الإخلاصُ : سِرُّ العبوديَّة ....
بقلم : علي بن حسن الحلبي الأثري
مِن غُرَرِ دُرَرِ كلماتِ الإمام ابن قيّم الجوزيّةِ – ر حمه الله – قولُهُ (1) :
» لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبّةُ المدحِ والثناء ، والطمعُ فيما عندَ الناس ؛ إلا كما يجتمعُ الماءُ والنّارُ ، والضبُّ والحوتُ :
فإذا حَدَّثَتكَ نفسُكَ بطلبِ الإخلاصِ فَأقبِل على الطَّمعِ – أولاً – فاذبحهُ بسكّينِ اليأس ، وأقبِل على المدحِ والثّناءِ : فازهَد فيهما زُهدَ عُشّاقِ الدُّنيا في الآخرة ، فإذا استقام لكَ ذبحُ الطمعِ والزّهدُ في الثناءِ والمدح : سَهُلَ عليكَ الإخلاص .
فإن قلتَ : وما الذي يُسَهِّلُ عليَّ ذبحَ الطمعِ ، والزُّهدَ في الثناءِ والمدح ؟
قلتُ : أمّا ذبحُ الطمعِ ؛ فيُسهِّلُهُ عليك علمُك – يقيناً – أنّه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيدِ الله – وحدَهُ – خزائنه لا يمتلكها غيرُه ، ولا يؤتي العبدَ منها شيئاً سواهُ .
وأمّا الزهدُ في الثناءِ والمدحِ ؛ فَيُسهِّلُهُ عليكَ علمُكَ أنّهُ ليسَ أحدٌ ينفعُ مدحُهُ ويَزين ، ويضرُّ ذمُّهُ ويَشينُ إلا الله – وحدَه – ؛ كما : إن مدحي زَينٌ ، وذَمّي شَينٌ ، فقال : » ذلكَ الله –rقال الأعرابيُّ للنبيِّ عزَّ وجلّ – «(2) .
فَازْهَد في مدحِ مَن لا يزينُكَ مدحُهُ ، وفي ذمِّ مَن لا يَشينُكَ ذمُّهُ ، وارغبْ في مدحِ مَن كُلُّ الزَّينِ في مدحِهِ ، وكلُّ الشَّينِ في ذمِّه .
ولن يُقدَرَ على ذلكَ إلا بالصبرِ واليقين ؛ فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنت كَمَن أرادَ الســــفرَ في البـــحـــرِ في غـــيرِ مـــركب؛ قـــال –تعالى –: { فاصْــــبِـــر إنَّ وَعْــــدَ اللهِ حــــقٌّ ولا
يســـتخِفنَّكَ الذينَ لا يوقِنونَ }، وقــــال – تعالى – : { وجَـــعَلْنا مــنهم أَئِمةً يهــدونَ بأمـــرِنا لمّا
صَبَروا وكانوا بآياتِنا يوقِنون } « .
أقول :
هذه كلماتٌ عاليات ، وإضاءاتٌ غاليات ؛ كنتُ قرأتُها للمرّةِ الأولى – قديماً جداً –
قبل نحوِ رُبعِ قرنٍ من الزّمان ، وكان لها – وَرَبّي – أثَرٌ كبيرٌ في نَفْسي ؛ تربيةً ، وجهاداً ، وفقهَ نفسٍ .
مع أنَّ المعلومَ –بداهةً– عند كُلِّ ذي نظر – : أنَّ النفسَ الإنسانيةَ كثيراً ما تجمحُ على أصحابها ، وتَجنحُ بأربابِها ؛ مما يستدعي لها المزيدَ من الاهتمام ! والكثيرَ مِن الإصلاح للتّمام !!
فاللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ …
وبعدَ ذي السَنواتِ – كلِّها – نبَّهَني إلى هذه الكلماتِ – مِن جديد – أَحَدُ إخواني الأفاضِل – جزاه الله خيراً – ناصحاً أميناً – ضِمنَ مُناسبةٍ عَرَضَت – نَعَبَ فيها بعضُ الغرابيب ، بكلامٍ غريبٍ عجيب ؛ ذكّرني بما رواه البُخاري في » الأدَب المفرَد « ( 592 ) عن أبيِ هُرَيرة – رضي الله عنه – أنّه قال :
» يُبصِرُ أحدُكم القَذَاةَ في عينِ أخيهِ ، ويَنسى الجِذْعَ – أو الجِذْلَ –في عينيه معترضاً « (1) !!
