قال شيئ الإسلام بن تيمية الحراني :
فصل
فِي قَوْله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}
سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام
ابْن تَيْمِية قدس الله روحه عَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْوَة أخي ذِي النُّون {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} مَا دَعَا بهَا مكروب إِلَّا فرج الله كربته مَا معنى هَذِه الدعْوَة وَلم كَانَت كاشفة للكرب وَهل لَهَا شُرُوط باطنة عِنْد النُّطْق بلفظها وَكَيف مُطَابقَة اعْتِقَاد الْقلب لمعناها حَتَّى يُوجب كشف ضره وَمَا مُنَاسبَة ذكره {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} مَعَ أَن التَّوْحِيد يُوجب كشف الضّر وَهل يَكْفِيهِ اعترافه أم لَا بُد من التَّوْبَة والعزم فِي الْمُسْتَقْبل وَمَا هُوَ السِّرّ فِي أَن كشف الضّر وزواله يكون عِنْد انْقِطَاع الرَّجَاء عَن الْخلق والتعلق بهم وَمَا الْحِيلَة فِي انصراف الْقلب عَن الرَّجَاء للمخلوقين والتعلق بهم بِالْكُلِّيَّةِ وتعلقه بِاللَّه تَعَالَى ورجائه وانصرافه إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَب الْمعِين على ذَلِك
فَأجَاب الْحَمد لله رب الْعَالمين
لفظ الدُّعَاء والدعوة فِي الْقُرْآن يتَنَاوَل مَعْنيين
دُعَاء الْعِبَادَة
وَدُعَاء الْمَسْأَلَة
قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَقَالَ {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} وَقَالَ {إِن يدعونَ من دونه إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا} وَقَالَ تَعَالَى {لَهُ دَعْوَة الْحق وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه وَمَا هُوَ ببالغه} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} وَقَالَ فِي آخر السُّورَة {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم}
قيل لَوْلَا دعاؤكم إِيَّاه وَقيل لَوْلَا دعاؤه إيَّاكُمْ فَإِن الْمصدر يُضَاف إِلَى الْفَاعِل تَارَة وَإِلَى الْمَفْعُول تَارَة وَلَكِن إِضَافَته إِلَى الْفَاعِل أقوى لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من فَاعل فَلهَذَا كَانَ هَذَا أقوى الْقَوْلَيْنِ أَي مَا يعبأ بكم لَوْلَا أَنكُمْ تَدعُونَهُ فتعبدونه وتسألونه {فقد كَذبْتُمْ فَسَوف يكون لزاما} أَي عَذَاب لَازم للمكذبين
وَلَفظ الصَّلَاة فِي اللُّغَة أَصله الدُّعَاء وَسميت الصَّلَاة دُعَاء لتضمنها معنى الدُّعَاء وَهُوَ الْعِبَادَة وَالْمَسْأَلَة
وَقد فسر قَوْله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} بِالْوَجْهَيْنِ قيل اعبدوني وامتثلوا أَمْرِي أَسْتَجِب لكم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي يستجيب لَهُم وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة يُقَال استجابه واستجاب لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
... وداع دعايا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب ...
وَقيل سلوني أعطكم
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر فَيَقُول من يدعوني فأستجيب لَهُ من يسالني فَأعْطِيه من يستغفرني فَأغْفِر لَهُ فَذكر أَولا لفظ الدُّعَاء ثمَّ ذكر السُّؤَال وَالِاسْتِغْفَار والمستغفر سَائل كَمَا أَن السَّائِل دَاع لَكِن ذكر السَّائِل لدفع الشَّرّ بعد السَّائِل الطَّالِب للخير وذكرهما جَمِيعًا بعد ذكر الدَّاعِي الَّذِي تناولهما وَغَيرهمَا فَهُوَ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام
وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان}
وكل سَائل رَاغِب رَاهِب فَهُوَ عَابِد للمسؤول وَلَك عَابِد لَهُ فَهُوَ أَيْضا رَاغِب وراهب يَرْجُو رَحمته وَيخَاف عَذَابه فَكل عَابِد سَائل وكل سَائل عَابِد فأحد الاسمين يتَنَاوَل الآخر عِنْد تجرده عَنهُ وَلَكِن إِذا جمع بَينهمَا فَإِنَّهُ يُرَاد بالسائل الَّذِي يطْلب جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة بصيغ السُّؤَال والطلب وَيُرَاد بالعابد من يطْلب ذَلِك بامتثال الْأَمر وَإِن لم يكن فِي ذَلِك صِيغ سُؤال
وَالْعَابِد الَّذِي يُرِيد وَجه الله وَالنَّظَر إِلَيْهِ هُوَ أَيْضا راج خَائِف رَاغِب رَاهِب يرغب فِي حُصُول مُرَاده ويرهب من فَوَاته قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات ويدعوننا رغبا ورهبا} وَقَالَ تَعَالَى {تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا} وَلَا يتَصَوَّر أَن يَخْلُو دَاع لله دُعَاء عبَادَة أَو دُعَاء مَسْأَلَة من الرغب والرهب من الْخَوْف والطمع
وَمَا يذكر عَن بعض الشُّيُوخ أَنه جعل الْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة فَهَذَا قد يُفَسر مُرَاده بِأَن المقربين يُرِيدُونَ وَجه الله فيقصدون التَّلَذُّذ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَإِن لم يكن هُنَاكَ مَخْلُوق يتلذذون بِهِ وَهَؤُلَاء يرجون حُصُول هَذَا الْمَطْلُوب وَيَخَافُونَ حرمانه فَلم يخلوا عَن الْخَوْف والرجاء لَكِن مرجوهم بِحَسب مطلوبهم
وَمن قَالَ من هَؤُلَاءِ لم أعبدك شوقا إِلَى جنتك وَلَا خوفًا من نارك فَهُوَ يظنّ أَن الْجنَّة اسْم لما يتمتع فِيهِ بالمخلوقات وَالنَّار اسْم لما لَا عَذَاب فِيهِ إِلَّا ألم الْمَخْلُوقَات وَهَذَا قُصُور وتقصير مِنْهُم عَن فهم مُسَمّى الْجنَّة بل كل مَا أعده الله لأوليائه فَهُوَ من الْجنَّة وَالنَّظَر إِلَيْهِ هُوَ من الْجنَّة وَلِهَذَا كَانَ أفضل الْخلق يسْأَل الله الْجنَّة ويستعيذ بِهِ من النَّار وَلما سَأَلَ بعض أَصْحَابه عَمَّا يَقُول فِي صلَاته قَالَ إِنِّي أسأَل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِاللَّه من النَّار أما إِنِّي لَا أحسن دندنتك وَلَا دندنة معَاذ فَقَالَ حولهَا فدندن
وَقد أنكر على من قَالَ هَذَا الْكَلَام يَعْنِي أَسأَلك لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك فريق من أهل الْكَلَام ظنُّوا أَن الله لَا يتلذذ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَأَنه لَا نعيم إِلَّا بمخلوق فغلط هَؤُلَاءِ فِي معنى الْجنَّة كَمَا غلط أُولَئِكَ لَكِن أُولَئِكَ طلبُوا مَا يسْتَحق أَن يطْلب وَهَؤُلَاء أَنْكَرُوا ذَلِك
وَأما التألم بالنَّار فَهُوَ أَمر ضَرُورِيّ وَمن قَالَ لَو أدخلني النَّار لَكُنْت رَاضِيا فَهُوَ عزم مِنْهُ على الرِّضَا والعزائم قد تَنْفَسِخ عِنْد وجود الْحَقَائِق وَمثل هَذَا يَقع فِي كَلَام طَائِفَة مثل سمنون الَّذِي قَالَ
... وَلَيْسَ لي فِي سواك حَظّ ... فَكيف مَا شِئْت فامتحني ...
