منه على حياله)).
أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) وضعفه الإمام الألباني رحمه الله في ((الضعيفة)) (رقم 2083).
ومن الأدلة التي يستدل بها على حضور الشياطين عند الاحتضار قول الله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98].
قال العلامة المفسر الشنقيطي رحمه الله في ((أضواء البيان)): ((الاستعاذة بالله تعالى من حضور الشيطان في أمرٍ من الأمور كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون. وقد أورد الإمام ابن كثير حديث تخبّط الشيطان عند الموت والذي سبق ذكره، وذلك في معرض تفسيره لهذه الآية)) اهـ.
وقد بوب القرطبي رحمه الله في ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)): (باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته وجلساؤه في الدنيا وما يخاف من سوء الخاتمة).
وبوب الشبلي رحمه الله في ((آكام المرجان في أحكام الجان)): (الباب الرابع والتسعون في بكاء الشيطان على المؤمن لفوات فتنته عند الموت).
ومن القصص التي تذكر في هذا ما أخرجه الشبلي في ((آكام المرجان في أحكام الجان)) عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: (رأيت أبي عند الموت يلهج بقوله: لا بعد لا بعد.
فقلت: يا أبت رأيتك تقول: لا بعد لا بعد فما هذا.
قال: الشيطان واقف عند رأسي يقول: فتنى يا أحمد وأنا أقول: لا بعد لا بعد)) اهـ.
وأخرج البيهقي في ((شعب الإيمان)) قال: قال عطاء بن يسار رحمه الله: أشرق إبليس على رجل في الموت فقال: قد أمنتني.
فقال: ما أمنتك بعد.
وذكر السخاوي رحمه الله في ((الضوء اللامع)) عند ترجمة عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد السلام بن أبي المعالي البهاء الكازروني قال: ((وكانت وفاته بها في يوم الجمعة تاسع عشر شعبان سنة ثمان وصح عن من حضره وقت الاحتضار أنه سمعه وهو في النزع يقول: أنه ما أعرفك يا شيطان أو أنت الشيطان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم فاضت روحه ولعل ذلك ثمرة ذكره لله في الأسحار)) اهـ.
وتجد الشياطين يتمثلون للمسلم عند احتضاره بأبويه ويقولون له مت على اليهودية وبعضهم يقول مت على النصرانية.
قال القرطبي رحمه الله في ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)): ((وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر.
فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فكان يقول: لا لا.
فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي يقول أحدهما: مت يهوديا فإنه خير الأديان والآخر يقول: مت نصرانيا فإنه خير الأديان؛ فكنت أقول لهما: لا لا إلي تقولان هذا؟)) اهـ.
فاجتهد في الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ففيها التحصين من الشيطان الرجيم، وكذلك عليك بسلاح المؤمن وتضرع إلى الله عز وجل أن يحفظك من فتنة الشيطان عند الموت، فعن أبي اليسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا)) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الإمام الألباني.
قال الخطابي رحمه الله كما في ((عون المعبود)):((استعاذته عليه السلام من تخبط الشيطان عند الموت هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقته الدنيا فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله أو يؤيسه من رحمة الله تعالى أو يكره الموت ويتأسف على حياة الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنقلة إلى دار الآخرة فيختم له بسوء ويلقى الله وهو ساخط عليه)) اهـ
وقال الشوكاني رحمه الله في ((تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين)): ((واستعاذ صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان عند الموت، أي: يفتنه ويغلبه على أمره ويحسن له ما هو قبيح ويقبح له ما هو حسن ويناله بشيء من المس كالصرع والجنون ولما قيده بالتخبط عند الموت كان أظهر المعاني فيه هو أن يغويه ويوسوس له ويلهيه عن التثبت بالشهادة والإقرار بالتوحيد)) اهـ.
وقال المناوي رحمه الله في ((فيض القدير)): ((أي يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني أو عقلي عند الموت بنزعاته التي تزل بها الأقدام ، وتصرع العقول والأحلام وقد يستولي على المرء عند فراق الدنيا فيضله أو يمنعه من التوبة و يعوقه عن الخروج عن مظلمة قبله أو يؤيسه من الرحمة أو يكره له الرحمة فيختم له بسوء والعياذ بالله)) اهـ.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)).
قال النووي رحمه الله في ((شرح على مسلم)): ((فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للإنسان في تصرفاته فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا يغتر بما يرينه له)) اهـ.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله كما في ((فتح الباري)): ((فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه)) اهـ.
وقال العلامة المغلطاي رحمه الله في ((شرح ابن ماجه)): ((وقوله: ((من فتنة المحيا والممات))، أي: الحياة والموت ويحتمل زمان ذلك، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاحتضار والمسائلة في القبر)) اهـ.
فنحن في حاجة إلى دعاء ربيا أن يثبتنا على الصراط المستقيم، يجنبنا فتنة الشيطان عند الممات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمن ليُنْضي شياطينه كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر)).
أخرجه أحمد وأدرجه الإمام الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)) (رقم 3586).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ((تفسيره)): ((ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره)) اهـ.
وأختم بوصية عظيمة جامعة فيما ينبغي للعبد أن يحاجج به شيطانه عند الاحتضار للحافظ ابن الجوزي رحمه الله قال في كتابه ((الثبات عند الممات)): ((وينبغي للمؤمن أن يجيب الشيطان عن كل شيء قاله بجواب فيقول له: أولا: قد علمت ما فعلت بأبي وعرفت عداوتك لي فما وجه هذا الإشفاق علي.
ثم يجدد التوبة وينظر فيما يوصي به ويخرج عن المظالم ويقضي الديون ويقول للشيطان لا وجه لليأس من رحمة الله)) اهـ.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 20 رجب سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 17 أبريل سنة 2017 ف