وَمَعَ ذلك ، فَهأنذا أتحسّسُ قَذاتي ، وأتلمّسُ آفاتي ، وأسالُ ربّي – سبحانهُ – أن يغفرَ لي سَيِّئاتي ، ويستُرَ عليَّ زلاّتي …
ولقد كان الباعثُ لذلكَ التذكيرِ : كلمةً مُهِمّةً سمِعها بعضُ إخواني الأفاضل – منذ سنواتٍ مِن في سماحة أستاذنا الشيخِ العلامةِ أبي عبد الله محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – تعالى : يذكُرُني فيها بثناءٍ علميٍّ – واللهِ – لا أستحقُّه ؛ تأوّلتُها – حينها – عند سماعي لها منه شخصياً – على جميلِ تواضعِه، وحُسن رُوحِه، ورائقِ دُعابتِه – رحمه الله – .
فَنَقلها هذا البعضُ – السّامعُها – إلى غيرِهم ؛ حتى وصلَت – أخيراً – إلى شبكةِ الإنترنت ؛ فما كان مِن الأخِ المُشرِف على موقِعي العلمي الإلكتروني : ( www.alhalaby.com ) – سدّده الله وأيّده – إلا أنْ نقَلَها – باجتِهادِهِ الشخصيِّ – مُصدِّراً بها مقالاً افتتاحياً – له – في الموقِع .
وها هنا موضعُ ذاك التذكير : فـ … حبُّ المدحِ ، والإخلاصُ ، ضِدّان لا يجتمِعان !
نَعَم ؛ مِن أجلِ ذا : يُجاهِدُ الواحدُ فينا نفسَه ؛ كما قالَ ربُّ العالمين : { والذينَ جاهدوا فينا لنهدينّهُم سُبُلَنا } .
لكن ؛ يظهرُ لي – واللهُ أعلم وأجلّ – أن ثمّةَ فَرقاً دقيقاً بين ( المدح ) ، و (حبّ المدح) :
فالأول : قد لا يكونُ لك به صِلةٌ – أصلاً – ولو مع ( الرِّضا ) به – فرعاً –.
وأمّا الثاني : فهو الآفةُ والبليّة ، الذي تتشوّف له النفوسُ غير الغنيّة ؛ والّتي لا ينجو مِن سوادِها إلا القليلُ مِن البريَّة { وما أُبرّئُ نفسي إن النفسَ لأمّارةٌ بالسوء } …
ومِن هذه البَابَةِ – نفسِها – قولُ الإمام ابن القيِّم – نفسه – رحمه الله – في كتابه » الروح « ( ص 368 ) – مفرّقاً بين ( التحدُّث بِنِعَمِ الله )، و ( الفَخْرِ بِها ) – ؛ قال :
» المتحدِّثُ بالنعمةِ مُخبِرٌ عن صفاتِ وليِّها ، وَمَحْضِ جُودِهِ وإحسانِه ؛ فهو مُثْنٍ عليه بإظهارها ، والتحدُّثِ بها ؛ شاكراً له ، ناشِراً لجميعِ ما أولاه ؛ مقصودُه بذلك إظهارُ صفاتِ اللهِ ، ومدحُه ، والثناءُ عليه ، وبعثُ النفسِ على الطلبِ منه دونَ غيره ، وعلى صُحبتِه ورجائِه، فيكون راغباً إلى اللهِ بإظهارِ نِعَمِه ، وَنَشرِها ، والتحدُّثِ بها.
وأمّا الفخرُ بالنِّعَم : فهو أن يستطيلَ بها على الناس ، ويُريَهم أنّه أعزُّ منهم ، وأكبرُ؛
فيركبُ أعناقَهُم ، ويستعبدُ قلوبَهُم ، ويستميلُها إليه بالتعظيمِ والخِدمة ؛ قال النعمانُ بنُ بشير : إن للشيطانِ مَصَالِيَ (1) وفُخوخاً ، وَإنَّ مصاليَه وفخوخَه : البَطَرُ بِنعَم الله ، والكِبْرُ على عبادِ الله ، والفَخْرُ بعطيّةِ الله ، واتِّباعُ الهوى في ذاتِ الله «.