فابتلي بعسر الْبَوْل فَجعل يطوف على صبيان الْمكَاتب وَيَقُول ادعوا لعمكم الْكذَّاب قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون}
وَبَعض من تكلم فِي علل المقامات جعل الْحبّ وَالرِّضَا وَالْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة بِنَاء على مُشَاهدَة الْقدر وَأَن من شهد الْقدر فَشهد تَوْحِيد الْأَفْعَال حَتَّى فني من لم يكن وَبَقِي من لم يزل يخرج عَن هَذِه الْأُمُور وَهَذَا كَلَام مُسْتَدْرك حَقِيقَة وَشرعا
أما الْحَقِيقَة فَإِن الْحَيّ لَا يتَصَوَّر أَن لَا يكون حساسا محبا لما يلائمة مبغضا لما ينافره وَمن قَالَ إِن إِن الْحَيّ يَسْتَوِي عِنْده جَمِيع المقدورات فَهُوَ أحد رجلَيْنِ إِمَّا أَنه لَا يتَصَوَّر مَا يَقُول بل هُوَ جَاهِل وَإِمَّا أَنه مكابر معاند وَلَو قدر أَن الْإِنْسَان حصل لَهُ حَال أَزَال عقله سَوَاء سمى اصطلاما أَو محوا أَو فنَاء أَو غشيا أَو ضعفا فَهَذَا لم يسْقط إحساس نَفسه بِالْكُلِّيَّةِ بل لَهُ إحساس بِمَا يلائمه وَمَا ينافره وَإِن سقط إحساسه بِبَعْض الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ لم يسْقط بجميعها
فَمن زعم أَن الْمشَاهد لتوحيد الربوبية يدْخل إِلَى مقَام الْجمع والفناء فَلَا يشْهد فرقا فَإِنَّهُ غالط بل لَا بُد من الْفرق فَإِنَّهُ أَمر ضَرُورِيّ
لَكِن إِذا خرج عَن الْفرق الشَّرْعِيّ بَقِي فِي الْفرق الطبعي فَيبقى مُتبعا لهواه لَا مُطيعًا لمَوْلَاهُ
وَلِهَذَا لما وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة بَين الْجُنَيْد وَأَصْحَابه ذكر لَهُم الْفرق الثَّانِي وَهُوَ أَن يفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور وَبَين مَا يُحِبهُ الله وَمَا يكرههُ مَعَ شُهُوده للقدر الْجَامِع فَيشْهد الْفرق فِي الْقدر الْجَامِع وَمن لم يفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور خرج عَن دين الْإِسْلَام
وَهَؤُلَاء الَّذين يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجمع لَا يخرجُون عَن الْفرق الشَّرْعِيّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن خَرجُوا عَنهُ كَانُوا كفَّارًا من شَرّ الْكفَّار وهم الَّذين يخرجُون إِلَى التَّسْوِيَة بَين الرُّسُل وَغَيرهم ثمَّ يخرجُون إِلَى القَوْل بوحدة الْوُجُود فَلَا يفرقون بَين الْخَالِق والمخلوق وَلَكِن لَيْسَ كل هَؤُلَاءِ ينتهون إِلَى هَذَا الْإِلْحَاد بل يفرقون من وَجه دون وَجه فيطيعون الله وَرَسُوله تَارَة كالعصاة من أهل الْقبْلَة وَهَذِه الْأُمُور مبسوطة فِي غير هَذَا الْموضع
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن لفظ الدعْوَة وَالدُّعَاء يتَنَاوَل هَذَا وَهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَفِي الحَدِيث أفضل الذّكر لَا إِلَه إِلَّا الله وَأفضل الدُّعَاء الْحَمد لله رَوَاهُ ابْن ماجة وَابْن أبي الدُّنْيَا وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره دَعْوَة أخي ذِي النُّون لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين مَا دَعَا بهَا مكروب إِلَّا فرج الله كربته سَمَّاهَا دَعْوَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن نَوْعي الدُّعَاء فَقَوله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت اعْتِرَاف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية يتَضَمَّن اُحْدُ نَوْعي الدُّعَاء فَإِن الْإِلَه هُوَ الْمُسْتَحق لِأَن يدعى دُعَاء عباده وَدُعَاء مَسْأَلَة وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
وَقَوله {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} اعْتِرَاف بالذنب وَهُوَ يتَضَمَّن طلب الْمَغْفِرَة فَإِن الطَّالِب السَّائِل تَارَة يسْأَل بِصِيغَة الطّلب وَتارَة يسْأَل بِصِيغَة الْخَبَر إِمَّا يُوصف حَاله وَإِمَّا بِوَصْف حَال المسؤول وَإِمَّا بِوَصْف الْحَالين كَقَوْل نوح عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فَهَذَا لَيْسَ صِيغَة طلب وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن الله أَنه إِن لم يغْفر لَهُ ويرحمه خسر
وَلَكِن هَذَا الْخَبَر يتَضَمَّن سُؤال الْمَغْفِرَة وَكَذَلِكَ قَول آدم عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} هُوَ من هَذَا الْبَاب وَمن ذَلِك قَول
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} فَإِن هَذَا وصف لحاله بِأَنَّهُ فَقير إِلَى مَا أنزل الله إِلَيْهِ من الْخَيْر وَهُوَ مُتَضَمّن لسؤال الله إِنْزَال الْخَيْر إِلَيْهِ
وَقد روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من شغله قِرَاءَة الْقُرْآن عَن ذكري ومسألتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن وَرَوَاهُ مَالك بن الْحُوَيْرِث وَقَالَ من شغله ذكري عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين وأظن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ مَرْفُوعا بِهَذَا اللَّفْظ
وَقد سُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن قَوْله أفضل الدُّعَاء يَوْم عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير فَذكر هَذَا الحَدِيث وَأنْشد قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت يمدح ابْن جدعَان
أأذكر حَاجَتي أم قد كفاني
حباؤك إِن شيمتك الحباء ... إِذا أثنى عَلَيْك الْمَرْء يَوْمًا
كَفاهُ من تعرضه الثَّنَاء
قَالَ فَهَذَا مَخْلُوق يُخَاطب مخلوقا فَكيف بالخالق تَعَالَى
وَمن هَذَا الْبَاب الدُّعَاء الْمَأْثُور عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكى وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث وَعَلَيْك التكلان فَهَذَا خبر يتَضَمَّن السُّؤَال
وَمن هَذَا الْبَاب قَول أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام {أَنِّي مسني الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} فوصف نَفسه وَوصف ربه بِوَصْف يتَضَمَّن سُؤال رَحمته بكشف ضره وَهِي صِيغَة خبر تَضَمَّنت السُّؤَال وَهَذَا من بَاب حسن الْأَدَب فِي السُّؤَال وَالدُّعَاء فَقَوْل الْقَائِل لمن يعظمه ويرغب إِلَيْهِ أَنا جَائِع أَنا مَرِيض حسن أدب فِي السُّؤَال وَإِن كَانَ فِي قَوْله أَطْعمنِي وداوني وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ بِصِيغَة الطّلب طلب جازم من المسؤول فَذَاك فِيهِ إِظْهَار حَاله وإخباره على وَجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الْحَال وَهَذَا فِيهِ الرَّغْبَة التَّامَّة وَالسُّؤَال الْمَحْض بِصِيغَة الطّلب
وَهَذِه الصِّيغَة صِيغَة الطّلب والاستدعاء إِذا كَانَت لمن يحْتَاج إِلَيْهِ الطَّالِب أَو مِمَّن يقدر على قهر الْمَطْلُوب مِنْهُ وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهَا تقال على وَجه الْأَمر إِمَّا لما فِي ذَلِك من حَاجَة الطَّالِب وَإِمَّا لما فِيهِ من نفع الْمَطْلُوب فَأَما إِذا كَانَت من الْفَقِير من كل وَجهه للغني من كل وَجه فَإِنَّهَا سُؤال مَحْض بتذلل وافتقار وَإِظْهَار الْحَال
وَوصف الْحَاجة والافتقار هُوَ سُؤال بِالْحَال وَهُوَ أبلغ من جِهَة الْعلم وَالْبَيَان
وَذَلِكَ أظهر من جِهَة الْقَصْد والإرادة فَلهَذَا كَانَ غَالب الدُّعَاء من الْقسم الثَّانِي لِأَن الطَّالِب السَّائِل يتَصَوَّر مَقْصُوده وَمرَاده فيطلبه ويسأله فَهُوَ سُؤال بالمطابقة وَالْقَصْد الأول وتصريح بِهِ بِاللَّفْظِ وَإِن لم يكن فِيهِ وصف لحَال السَّائِل والمسؤول فَإِن تضمن وصف حَالهمَا كَانَ أكمل من النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ يتَضَمَّن الْخَبَر وَالْعلم الْمُقْتَضى للسؤال والإجابة ويتضمن الْقَصْد والطلب الَّذِي هُوَ نفس السُّؤَال فيتضمن السُّؤَال والمقتضى لَهُ والإجابة كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما قَالَ لَهُ عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي فَقَالَ قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
فَهَذَا فِيهِ وصف العَبْد لحَال نَفسه الْمُقْتَضِي حَاجته إِلَى الْمَغْفِرَة وَفِيه وصف ربه الَّذِي يُوجب أَنه لَا يقدر على هَذَا الْمَطْلُوب غَيره وَفِيه التَّصْرِيح بسؤال العَبْد لمطلوبه وَفِيه بَيَان الْمُقْتَضى للإجابة وَهُوَ وصف الرب بالمغفرة وَالرَّحْمَة فَهَذَا وَنَحْوه أكمل أَنْوَاع الطّلب
وَكثير من الْأَدْعِيَة يتَضَمَّن بعض ذَلِك كَقَوْل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين} فَهَذَا طلب وَوصف للْمولى بِمَا يَقْتَضِي الْإِجَابَة وَقَوله {رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي} فِيهِ وصف حَال النَّفس والطلب وَقَوله {إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} فِيهِ الْوَصْف المتضمن للسؤال بِالْحَال فَهَذِهِ أَنْوَاع لكل نوع مِنْهَا خَاصَّة
يبْقى أَن يُقَال فَصَاحب الْحُوت وَمن أشبهه لماذا ناسب حَالهم صِيغَة الْوَصْف وَالْخَبَر دون صِيغَة الطّلب
فَيُقَال لِأَن الْمقَام مقَام اعْتِرَاف بِأَن مَا أصابني من الشَّرّ كَانَ بذنبي فَأصل الشَّرّ هُوَ الذَّنب وَالْمَقْصُود دفع الضّر وَالِاسْتِغْفَار جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي فَلم يذكر صِيغَة طلب كشف الضّر لاستشعاره أَنه مسيء ظَالِم وَهُوَ الَّذِي أَدخل الضّر على نَفسه فَنَاسَبَ حَاله أَن يذكر مَا يرفع سَببه من الِاعْتِرَاف بظلمه وَلم يذكر صِيغَة طلب الْمَغْفِرَة لِأَنَّهُ مَقْصُود للْعَبد المكروب بِالْقَصْدِ الثَّانِي بِخِلَاف كشف الكرب فَإِنَّهُ مَقْصُود لَهُ فِي حَال وجوده بِالْقَصْدِ الأول إِذْ النَّفس بطبعها تطلب مَا هِيَ محتاجة إِلَيْهِ من زَوَال الضَّرَر الْحَاصِل من الْحَال قبل طلبَهَا زَوَال مَا تخَاف وجوده من الضَّرَر فِي الْمُسْتَقْبل بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَالْمَقْصُود الأول فِي هَذَا الْمقَام هُوَ الْمَغْفِرَة وَطلب كشف الضّر فَهَذَا مقدم فِي قَصده وإرادته وأبلغ مَا ينَال بِهِ رفع سَببه فجَاء بِمَا يحصل مَقْصُوده وَهَذَا يتَبَيَّن بالْكلَام على قَوْله {سُبْحَانَكَ} فَإِن هَذَا اللَّفْظ يتَضَمَّن تَعْظِيم الرب وتنزيهه وَالْمقَام يَقْتَضِي تنزيهه عَن الظُّلم والعقوبة بِغَيْر ذَنْب يَقُول أَنْت مقدس ومنزه عَن ظلمي وعقوبتي بِغَيْر ذَنْب بل أَنا الظَّالِم الَّذِي ظلمت نَفسِي قَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم} وَقَالَ {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} وَقَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا}
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِي مُسلم فِي دُعَاء الاستفتاح اللَّهُمَّ أَنْت الْملك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ سيد الاسْتِغْفَار أَن يَقُول العَبْد اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وَأَنا على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت أعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعتمك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي فَإِنَّهُ لايغفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت من قَالَهَا إِذا أصبح موقنا بهَا فَمَاتَ من يَوْمه دخل الْجنَّة وَمن قَالَهَا إِذا أَمْسَى موقنا بهَا فَمَاتَ من ليلته دخل الْجنَّة
فَالْعَبْد عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بِعدْل الله وإحسانه فَإِنَّهُ لايظلم النَّاس شَيْئا فَلَا يُعَاقب أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ وَهُوَ يحسن إِلَيْهِم فَكل نقمة مِنْهُ عدل وكل نعْمَة مِنْهُ فضل
فَقَوله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت فِيهِ إِثْبَات انْفِرَاده بالإلهية والألهية تَتَضَمَّن كَمَال علمه وَقدرته وَرَحمته وحكمته فَفِيهَا إِثْبَات إحسانه إِلَى الْعباد فَإِن الْإِلَه هُوَ المألوه والمألوه هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يعبد وَكَونه يسْتَحق أَن يعبد هُوَ بِمَا اتّصف بِهِ من الصِّفَات الَّتِي تستلزمك أَن يكون هُوَ المحبوب غَايَة الْحبّ المخضوع لَهُ غَايَة الخضوع وَالْعِبَادَة تَتَضَمَّن غَايَة الْحبّ بغاية الذل
وَقَوله {سُبْحَانَكَ} يتَضَمَّن تَعْظِيمه وتنزيهه عَن الظُّلم وَغَيره من النقائص فَإِن التَّسْبِيح وَإِن كَانَ يُقَال يتَضَمَّن نفي النقائص وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث مُرْسل من مَرَاسِيل مُوسَى بن طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول العَبْد سُبْحَانَ الله إِنَّهَا بَرَاءَة الله من السوء فالنفي لَا يكون مدحا إِلَّا إِذا تضمن ثبوتا وَإِلَّا فالنفي الْمَحْض لَا مدح فِيهِ وَنفي السوء وَالنَّقْص عَنهُ يسْتَلْزم إِثْبَات محاسنه وكماله وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى
وَهَكَذَا عَامَّة مَا يَأْتِي بِهِ الْقُرْآن فِي نفي السوء وَالنَّقْص عَنهُ يتَضَمَّن إِثْبَات محاسنه وكماله كَقَوْلِه تَعَالَى {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} فنفي أَخذ السّنة وَالنَّوْم لَهُ يتَضَمَّن كَمَال حَيَاته وقيوميته وَقَوله {وَمَا مسنا من لغوب} يتَضَمَّن كَمَال قدرته وَنَحْو ذَلِك فالتسبيح المتضمن تنزيهه عَن السوء وَنفي النَّقْض عَنهُ يتَضَمَّن تَعْظِيمه فَفِي قَوْله {سُبْحَانَكَ} تبرئته من الظُّلم وَإِثْبَات العظمة الْمُوجبَة لَهُ بَرَاءَته من الظُّلم فَإِن الظَّالِم إِنَّمَا يظلم لِحَاجَتِهِ إِلَى الظُّلم أَو لجهله وَالله غَنِي عَن كل شَيْء عليم بِكُل شَيْء وَهُوَ غَنِي بِنَفسِهِ وكل مَا سواهُ فَقير إِلَيْهِ وَهَذَا كَمَال العظمة
وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الدُّعَاء للتهليل وَالتَّسْبِيح فَقَوله {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت} تهليل وَقَوله {سُبْحَانَكَ} تَسْبِيح وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن أَربع وَهن من الْقُرْآن سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع لَهُ وَالتَّكْبِير مقرون بالتهليل وتابع لَهُ وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ أَي الْكَلَام أفضل قَالَ مَا اصْطفى الله لملائكته سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كلمتان خفيفتان على اللِّسَان ثقيلتان فِي الْمِيزَان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم وَفِي الْقُرْآن {فسبح بِحَمْد رَبك} وَقَالَت الْمَلَائِكَة {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك}
وَهَاتَانِ الكلمتان إِحْدَاهمَا مقرونة بالتحميد وَالْأُخْرَى بالتعظيم فَإنَّا قد ذكرنَا أَن التَّسْبِيح فِيهِ نفي السوء والنقائص المتضمن إِثْبَات المحاسن والكمال وَالْحَمْد إِنَّمَا يكون على المحاسن وَقرن بَين الْحَمد والتعظيم كَمَا قرن بَين الْجلَال وَالْإِكْرَام إِذْ لَيْسَ كل مُعظم محبوبا مَحْمُودًا وَلَا كل مَحْبُوب مَحْمُودًا مُعظما وَقد تقدم أَن الْعِبَادَة تَتَضَمَّن كَمَال الْحبّ المتضمن معنى الْحَمد وتتضمن كَمَال الذل المتضمن معنى التَّعْظِيم فَفِي الْعِبَادَة حبه وحمده على المحاسن وفيهَا الذل لَهُ الناشىء عَن عَظمته وكبريائه فَفِي إجلاله وإكرامه وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحق للجلال وَالْإِكْرَام فَهُوَ مُسْتَحقّ غَايَة الإجلال وَغَايَة الْإِكْرَام
وَمن النَّاس من يحْسب أَن الْجلَال هُوَ الصِّفَات السلبية وَالْإِكْرَام الصِّفَات الثبوتية كَمَا ذكر ذَلِك الرَّازِيّ وَنَحْوه وَالتَّحْقِيق أَن كليهمَا صِفَات ثبوتية وَإِثْبَات الْكَمَال يسْتَلْزم نفي النقائص لَكِن ذكر نَوْعي الثُّبُوت وَهُوَ مَا يسْتَحق أَن يعظم كَقَوْلِه {إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} وَكَذَلِكَ قَوْله {لَهُ الْملك وَله الْحَمد} فَإِن كثيرا مِمَّن يكون لَهُ الْملك والغنى لَا يكون مَحْمُودًا بل مذموما إِذْ الْحَمد يتَضَمَّن الْإِخْبَار عَن الْمَحْمُود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إِخْبَارًا بمحاسن المحبوب محبَّة لَهُ
وَكثير مِمَّن لَهُ نصيب من الْحَمد والمحبة يكون فِيهِ عجز وَضعف وذل يُنَافِي العظمة والغنى وَالْملك فَالْأول يهاب وَيخَاف وَلَا يحب وَهَذَا يحب ويحمد وَلَا يهاب وَلَا يخَاف والكمال اجْتِمَاع الوصفين كَمَا ورد فِي الْأَثر أَن الْمُؤمن رزق حلاوة ومهابة وَفِي نعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ من رَآهُ بديهة هابه وَمن خالطه معرفَة أحبه فقرن التَّسْبِيح بالتحميد وَقرن التهليل بِالتَّكْبِيرِ كَمَا فِي كَلِمَات الْأَذَان ثمَّ إِن كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ يتَضَمَّن الآخر إِذا أفرد فَإِن التَّسْبِيح والتحميد يتَضَمَّن التَّعْظِيم ويتضمن إِثْبَات مَا يحمد عَلَيْهِ وَذَلِكَ يسْتَلْزم الإلهية فَإِن الإلهية تَتَضَمَّن كَونه محبوبا بل تَتَضَمَّن أَنه لَا يسْتَحق كَمَال الْحبّ إِلَّا هُوَ وَالْحَمْد هُوَ الْإِخْبَار عَن الْمَحْمُود بِالصِّفَاتِ الَّتِي يسْتَحق أَن يجب فالإلهية تَتَضَمَّن كَمَال الْحَمد وَلِهَذَا كَانَ الْحَمد لله مِفْتَاح الْخطاب وكل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أجدم وَسُبْحَان الله فِيهَا إِثْبَات عَظمته كَمَا قدمْنَاهُ وَلِهَذَا قَالَ {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم رَوَاهُ أهل السّنَن وَقَالَ اما الرُّكُوع فَعَظمُوا فِيهِ الرب وَأما السُّجُود فاجتهدوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فقمن أَن يُسْتَجَاب لكم رَوَاهُ مُسلم فَجعل التَّعْظِيم فِي الرُّكُوع أخص مِنْهُ بِالسُّجُود وَالتَّسْبِيح يتَضَمَّن التَّعْظِيم
فَفِي قَوْله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ إِثْبَات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده وَأما قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر فَفِي لَا إِلَه إِلَّا الله إِثْبَات محامده فَإِنَّهَا كلهَا دَاخِلَة فِي إِثْبَات إلهيته وَفِي قَوْله الله أكبر إِثْبَات عَظمته فَإِن الْكِبْرِيَاء تَتَضَمَّن العظمة وَلَكِن الْكِبْرِيَاء أكمل
وَلِهَذَا جَاءَت الْأَلْفَاظ الْمَشْرُوعَة فِي الصَّلَاة وَالْأَذَان بقول الله أكبر فَإِن ذَلِك أكمل من قَول الله أعظم كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَقُول الله تَعَالَى الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي فَمن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذبته فَجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء وَمَعْلُوم أَن الرِّدَاء أشرف فَلَمَّا كَانَ التَّكْبِير أبلغ من التَّعْظِيم صرح بِلَفْظِهِ وتضمن ذَلِك التَّعْظِيم وَفِي قَوْله سُبْحَانَ الله صرح فِيهَا بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فَصَارَ كل من الْكَلِمَتَيْنِ متضمنا معنى الْكَلِمَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ إِذا أفردتا وَعند الاقتران تُعْطِي كل كلمة خاصيتها
وَهَذَا كَمَا أَن كل اسْم من أَسمَاء الله فَإِنَّهُ يسْتَلْزم معنى الآخر لَكِن هَذَا باللزوم وَأما دلَالَة كل اسْم على خاصيته وعَلى الذَّات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أَحدهمَا بالتضمن
فَقَوْل الدَّاعِي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ يتَضَمَّن معنى الْكَلِمَات الْأَرْبَع اللَّاتِي هن أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن وَهَذِه الْكَلِمَات تَتَضَمَّن مَعَاني أَسمَاء الله الْحسنى وَصِفَاته الْعليا فَفِيهَا كَمَال الْمَدْح
وَقَوله {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} فِيهِ اعْتِرَاف بِحَقِيقَة حَاله وَلَيْسَ لأحد من الْعباد أَن يبرىء نَفسه عَن هَذَا الْوَصْف لَا سِيمَا فِي مقَام مناجاته لرَبه وَقد ثَبت فِي الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى وَقَالَ من قَالَ أَنا خير من يُونُس بن مَتى فقد كذب فَمن ظن أَنه خير من يُونُس بِحَيْثُ يعلم أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بظُلْم نَفسه فَهُوَ كَاذِب وَلِهَذَا كَانَ سَادَات الْخَلَائق لَا يفضلون أنفسهم على يُونُس فِي هَذَا الْمقَام بل يَقُولُونَ كَمَا قَالَ أبوهم آدم وخاتمهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فصل