فَإذْ قد بانَ » فرقٌ « بين ( المدحِ ) و ( حبّ المدح ) – وهو لا بدّ ظاهِرٌ – ؛ فها هنا أُمورٌ تتّضح – بذكرِها – بعضُ الأسباب والمسبِّبات – لذلك ( الرِّضا )، دون الإنكار –:
أولُها : أنَّ ( كمّاً ) من الناس ( ! ) تلقَّفوا بعضَ الكلماتِ التي انتقدِ فيها بعضُ
أهلِ العلم شيئاً من كتاباتي ! ثم طاروا بها على غير وجهها ؛ مع أنَّ صنيعَهُم هذا مردودٌ من وجهين :
أ – أنَّ الحُجّةَ في أصلِ ذاك الانتقادِ غيرُ قائمة ؛ وبالتالي : فإن النقدَ – أساساً – غير صحيح .
وفي عددٍ من كتبي ورسائلي بيان ذلك – مُفصّلاً – ، وبخاصةٍ » التنبيهات المتوائمة .. « في مجلّدٍ كبير .
ب- أنَّ هذا النقدَ – لو سلّمنا بهِ ! – فإن إطارَه محدود ، ونِطاقَهُ ضيّق ؛ لكنّ أولئك – الطائرين ! – وسّعوه وبَسَطوه !!! – بغير حقٍّ ، ودونما بيّنة – .
فكان هذا ( الرِّضا ) – ولا أقول : ( الحبّ ) – بهذا المدح – وبخاصةٍ أنّه أتى من غيري – جواباً علمياً ، ورداً عَمَلِياً – على ذلك النقد غير القائم ، فضلاً عن كونه صادراً من عالمٍ جليلٍ معتبرٍ ، هو أجلُّ علماً ، وأرفعُ مكانةً من أولئك المنتقِدين – على فضلِهم – فُرادى ومجتَمعين …
وهذا –فيما أرى – هكذا – معنىً صحيحٌ مُقتبسٌ مِن جملةِ معاني قولِ الله – تعالى –: { والذين إذا أصابهُم البغيُ هم ينتصرون } .
ثانيها : ما علّقه البخاري في » صحيحه « ( 1/258 » التوشيح « ) عن الإمام ربيعةَ ابنِ أبي عبد الرحمن ؛ قال :
» لا ينبغي لأحد عنده شيءٌ من العلم أن يضيّع نفسَه « .
وقد وصلَه الإمام البيهقي في » المدخل « ( 687 ) .
وِمن معانيه – فيما ذكر الحافظُ ابن حجرِ في » فتح الباري « ( 1/ 178 ) – :
» أن يُشهِر العالمُ نفسَه ، ويتصدّى للأخذ عنه ، لئلاّ يضيعَ علمُه «.
وإن كنتُ لا أعدُّ نفسي – وَربِّ السماءِ والأرضِ – إلا طالبَ علمٍ » متّبعاً على سبيل نجاة « (1) …
{ ويعفو عن كثير } ..
مع كونِ ذلك القولِ – من سماحةِ أُستاذِنا الشيخ ابن عثيمين – غيرَ داخلٍ – أصالةً –
في هذا الحَرْفِ الدقيق مِن » إشهارِ النفس « ؛ لا واقعاً ، ولا أثراً …
فتنبّه .
ثالثها : أنَّ ( الرِّضا ) بمثلِ هذا القول – الصادر مِن مثل ذلك العَلَم – في محيطِ هذه الدائرة – لا يخرُجُ – إن شاء الله – عن ( عموم ) هَدْيِ قولِ ربِّ العالمين : { قل موتوا بغيظِكُم }.. لطائفةٍ ( ! ) لم يُجْدِ مَعَها الصَّبْرُ، ولم يَصْلُح فيها العفوُ ..
فَمَن عافاه الله مِن أخلاقِهم : فليس شكٌّ أنه سَيَعْذُرُ مَن ابتُلِيَ بسوئهم ، ومسّه بلاؤهم – مع حمدِه ربَّه على العافية –..
فكيف إذا علِمنا أنَّ واحِداً من هؤلاء السيِّئين – لتناقضهِ الشخصيِّ ، وبلائهِ النفسيِّ – يترفّعُ على أترابِه ، ويستعلي على أصحابِه – متمدِّحاً – بِفَرْدِ إجازة ( ! ) ناوله إياها مقلّدٌ مذهبيٌّ لا يُعرَف ؟!!
وكيف إذا أيقنّا أنَّ آخَرَ – من الفصيلةِ نفسِها! – لا يزال يتشدَّقُ – جَذِلاً، فَرِحاً –
بتزكيةِ زواج ، أو توصيةِ دراسةٍ ؛ نالها – في صباه ! – مِن عالِمٍ ؛ هو الآن يطعنُ في اعتقاده ، ويقطعُ نَفْسَه عَن امتداده ؟!!
وكيف إذا عَرَفْنا (!) ثالثاً – منهُم ! –يهشّ ويبشّ لِتقريظٍ هشّ ؛ على كتابٍ واهنٍ من مُقرِّظٍ واهٍ ؟!!
كُلُّ هذا – وغيره – مُغْمَضَةٌ عنه العينان ، ولا يتناوله اللسان ؛ لأنه وافقَ الهوى، ورافق خفيَّ الشهوة – ممّا يهوى – …
فكيف – باللهِ – لو ( سَنَحَ ) لِواحدٍ مِن أُولاءِ ( ! ) ذلك الثّناءُ العُثَيمينِيُّ – أو مِثلُهُ – ؟! فاللهُ أعلم ماذا سيكونُ منهم ، أو يحلُّ بهم !
وأخيراً – وليس آخراً – كما يقال ! – أنقلُ لنفسي ، ولإخواني المحبّين ، الصادقين الواثقين : دعواتٍ رائقة ؛ رأيتها في ختامِ كتاب » فتح الباري « (1) ( 3/474 ) – وَعظاً وتذكيراً – ؛ فها هي ذي:
» إلهي : لو أردتَ إهانَتَنا لم تهدِنا ، ولو أردتَ فضيحتَنا لم تستُرنا ، فتمِّم اللهمّ ما بهِ بدأتَنا ، ولا تسلُبنا ما بهِ أكْرَمْتَنا .
إلهي : عرّفْتنا بربوبيّتِك ، وغرّقتنا في بحارِ نعمتِك ، ودعوتنا إلى دارِ قُدْسِك ، ونعَّمتنا بذِكرك وأُنسِك .
إلهي : إنّ ظُلمةَ ظلمِنا لأنفسِنا قد عمّت ، وبحارَ الغفلةِ على قلوبنا قد طمّت ؛ فالعجزُ شامل ، والحَصَرُ حاصل ، والتسليمُ أسلَم ، وأنت بالحالِ أعلَم .
إلهي : ما عصيناكَ جَهلاً بعقابِك ، ولا تعرُّضاً لعذابِك ، ولا استخفافاً بنظركِ ؛
ولكن سوَّلَت لنا أنفُسُنا، وأعانَتنا شِقوَتُنا ، وغرَّنا سِترُك علينا، وأطمَعَنا في عفوِك بِرُّك بنا؛ فالآنَ مِن عذابِكَ مَن يستنقِذُنا ؟! وبِحبلِ مَن نعتصمُ إن أنتَ قطعتَ حبلكَ عنّا ؟!
واخَجْلَتَنا من الوقوفِ بين يديك !
وافضيحَتَنا إذا عُرِضَت أعمالُنا القبيحةُ عليك !
اللهم اغفِر ما عَلِمتَ ، ولا تهتِك ما ستَرتَ .
إلهي : إن كنّا قد عصيناك بجهلٍ؛ فقد دعوناك بعقل، حيثُ علمنا أن لنا ربًّا يغفِرُ ولا يبالي .
إلهي : أنتَ أعلمُ بالحالِ والشكوى ، وأنت قادرٌ على كشفِ البلوى .
اللهم يا من سترتَ الزلاّت، وغفرتَ السيِّئات، أجِرنا من مَكرِك، ووفّقنا لشكرِك .
إلهي : أتحرِقُ بالنارِ وَجْهاً كان لك مصلّياً ، ولساناً كان لك ذاكراً أو داعياً ؟!
فارحم – اللهم – عباداً غرَّهُم طولُ إمهالِك ، وأطمَعَهُم كثرةُ أفضالِك ، وذلُّوا لِعِزِّك وجلالك ، ومدّوا أكفَّهم لطلب نوالِك ، ولولا هدايتُك لم يصِلوا إلى ذلك « .
فاللهمّ ارزُقنا الإخلاصَ في القولِ والعَمَل ، واجْعَلنا في عُيونِنا صِغاراً ، وفي عيونِ الناسِ كباراً …
و » رَحِمَ اللهً امْرءاً أهدى إليَّ عُيوبي « .
وأستغفِرًك – اللهمّ – مِن تقصيري وذُنوبي …
{ وَقلِ اعملوا فسيرى اللهُ عملَكُم ورسولُهُ والمؤمنون } .
… وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
منقول من موقع الشيخ علي الحلبي حفظه الله
بقلم : علي بن حسن الحلبي الأثري
مِن غُرَرِ دُرَرِ كلماتِ الإمام ابن قيّم الجوزيّةِ – ر حمه الله – قولُهُ (1) :
» لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبّةُ المدحِ والثناء ، والطمعُ فيما عندَ الناس ؛ إلا كما يجتمعُ الماءُ والنّارُ ، والضبُّ والحوتُ :
فإذا حَدَّثَتكَ نفسُكَ بطلبِ الإخلاصِ فَأقبِل على الطَّمعِ – أولاً – فاذبحهُ بسكّينِ اليأس ، وأقبِل على المدحِ والثّناءِ : فازهَد فيهما زُهدَ عُشّاقِ الدُّنيا في الآخرة ، فإذا استقام لكَ ذبحُ الطمعِ والزّهدُ في الثناءِ والمدح : سَهُلَ عليكَ الإخلاص .
فإن قلتَ : وما الذي يُسَهِّلُ عليَّ ذبحَ الطمعِ ، والزُّهدَ في الثناءِ والمدح ؟
قلتُ : أمّا ذبحُ الطمعِ ؛ فيُسهِّلُهُ عليك علمُك – يقيناً – أنّه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيدِ الله – وحدَهُ – خزائنه لا يمتلكها غيرُه ، ولا يؤتي العبدَ منها شيئاً سواهُ .
وأمّا الزهدُ في الثناءِ والمدحِ ؛ فَيُسهِّلُهُ عليكَ علمُكَ أنّهُ ليسَ أحدٌ ينفعُ مدحُهُ ويَزين ، ويضرُّ ذمُّهُ ويَشينُ إلا الله – وحدَه – ؛ كما : إن مدحي زَينٌ ، وذَمّي شَينٌ ، فقال : » ذلكَ الله –rقال الأعرابيُّ للنبيِّ عزَّ وجلّ – «(2) .
فَازْهَد في مدحِ مَن لا يزينُكَ مدحُهُ ، وفي ذمِّ مَن لا يَشينُكَ ذمُّهُ ، وارغبْ في مدحِ مَن كُلُّ الزَّينِ في مدحِهِ ، وكلُّ الشَّينِ في ذمِّه .
ولن يُقدَرَ على ذلكَ إلا بالصبرِ واليقين ؛ فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنت كَمَن أرادَ الســــفرَ في البـــحـــرِ في غـــيرِ مـــركب؛ قـــال –تعالى –: { فاصْــــبِـــر إنَّ وَعْــــدَ اللهِ حــــقٌّ ولا
يســـتخِفنَّكَ الذينَ لا يوقِنونَ }، وقــــال – تعالى – : { وجَـــعَلْنا مــنهم أَئِمةً يهــدونَ بأمـــرِنا لمّا
صَبَروا وكانوا بآياتِنا يوقِنون } « .
أقول :
هذه كلماتٌ عاليات ، وإضاءاتٌ غاليات ؛ كنتُ قرأتُها للمرّةِ الأولى – قديماً جداً –
قبل نحوِ رُبعِ قرنٍ من الزّمان ، وكان لها – وَرَبّي – أثَرٌ كبيرٌ في نَفْسي ؛ تربيةً ، وجهاداً ، وفقهَ نفسٍ .
مع أنَّ المعلومَ –بداهةً– عند كُلِّ ذي نظر – : أنَّ النفسَ الإنسانيةَ كثيراً ما تجمحُ على أصحابها ، وتَجنحُ بأربابِها ؛ مما يستدعي لها المزيدَ من الاهتمام ! والكثيرَ مِن الإصلاح للتّمام !!
فاللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ …
وبعدَ ذي السَنواتِ – كلِّها – نبَّهَني إلى هذه الكلماتِ – مِن جديد – أَحَدُ إخواني الأفاضِل – جزاه الله خيراً – ناصحاً أميناً – ضِمنَ مُناسبةٍ عَرَضَت – نَعَبَ فيها بعضُ الغرابيب ، بكلامٍ غريبٍ عجيب ؛ ذكّرني بما رواه البُخاري في » الأدَب المفرَد « ( 592 ) عن أبيِ هُرَيرة – رضي الله عنه – أنّه قال :
» يُبصِرُ أحدُكم القَذَاةَ في عينِ أخيهِ ، ويَنسى الجِذْعَ – أو الجِذْلَ –في عينيه معترضاً « (1) !!