فِي قَوْله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين}
سُئِلَ شيخ الْإِسْلَام
ابْن تَيْمِية قدس الله روحه عَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْوَة أخي ذِي النُّون {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} مَا دَعَا بهَا مكروب إِلَّا فرج الله كربته مَا معنى هَذِه الدعْوَة وَلم كَانَت كاشفة للكرب وَهل لَهَا شُرُوط باطنة عِنْد النُّطْق بلفظها وَكَيف مُطَابقَة اعْتِقَاد الْقلب لمعناها حَتَّى يُوجب كشف ضره وَمَا مُنَاسبَة ذكره {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} مَعَ أَن التَّوْحِيد يُوجب كشف الضّر وَهل يَكْفِيهِ اعترافه أم لَا بُد من التَّوْبَة والعزم فِي الْمُسْتَقْبل وَمَا هُوَ السِّرّ فِي أَن كشف الضّر وزواله يكون عِنْد انْقِطَاع الرَّجَاء عَن الْخلق والتعلق بهم وَمَا الْحِيلَة فِي انصراف الْقلب عَن الرَّجَاء للمخلوقين والتعلق بهم بِالْكُلِّيَّةِ وتعلقه بِاللَّه تَعَالَى ورجائه وانصرافه إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا السَّبَب الْمعِين على ذَلِك
فَأجَاب الْحَمد لله رب الْعَالمين
لفظ الدُّعَاء والدعوة فِي الْقُرْآن يتَنَاوَل مَعْنيين
دُعَاء الْعِبَادَة
وَدُعَاء الْمَسْأَلَة
قَالَ الله تَعَالَى {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَقَالَ {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} وَقَالَ {إِن يدعونَ من دونه إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا} وَقَالَ تَعَالَى {لَهُ دَعْوَة الْحق وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه وَمَا هُوَ ببالغه} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} وَقَالَ فِي آخر السُّورَة {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم}
قيل لَوْلَا دعاؤكم إِيَّاه وَقيل لَوْلَا دعاؤه إيَّاكُمْ فَإِن الْمصدر يُضَاف إِلَى الْفَاعِل تَارَة وَإِلَى الْمَفْعُول تَارَة وَلَكِن إِضَافَته إِلَى الْفَاعِل أقوى لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من فَاعل فَلهَذَا كَانَ هَذَا أقوى الْقَوْلَيْنِ أَي مَا يعبأ بكم لَوْلَا أَنكُمْ تَدعُونَهُ فتعبدونه وتسألونه {فقد كَذبْتُمْ فَسَوف يكون لزاما} أَي عَذَاب لَازم للمكذبين
وَلَفظ الصَّلَاة فِي اللُّغَة أَصله الدُّعَاء وَسميت الصَّلَاة دُعَاء لتضمنها معنى الدُّعَاء وَهُوَ الْعِبَادَة وَالْمَسْأَلَة
وَقد فسر قَوْله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} بِالْوَجْهَيْنِ قيل اعبدوني وامتثلوا أَمْرِي أَسْتَجِب لكم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي يستجيب لَهُم وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة يُقَال استجابه واستجاب لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
... وداع دعايا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب ...
وَقيل سلوني أعطكم
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر فَيَقُول من يدعوني فأستجيب لَهُ من يسالني فَأعْطِيه من يستغفرني فَأغْفِر لَهُ فَذكر أَولا لفظ الدُّعَاء ثمَّ ذكر السُّؤَال وَالِاسْتِغْفَار والمستغفر سَائل كَمَا أَن السَّائِل دَاع لَكِن ذكر السَّائِل لدفع الشَّرّ بعد السَّائِل الطَّالِب للخير وذكرهما جَمِيعًا بعد ذكر الدَّاعِي الَّذِي تناولهما وَغَيرهمَا فَهُوَ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام
وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان}
وكل سَائل رَاغِب رَاهِب فَهُوَ عَابِد للمسؤول وَلَك عَابِد لَهُ فَهُوَ أَيْضا رَاغِب وراهب يَرْجُو رَحمته وَيخَاف عَذَابه فَكل عَابِد سَائل وكل سَائل عَابِد فأحد الاسمين يتَنَاوَل الآخر عِنْد تجرده عَنهُ وَلَكِن إِذا جمع بَينهمَا فَإِنَّهُ يُرَاد بالسائل الَّذِي يطْلب جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة بصيغ السُّؤَال والطلب وَيُرَاد بالعابد من يطْلب ذَلِك بامتثال الْأَمر وَإِن لم يكن فِي ذَلِك صِيغ سُؤال
وَالْعَابِد الَّذِي يُرِيد وَجه الله وَالنَّظَر إِلَيْهِ هُوَ أَيْضا راج خَائِف رَاغِب رَاهِب يرغب فِي حُصُول مُرَاده ويرهب من فَوَاته قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات ويدعوننا رغبا ورهبا} وَقَالَ تَعَالَى {تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا} وَلَا يتَصَوَّر أَن يَخْلُو دَاع لله دُعَاء عبَادَة أَو دُعَاء مَسْأَلَة من الرغب والرهب من الْخَوْف والطمع
وَمَا يذكر عَن بعض الشُّيُوخ أَنه جعل الْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة فَهَذَا قد يُفَسر مُرَاده بِأَن المقربين يُرِيدُونَ وَجه الله فيقصدون التَّلَذُّذ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَإِن لم يكن هُنَاكَ مَخْلُوق يتلذذون بِهِ وَهَؤُلَاء يرجون حُصُول هَذَا الْمَطْلُوب وَيَخَافُونَ حرمانه فَلم يخلوا عَن الْخَوْف والرجاء لَكِن مرجوهم بِحَسب مطلوبهم
وَمن قَالَ من هَؤُلَاءِ لم أعبدك شوقا إِلَى جنتك وَلَا خوفًا من نارك فَهُوَ يظنّ أَن الْجنَّة اسْم لما يتمتع فِيهِ بالمخلوقات وَالنَّار اسْم لما لَا عَذَاب فِيهِ إِلَّا ألم الْمَخْلُوقَات وَهَذَا قُصُور وتقصير مِنْهُم عَن فهم مُسَمّى الْجنَّة بل كل مَا أعده الله لأوليائه فَهُوَ من الْجنَّة وَالنَّظَر إِلَيْهِ هُوَ من الْجنَّة وَلِهَذَا كَانَ أفضل الْخلق يسْأَل الله الْجنَّة ويستعيذ بِهِ من النَّار وَلما سَأَلَ بعض أَصْحَابه عَمَّا يَقُول فِي صلَاته قَالَ إِنِّي أسأَل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِاللَّه من النَّار أما إِنِّي لَا أحسن دندنتك وَلَا دندنة معَاذ فَقَالَ حولهَا فدندن
وَقد أنكر على من قَالَ هَذَا الْكَلَام يَعْنِي أَسأَلك لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك فريق من أهل الْكَلَام ظنُّوا أَن الله لَا يتلذذ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَأَنه لَا نعيم إِلَّا بمخلوق فغلط هَؤُلَاءِ فِي معنى الْجنَّة كَمَا غلط أُولَئِكَ لَكِن أُولَئِكَ طلبُوا مَا يسْتَحق أَن يطْلب وَهَؤُلَاء أَنْكَرُوا ذَلِك
وَأما التألم بالنَّار فَهُوَ أَمر ضَرُورِيّ وَمن قَالَ لَو أدخلني النَّار لَكُنْت رَاضِيا فَهُوَ عزم مِنْهُ على الرِّضَا والعزائم قد تَنْفَسِخ عِنْد وجود الْحَقَائِق وَمثل هَذَا يَقع فِي كَلَام طَائِفَة مثل سمنون الَّذِي قَالَ
... وَلَيْسَ لي فِي سواك حَظّ ... فَكيف مَا شِئْت فامتحني ...