وَمَعَ ذلك ، فَهأنذا أتحسّسُ قَذاتي ، وأتلمّسُ آفاتي ، وأسالُ ربّي – سبحانهُ – أن يغفرَ لي سَيِّئاتي ، ويستُرَ عليَّ زلاّتي …
ولقد كان الباعثُ لذلكَ التذكيرِ : كلمةً مُهِمّةً سمِعها بعضُ إخواني الأفاضل – منذ سنواتٍ مِن في سماحة أستاذنا الشيخِ العلامةِ أبي عبد الله محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – تعالى : يذكُرُني فيها بثناءٍ علميٍّ – واللهِ – لا أستحقُّه ؛ تأوّلتُها – حينها – عند سماعي لها منه شخصياً – على جميلِ تواضعِه، وحُسن رُوحِه، ورائقِ دُعابتِه – رحمه الله – .
فَنَقلها هذا البعضُ – السّامعُها – إلى غيرِهم ؛ حتى وصلَت – أخيراً – إلى شبكةِ الإنترنت ؛ فما كان مِن الأخِ المُشرِف على موقِعي العلمي الإلكتروني : ( www.alhalaby.com ) – سدّده الله وأيّده – إلا أنْ نقَلَها – باجتِهادِهِ الشخصيِّ – مُصدِّراً بها مقالاً افتتاحياً – له – في الموقِع .
وها هنا موضعُ ذاك التذكير : فـ … حبُّ المدحِ ، والإخلاصُ ، ضِدّان لا يجتمِعان !
نَعَم ؛ مِن أجلِ ذا : يُجاهِدُ الواحدُ فينا نفسَه ؛ كما قالَ ربُّ العالمين : { والذينَ جاهدوا فينا لنهدينّهُم سُبُلَنا } .
لكن ؛ يظهرُ لي – واللهُ أعلم وأجلّ – أن ثمّةَ فَرقاً دقيقاً بين ( المدح ) ، و (حبّ المدح) :
فالأول : قد لا يكونُ لك به صِلةٌ – أصلاً – ولو مع ( الرِّضا ) به – فرعاً –.
وأمّا الثاني : فهو الآفةُ والبليّة ، الذي تتشوّف له النفوسُ غير الغنيّة ؛ والّتي لا ينجو مِن سوادِها إلا القليلُ مِن البريَّة { وما أُبرّئُ نفسي إن النفسَ لأمّارةٌ بالسوء } …
ومِن هذه البَابَةِ – نفسِها – قولُ الإمام ابن القيِّم – نفسه – رحمه الله – في كتابه » الروح « ( ص 368 ) – مفرّقاً بين ( التحدُّث بِنِعَمِ الله )، و ( الفَخْرِ بِها ) – ؛ قال :
» المتحدِّثُ بالنعمةِ مُخبِرٌ عن صفاتِ وليِّها ، وَمَحْضِ جُودِهِ وإحسانِه ؛ فهو مُثْنٍ عليه بإظهارها ، والتحدُّثِ بها ؛ شاكراً له ، ناشِراً لجميعِ ما أولاه ؛ مقصودُه بذلك إظهارُ صفاتِ اللهِ ، ومدحُه ، والثناءُ عليه ، وبعثُ النفسِ على الطلبِ منه دونَ غيره ، وعلى صُحبتِه ورجائِه، فيكون راغباً إلى اللهِ بإظهارِ نِعَمِه ، وَنَشرِها ، والتحدُّثِ بها.
وأمّا الفخرُ بالنِّعَم : فهو أن يستطيلَ بها على الناس ، ويُريَهم أنّه أعزُّ منهم ، وأكبرُ؛
فيركبُ أعناقَهُم ، ويستعبدُ قلوبَهُم ، ويستميلُها إليه بالتعظيمِ والخِدمة ؛ قال النعمانُ بنُ بشير : إن للشيطانِ مَصَالِيَ (1) وفُخوخاً ، وَإنَّ مصاليَه وفخوخَه : البَطَرُ بِنعَم الله ، والكِبْرُ على عبادِ الله ، والفَخْرُ بعطيّةِ الله ، واتِّباعُ الهوى في ذاتِ الله «.
فَإذْ قد بانَ » فرقٌ « بين ( المدحِ ) و ( حبّ المدح ) – وهو لا بدّ ظاهِرٌ – ؛ فها هنا أُمورٌ تتّضح – بذكرِها – بعضُ الأسباب والمسبِّبات – لذلك ( الرِّضا )، دون الإنكار –:
أولُها : أنَّ ( كمّاً ) من الناس ( ! ) تلقَّفوا بعضَ الكلماتِ التي انتقدِ فيها بعضُ
أهلِ العلم شيئاً من كتاباتي ! ثم طاروا بها على غير وجهها ؛ مع أنَّ صنيعَهُم هذا مردودٌ من وجهين :
أ – أنَّ الحُجّةَ في أصلِ ذاك الانتقادِ غيرُ قائمة ؛ وبالتالي : فإن النقدَ – أساساً – غير صحيح .
وفي عددٍ من كتبي ورسائلي بيان ذلك – مُفصّلاً – ، وبخاصةٍ » التنبيهات المتوائمة .. « في مجلّدٍ كبير .
ب- أنَّ هذا النقدَ – لو سلّمنا بهِ ! – فإن إطارَه محدود ، ونِطاقَهُ ضيّق ؛ لكنّ أولئك – الطائرين ! – وسّعوه وبَسَطوه !!! – بغير حقٍّ ، ودونما بيّنة – .
فكان هذا ( الرِّضا ) – ولا أقول : ( الحبّ ) – بهذا المدح – وبخاصةٍ أنّه أتى من غيري – جواباً علمياً ، ورداً عَمَلِياً – على ذلك النقد غير القائم ، فضلاً عن كونه صادراً من عالمٍ جليلٍ معتبرٍ ، هو أجلُّ علماً ، وأرفعُ مكانةً من أولئك المنتقِدين – على فضلِهم – فُرادى ومجتَمعين …
وهذا –فيما أرى – هكذا – معنىً صحيحٌ مُقتبسٌ مِن جملةِ معاني قولِ الله – تعالى –: { والذين إذا أصابهُم البغيُ هم ينتصرون } .
ثانيها : ما علّقه البخاري في » صحيحه « ( 1/258 » التوشيح « ) عن الإمام ربيعةَ ابنِ أبي عبد الرحمن ؛ قال :
» لا ينبغي لأحد عنده شيءٌ من العلم أن يضيّع نفسَه « .
وقد وصلَه الإمام البيهقي في » المدخل « ( 687 ) .
وِمن معانيه – فيما ذكر الحافظُ ابن حجرِ في » فتح الباري « ( 1/ 178 ) – :
» أن يُشهِر العالمُ نفسَه ، ويتصدّى للأخذ عنه ، لئلاّ يضيعَ علمُه «.
وإن كنتُ لا أعدُّ نفسي – وَربِّ السماءِ والأرضِ – إلا طالبَ علمٍ » متّبعاً على سبيل نجاة « (1) …
{ ويعفو عن كثير } ..
مع كونِ ذلك القولِ – من سماحةِ أُستاذِنا الشيخ ابن عثيمين – غيرَ داخلٍ – أصالةً –
في هذا الحَرْفِ الدقيق مِن » إشهارِ النفس « ؛ لا واقعاً ، ولا أثراً …
فتنبّه .
ثالثها : أنَّ ( الرِّضا ) بمثلِ هذا القول – الصادر مِن مثل ذلك العَلَم – في محيطِ هذه الدائرة – لا يخرُجُ – إن شاء الله – عن ( عموم ) هَدْيِ قولِ ربِّ العالمين : { قل موتوا بغيظِكُم }.. لطائفةٍ ( ! ) لم يُجْدِ مَعَها الصَّبْرُ، ولم يَصْلُح فيها العفوُ ..
فَمَن عافاه الله مِن أخلاقِهم : فليس شكٌّ أنه سَيَعْذُرُ مَن ابتُلِيَ بسوئهم ، ومسّه بلاؤهم – مع حمدِه ربَّه على العافية –..
فكيف إذا علِمنا أنَّ واحِداً من هؤلاء السيِّئين – لتناقضهِ الشخصيِّ ، وبلائهِ النفسيِّ – يترفّعُ على أترابِه ، ويستعلي على أصحابِه – متمدِّحاً – بِفَرْدِ إجازة ( ! ) ناوله إياها مقلّدٌ مذهبيٌّ لا يُعرَف ؟!!
وكيف إذا أيقنّا أنَّ آخَرَ – من الفصيلةِ نفسِها! – لا يزال يتشدَّقُ – جَذِلاً، فَرِحاً –
بتزكيةِ زواج ، أو توصيةِ دراسةٍ ؛ نالها – في صباه ! – مِن عالِمٍ ؛ هو الآن يطعنُ في اعتقاده ، ويقطعُ نَفْسَه عَن امتداده ؟!!
وكيف إذا عَرَفْنا (!) ثالثاً – منهُم ! –يهشّ ويبشّ لِتقريظٍ هشّ ؛ على كتابٍ واهنٍ من مُقرِّظٍ واهٍ ؟!!
كُلُّ هذا – وغيره – مُغْمَضَةٌ عنه العينان ، ولا يتناوله اللسان ؛ لأنه وافقَ الهوى، ورافق خفيَّ الشهوة – ممّا يهوى – …
فكيف – باللهِ – لو ( سَنَحَ ) لِواحدٍ مِن أُولاءِ ( ! ) ذلك الثّناءُ العُثَيمينِيُّ – أو مِثلُهُ – ؟! فاللهُ أعلم ماذا سيكونُ منهم ، أو يحلُّ بهم !
وأخيراً – وليس آخراً – كما يقال ! – أنقلُ لنفسي ، ولإخواني المحبّين ، الصادقين الواثقين : دعواتٍ رائقة ؛ رأيتها في ختامِ كتاب » فتح الباري « (1) ( 3/474 ) – وَعظاً وتذكيراً – ؛ فها هي ذي:
» إلهي : لو أردتَ إهانَتَنا لم تهدِنا ، ولو أردتَ فضيحتَنا لم تستُرنا ، فتمِّم اللهمّ ما بهِ بدأتَنا ، ولا تسلُبنا ما بهِ أكْرَمْتَنا .
إلهي : عرّفْتنا بربوبيّتِك ، وغرّقتنا في بحارِ نعمتِك ، ودعوتنا إلى دارِ قُدْسِك ، ونعَّمتنا بذِكرك وأُنسِك .
إلهي : إنّ ظُلمةَ ظلمِنا لأنفسِنا قد عمّت ، وبحارَ الغفلةِ على قلوبنا قد طمّت ؛ فالعجزُ شامل ، والحَصَرُ حاصل ، والتسليمُ أسلَم ، وأنت بالحالِ أعلَم .
إلهي : ما عصيناكَ جَهلاً بعقابِك ، ولا تعرُّضاً لعذابِك ، ولا استخفافاً بنظركِ ؛
ولكن سوَّلَت لنا أنفُسُنا، وأعانَتنا شِقوَتُنا ، وغرَّنا سِترُك علينا، وأطمَعَنا في عفوِك بِرُّك بنا؛ فالآنَ مِن عذابِكَ مَن يستنقِذُنا ؟! وبِحبلِ مَن نعتصمُ إن أنتَ قطعتَ حبلكَ عنّا ؟!
واخَجْلَتَنا من الوقوفِ بين يديك !
وافضيحَتَنا إذا عُرِضَت أعمالُنا القبيحةُ عليك !
اللهم اغفِر ما عَلِمتَ ، ولا تهتِك ما ستَرتَ .
إلهي : إن كنّا قد عصيناك بجهلٍ؛ فقد دعوناك بعقل، حيثُ علمنا أن لنا ربًّا يغفِرُ ولا يبالي .
إلهي : أنتَ أعلمُ بالحالِ والشكوى ، وأنت قادرٌ على كشفِ البلوى .
اللهم يا من سترتَ الزلاّت، وغفرتَ السيِّئات، أجِرنا من مَكرِك، ووفّقنا لشكرِك .
إلهي : أتحرِقُ بالنارِ وَجْهاً كان لك مصلّياً ، ولساناً كان لك ذاكراً أو داعياً ؟!
فارحم – اللهم – عباداً غرَّهُم طولُ إمهالِك ، وأطمَعَهُم كثرةُ أفضالِك ، وذلُّوا لِعِزِّك وجلالك ، ومدّوا أكفَّهم لطلب نوالِك ، ولولا هدايتُك لم يصِلوا إلى ذلك « .
فاللهمّ ارزُقنا الإخلاصَ في القولِ والعَمَل ، واجْعَلنا في عُيونِنا صِغاراً ، وفي عيونِ الناسِ كباراً …
و » رَحِمَ اللهً امْرءاً أهدى إليَّ عُيوبي « .
وأستغفِرًك – اللهمّ – مِن تقصيري وذُنوبي …
{ وَقلِ اعملوا فسيرى اللهُ عملَكُم ورسولُهُ والمؤمنون } .
… وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
منقول من موقع الشيخ علي الحلبي حفظه الله
تعليق