فابتلي بعسر الْبَوْل فَجعل يطوف على صبيان الْمكَاتب وَيَقُول ادعوا لعمكم الْكذَّاب قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون}
وَبَعض من تكلم فِي علل المقامات جعل الْحبّ وَالرِّضَا وَالْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة بِنَاء على مُشَاهدَة الْقدر وَأَن من شهد الْقدر فَشهد تَوْحِيد الْأَفْعَال حَتَّى فني من لم يكن وَبَقِي من لم يزل يخرج عَن هَذِه الْأُمُور وَهَذَا كَلَام مُسْتَدْرك حَقِيقَة وَشرعا
أما الْحَقِيقَة فَإِن الْحَيّ لَا يتَصَوَّر أَن لَا يكون حساسا محبا لما يلائمة مبغضا لما ينافره وَمن قَالَ إِن إِن الْحَيّ يَسْتَوِي عِنْده جَمِيع المقدورات فَهُوَ أحد رجلَيْنِ إِمَّا أَنه لَا يتَصَوَّر مَا يَقُول بل هُوَ جَاهِل وَإِمَّا أَنه مكابر معاند وَلَو قدر أَن الْإِنْسَان حصل لَهُ حَال أَزَال عقله سَوَاء سمى اصطلاما أَو محوا أَو فنَاء أَو غشيا أَو ضعفا فَهَذَا لم يسْقط إحساس نَفسه بِالْكُلِّيَّةِ بل لَهُ إحساس بِمَا يلائمه وَمَا ينافره وَإِن سقط إحساسه بِبَعْض الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ لم يسْقط بجميعها
فَمن زعم أَن الْمشَاهد لتوحيد الربوبية يدْخل إِلَى مقَام الْجمع والفناء فَلَا يشْهد فرقا فَإِنَّهُ غالط بل لَا بُد من الْفرق فَإِنَّهُ أَمر ضَرُورِيّ
لَكِن إِذا خرج عَن الْفرق الشَّرْعِيّ بَقِي فِي الْفرق الطبعي فَيبقى مُتبعا لهواه لَا مُطيعًا لمَوْلَاهُ
وَلِهَذَا لما وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة بَين الْجُنَيْد وَأَصْحَابه ذكر لَهُم الْفرق الثَّانِي وَهُوَ أَن يفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور وَبَين مَا يُحِبهُ الله وَمَا يكرههُ مَعَ شُهُوده للقدر الْجَامِع فَيشْهد الْفرق فِي الْقدر الْجَامِع وَمن لم يفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور خرج عَن دين الْإِسْلَام
وَهَؤُلَاء الَّذين يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجمع لَا يخرجُون عَن الْفرق الشَّرْعِيّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن خَرجُوا عَنهُ كَانُوا كفَّارًا من شَرّ الْكفَّار وهم الَّذين يخرجُون إِلَى التَّسْوِيَة بَين الرُّسُل وَغَيرهم ثمَّ يخرجُون إِلَى القَوْل بوحدة الْوُجُود فَلَا يفرقون بَين الْخَالِق والمخلوق وَلَكِن لَيْسَ كل هَؤُلَاءِ ينتهون إِلَى هَذَا الْإِلْحَاد بل يفرقون من وَجه دون وَجه فيطيعون الله وَرَسُوله تَارَة كالعصاة من أهل الْقبْلَة وَهَذِه الْأُمُور مبسوطة فِي غير هَذَا الْموضع
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن لفظ الدعْوَة وَالدُّعَاء يتَنَاوَل هَذَا وَهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَفِي الحَدِيث أفضل الذّكر لَا إِلَه إِلَّا الله وَأفضل الدُّعَاء الْحَمد لله رَوَاهُ ابْن ماجة وَابْن أبي الدُّنْيَا وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره دَعْوَة أخي ذِي النُّون لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين مَا دَعَا بهَا مكروب إِلَّا فرج الله كربته سَمَّاهَا دَعْوَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن نَوْعي الدُّعَاء فَقَوله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت اعْتِرَاف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية يتَضَمَّن اُحْدُ نَوْعي الدُّعَاء فَإِن الْإِلَه هُوَ الْمُسْتَحق لِأَن يدعى دُعَاء عباده وَدُعَاء مَسْأَلَة وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
وَقَوله {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} اعْتِرَاف بالذنب وَهُوَ يتَضَمَّن طلب الْمَغْفِرَة فَإِن الطَّالِب السَّائِل تَارَة يسْأَل بِصِيغَة الطّلب وَتارَة يسْأَل بِصِيغَة الْخَبَر إِمَّا يُوصف حَاله وَإِمَّا بِوَصْف حَال المسؤول وَإِمَّا بِوَصْف الْحَالين كَقَوْل نوح عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} فَهَذَا لَيْسَ صِيغَة طلب وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن الله أَنه إِن لم يغْفر لَهُ ويرحمه خسر
وَلَكِن هَذَا الْخَبَر يتَضَمَّن سُؤال الْمَغْفِرَة وَكَذَلِكَ قَول آدم عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} هُوَ من هَذَا الْبَاب وَمن ذَلِك قَول
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} فَإِن هَذَا وصف لحاله بِأَنَّهُ فَقير إِلَى مَا أنزل الله إِلَيْهِ من الْخَيْر وَهُوَ مُتَضَمّن لسؤال الله إِنْزَال الْخَيْر إِلَيْهِ
وَقد روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من شغله قِرَاءَة الْقُرْآن عَن ذكري ومسألتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن وَرَوَاهُ مَالك بن الْحُوَيْرِث وَقَالَ من شغله ذكري عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين وأظن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ مَرْفُوعا بِهَذَا اللَّفْظ
وَقد سُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن قَوْله أفضل الدُّعَاء يَوْم عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير فَذكر هَذَا الحَدِيث وَأنْشد قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت يمدح ابْن جدعَان
أأذكر حَاجَتي أم قد كفاني
حباؤك إِن شيمتك الحباء ... إِذا أثنى عَلَيْك الْمَرْء يَوْمًا
كَفاهُ من تعرضه الثَّنَاء
قَالَ فَهَذَا مَخْلُوق يُخَاطب مخلوقا فَكيف بالخالق تَعَالَى
وَمن هَذَا الْبَاب الدُّعَاء الْمَأْثُور عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكى وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث وَعَلَيْك التكلان فَهَذَا خبر يتَضَمَّن السُّؤَال
وَمن هَذَا الْبَاب قَول أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام {أَنِّي مسني الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} فوصف نَفسه وَوصف ربه بِوَصْف يتَضَمَّن سُؤال رَحمته بكشف ضره وَهِي صِيغَة خبر تَضَمَّنت السُّؤَال وَهَذَا من بَاب حسن الْأَدَب فِي السُّؤَال وَالدُّعَاء فَقَوْل الْقَائِل لمن يعظمه ويرغب إِلَيْهِ أَنا جَائِع أَنا مَرِيض حسن أدب فِي السُّؤَال وَإِن كَانَ فِي قَوْله أَطْعمنِي وداوني وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ بِصِيغَة الطّلب طلب جازم من المسؤول فَذَاك فِيهِ إِظْهَار حَاله وإخباره على وَجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الْحَال وَهَذَا فِيهِ الرَّغْبَة التَّامَّة وَالسُّؤَال الْمَحْض بِصِيغَة الطّلب
وَهَذِه الصِّيغَة صِيغَة الطّلب والاستدعاء إِذا كَانَت لمن يحْتَاج إِلَيْهِ الطَّالِب أَو مِمَّن يقدر على قهر الْمَطْلُوب مِنْهُ وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهَا تقال على وَجه الْأَمر إِمَّا لما فِي ذَلِك من حَاجَة الطَّالِب وَإِمَّا لما فِيهِ من نفع الْمَطْلُوب فَأَما إِذا كَانَت من الْفَقِير من كل وَجهه للغني من كل وَجه فَإِنَّهَا سُؤال مَحْض بتذلل وافتقار وَإِظْهَار الْحَال
وَوصف الْحَاجة والافتقار هُوَ سُؤال بِالْحَال وَهُوَ أبلغ من جِهَة الْعلم وَالْبَيَان
وَذَلِكَ أظهر من جِهَة الْقَصْد والإرادة فَلهَذَا كَانَ غَالب الدُّعَاء من الْقسم الثَّانِي لِأَن الطَّالِب السَّائِل يتَصَوَّر مَقْصُوده وَمرَاده فيطلبه ويسأله فَهُوَ سُؤال بالمطابقة وَالْقَصْد الأول وتصريح بِهِ بِاللَّفْظِ وَإِن لم يكن فِيهِ وصف لحَال السَّائِل والمسؤول فَإِن تضمن وصف حَالهمَا كَانَ أكمل من النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ يتَضَمَّن الْخَبَر وَالْعلم الْمُقْتَضى للسؤال والإجابة ويتضمن الْقَصْد والطلب الَّذِي هُوَ نفس السُّؤَال فيتضمن السُّؤَال والمقتضى لَهُ والإجابة كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما قَالَ لَهُ عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي فَقَالَ قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
فَهَذَا فِيهِ وصف العَبْد لحَال نَفسه الْمُقْتَضِي حَاجته إِلَى الْمَغْفِرَة وَفِيه وصف ربه الَّذِي يُوجب أَنه لَا يقدر على هَذَا الْمَطْلُوب غَيره وَفِيه التَّصْرِيح بسؤال العَبْد لمطلوبه وَفِيه بَيَان الْمُقْتَضى للإجابة وَهُوَ وصف الرب بالمغفرة وَالرَّحْمَة فَهَذَا وَنَحْوه أكمل أَنْوَاع الطّلب
وَكثير من الْأَدْعِيَة يتَضَمَّن بعض ذَلِك كَقَوْل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين} فَهَذَا طلب وَوصف للْمولى بِمَا يَقْتَضِي الْإِجَابَة وَقَوله {رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي} فِيهِ وصف حَال النَّفس والطلب وَقَوله {إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} فِيهِ الْوَصْف المتضمن للسؤال بِالْحَال فَهَذِهِ أَنْوَاع لكل نوع مِنْهَا خَاصَّة
يبْقى أَن يُقَال فَصَاحب الْحُوت وَمن أشبهه لماذا ناسب حَالهم صِيغَة الْوَصْف وَالْخَبَر دون صِيغَة الطّلب
فَيُقَال لِأَن الْمقَام مقَام اعْتِرَاف بِأَن مَا أصابني من الشَّرّ كَانَ بذنبي فَأصل الشَّرّ هُوَ الذَّنب وَالْمَقْصُود دفع الضّر وَالِاسْتِغْفَار جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي فَلم يذكر صِيغَة طلب كشف الضّر لاستشعاره أَنه مسيء ظَالِم وَهُوَ الَّذِي أَدخل الضّر على نَفسه فَنَاسَبَ حَاله أَن يذكر مَا يرفع سَببه من الِاعْتِرَاف بظلمه وَلم يذكر صِيغَة طلب الْمَغْفِرَة لِأَنَّهُ مَقْصُود للْعَبد المكروب بِالْقَصْدِ الثَّانِي بِخِلَاف كشف الكرب فَإِنَّهُ مَقْصُود لَهُ فِي حَال وجوده بِالْقَصْدِ الأول إِذْ النَّفس بطبعها تطلب مَا هِيَ محتاجة إِلَيْهِ من زَوَال الضَّرَر الْحَاصِل من الْحَال قبل طلبَهَا زَوَال مَا تخَاف وجوده من الضَّرَر فِي الْمُسْتَقْبل بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَالْمَقْصُود الأول فِي هَذَا الْمقَام هُوَ الْمَغْفِرَة وَطلب كشف الضّر فَهَذَا مقدم فِي قَصده وإرادته وأبلغ مَا ينَال بِهِ رفع سَببه فجَاء بِمَا يحصل مَقْصُوده وَهَذَا يتَبَيَّن بالْكلَام على قَوْله {سُبْحَانَكَ} فَإِن هَذَا اللَّفْظ يتَضَمَّن تَعْظِيم الرب وتنزيهه وَالْمقَام يَقْتَضِي تنزيهه عَن الظُّلم والعقوبة بِغَيْر ذَنْب يَقُول أَنْت مقدس ومنزه عَن ظلمي وعقوبتي بِغَيْر ذَنْب بل أَنا الظَّالِم الَّذِي ظلمت نَفسِي قَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم} وَقَالَ {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} وَقَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا}
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِي مُسلم فِي دُعَاء الاستفتاح اللَّهُمَّ أَنْت الْملك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ سيد الاسْتِغْفَار أَن يَقُول العَبْد اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وَأَنا على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت أعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعتمك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي فَإِنَّهُ لايغفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت من قَالَهَا إِذا أصبح موقنا بهَا فَمَاتَ من يَوْمه دخل الْجنَّة وَمن قَالَهَا إِذا أَمْسَى موقنا بهَا فَمَاتَ من ليلته دخل الْجنَّة
فَالْعَبْد عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بِعدْل الله وإحسانه فَإِنَّهُ لايظلم النَّاس شَيْئا فَلَا يُعَاقب أحدا إِلَّا بِذَنبِهِ وَهُوَ يحسن إِلَيْهِم فَكل نقمة مِنْهُ عدل وكل نعْمَة مِنْهُ فضل
فَقَوله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت فِيهِ إِثْبَات انْفِرَاده بالإلهية والألهية تَتَضَمَّن كَمَال علمه وَقدرته وَرَحمته وحكمته فَفِيهَا إِثْبَات إحسانه إِلَى الْعباد فَإِن الْإِلَه هُوَ المألوه والمألوه هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يعبد وَكَونه يسْتَحق أَن يعبد هُوَ بِمَا اتّصف بِهِ من الصِّفَات الَّتِي تستلزمك أَن يكون هُوَ المحبوب غَايَة الْحبّ المخضوع لَهُ غَايَة الخضوع وَالْعِبَادَة تَتَضَمَّن غَايَة الْحبّ بغاية الذل
وَقَوله {سُبْحَانَكَ} يتَضَمَّن تَعْظِيمه وتنزيهه عَن الظُّلم وَغَيره من النقائص فَإِن التَّسْبِيح وَإِن كَانَ يُقَال يتَضَمَّن نفي النقائص وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث مُرْسل من مَرَاسِيل مُوسَى بن طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول العَبْد سُبْحَانَ الله إِنَّهَا بَرَاءَة الله من السوء فالنفي لَا يكون مدحا إِلَّا إِذا تضمن ثبوتا وَإِلَّا فالنفي الْمَحْض لَا مدح فِيهِ وَنفي السوء وَالنَّقْص عَنهُ يسْتَلْزم إِثْبَات محاسنه وكماله وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى
وَهَكَذَا عَامَّة مَا يَأْتِي بِهِ الْقُرْآن فِي نفي السوء وَالنَّقْص عَنهُ يتَضَمَّن إِثْبَات محاسنه وكماله كَقَوْلِه تَعَالَى {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} فنفي أَخذ السّنة وَالنَّوْم لَهُ يتَضَمَّن كَمَال حَيَاته وقيوميته وَقَوله {وَمَا مسنا من لغوب} يتَضَمَّن كَمَال قدرته وَنَحْو ذَلِك فالتسبيح المتضمن تنزيهه عَن السوء وَنفي النَّقْض عَنهُ يتَضَمَّن تَعْظِيمه فَفِي قَوْله {سُبْحَانَكَ} تبرئته من الظُّلم وَإِثْبَات العظمة الْمُوجبَة لَهُ بَرَاءَته من الظُّلم فَإِن الظَّالِم إِنَّمَا يظلم لِحَاجَتِهِ إِلَى الظُّلم أَو لجهله وَالله غَنِي عَن كل شَيْء عليم بِكُل شَيْء وَهُوَ غَنِي بِنَفسِهِ وكل مَا سواهُ فَقير إِلَيْهِ وَهَذَا كَمَال العظمة
وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الدُّعَاء للتهليل وَالتَّسْبِيح فَقَوله {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت} تهليل وَقَوله {سُبْحَانَكَ} تَسْبِيح وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن أَربع وَهن من الْقُرْآن سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع لَهُ وَالتَّكْبِير مقرون بالتهليل وتابع لَهُ وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ أَي الْكَلَام أفضل قَالَ مَا اصْطفى الله لملائكته سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كلمتان خفيفتان على اللِّسَان ثقيلتان فِي الْمِيزَان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم وَفِي الْقُرْآن {فسبح بِحَمْد رَبك} وَقَالَت الْمَلَائِكَة {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك}
وَهَاتَانِ الكلمتان إِحْدَاهمَا مقرونة بالتحميد وَالْأُخْرَى بالتعظيم فَإنَّا قد ذكرنَا أَن التَّسْبِيح فِيهِ نفي السوء والنقائص المتضمن إِثْبَات المحاسن والكمال وَالْحَمْد إِنَّمَا يكون على المحاسن وَقرن بَين الْحَمد والتعظيم كَمَا قرن بَين الْجلَال وَالْإِكْرَام إِذْ لَيْسَ كل مُعظم محبوبا مَحْمُودًا وَلَا كل مَحْبُوب مَحْمُودًا مُعظما وَقد تقدم أَن الْعِبَادَة تَتَضَمَّن كَمَال الْحبّ المتضمن معنى الْحَمد وتتضمن كَمَال الذل المتضمن معنى التَّعْظِيم فَفِي الْعِبَادَة حبه وحمده على المحاسن وفيهَا الذل لَهُ الناشىء عَن عَظمته وكبريائه فَفِي إجلاله وإكرامه وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحق للجلال وَالْإِكْرَام فَهُوَ مُسْتَحقّ غَايَة الإجلال وَغَايَة الْإِكْرَام
وَمن النَّاس من يحْسب أَن الْجلَال هُوَ الصِّفَات السلبية وَالْإِكْرَام الصِّفَات الثبوتية كَمَا ذكر ذَلِك الرَّازِيّ وَنَحْوه وَالتَّحْقِيق أَن كليهمَا صِفَات ثبوتية وَإِثْبَات الْكَمَال يسْتَلْزم نفي النقائص لَكِن ذكر نَوْعي الثُّبُوت وَهُوَ مَا يسْتَحق أَن يعظم كَقَوْلِه {إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} وَكَذَلِكَ قَوْله {لَهُ الْملك وَله الْحَمد} فَإِن كثيرا مِمَّن يكون لَهُ الْملك والغنى لَا يكون مَحْمُودًا بل مذموما إِذْ الْحَمد يتَضَمَّن الْإِخْبَار عَن الْمَحْمُود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إِخْبَارًا بمحاسن المحبوب محبَّة لَهُ
وَكثير مِمَّن لَهُ نصيب من الْحَمد والمحبة يكون فِيهِ عجز وَضعف وذل يُنَافِي العظمة والغنى وَالْملك فَالْأول يهاب وَيخَاف وَلَا يحب وَهَذَا يحب ويحمد وَلَا يهاب وَلَا يخَاف والكمال اجْتِمَاع الوصفين كَمَا ورد فِي الْأَثر أَن الْمُؤمن رزق حلاوة ومهابة وَفِي نعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ من رَآهُ بديهة هابه وَمن خالطه معرفَة أحبه فقرن التَّسْبِيح بالتحميد وَقرن التهليل بِالتَّكْبِيرِ كَمَا فِي كَلِمَات الْأَذَان ثمَّ إِن كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ يتَضَمَّن الآخر إِذا أفرد فَإِن التَّسْبِيح والتحميد يتَضَمَّن التَّعْظِيم ويتضمن إِثْبَات مَا يحمد عَلَيْهِ وَذَلِكَ يسْتَلْزم الإلهية فَإِن الإلهية تَتَضَمَّن كَونه محبوبا بل تَتَضَمَّن أَنه لَا يسْتَحق كَمَال الْحبّ إِلَّا هُوَ وَالْحَمْد هُوَ الْإِخْبَار عَن الْمَحْمُود بِالصِّفَاتِ الَّتِي يسْتَحق أَن يجب فالإلهية تَتَضَمَّن كَمَال الْحَمد وَلِهَذَا كَانَ الْحَمد لله مِفْتَاح الْخطاب وكل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أجدم وَسُبْحَان الله فِيهَا إِثْبَات عَظمته كَمَا قدمْنَاهُ وَلِهَذَا قَالَ {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم رَوَاهُ أهل السّنَن وَقَالَ اما الرُّكُوع فَعَظمُوا فِيهِ الرب وَأما السُّجُود فاجتهدوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فقمن أَن يُسْتَجَاب لكم رَوَاهُ مُسلم فَجعل التَّعْظِيم فِي الرُّكُوع أخص مِنْهُ بِالسُّجُود وَالتَّسْبِيح يتَضَمَّن التَّعْظِيم
فَفِي قَوْله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ إِثْبَات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده وَأما قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر فَفِي لَا إِلَه إِلَّا الله إِثْبَات محامده فَإِنَّهَا كلهَا دَاخِلَة فِي إِثْبَات إلهيته وَفِي قَوْله الله أكبر إِثْبَات عَظمته فَإِن الْكِبْرِيَاء تَتَضَمَّن العظمة وَلَكِن الْكِبْرِيَاء أكمل
وَلِهَذَا جَاءَت الْأَلْفَاظ الْمَشْرُوعَة فِي الصَّلَاة وَالْأَذَان بقول الله أكبر فَإِن ذَلِك أكمل من قَول الله أعظم كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَقُول الله تَعَالَى الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي فَمن نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذبته فَجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء وَمَعْلُوم أَن الرِّدَاء أشرف فَلَمَّا كَانَ التَّكْبِير أبلغ من التَّعْظِيم صرح بِلَفْظِهِ وتضمن ذَلِك التَّعْظِيم وَفِي قَوْله سُبْحَانَ الله صرح فِيهَا بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فَصَارَ كل من الْكَلِمَتَيْنِ متضمنا معنى الْكَلِمَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ إِذا أفردتا وَعند الاقتران تُعْطِي كل كلمة خاصيتها
وَهَذَا كَمَا أَن كل اسْم من أَسمَاء الله فَإِنَّهُ يسْتَلْزم معنى الآخر لَكِن هَذَا باللزوم وَأما دلَالَة كل اسْم على خاصيته وعَلى الذَّات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أَحدهمَا بالتضمن
فَقَوْل الدَّاعِي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ يتَضَمَّن معنى الْكَلِمَات الْأَرْبَع اللَّاتِي هن أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن وَهَذِه الْكَلِمَات تَتَضَمَّن مَعَاني أَسمَاء الله الْحسنى وَصِفَاته الْعليا فَفِيهَا كَمَال الْمَدْح
وَقَوله {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} فِيهِ اعْتِرَاف بِحَقِيقَة حَاله وَلَيْسَ لأحد من الْعباد أَن يبرىء نَفسه عَن هَذَا الْوَصْف لَا سِيمَا فِي مقَام مناجاته لرَبه وَقد ثَبت فِي الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى وَقَالَ من قَالَ أَنا خير من يُونُس بن مَتى فقد كذب فَمن ظن أَنه خير من يُونُس بِحَيْثُ يعلم أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بظُلْم نَفسه فَهُوَ كَاذِب وَلِهَذَا كَانَ سَادَات الْخَلَائق لَا يفضلون أنفسهم على يُونُس فِي هَذَا الْمقَام بل يَقُولُونَ كَمَا قَالَ أبوهم آدم وخاتمهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم