قال، رحمه الله:
"كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله فى حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذى خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته، فلو عرف العبد كل شىء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره.وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شىء على النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل فى طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلى بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهى التى أهلكتهم، فالصبر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فتفرد العبد فى طريق طلبه دليل على صدق طلبه.
ولقد سُئِلَ إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنه. فقيل له: إن أخاك أحمد ابن حنبل يقول فيها بمثل ذلك. فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقنى عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس. فإذا رأى الرائى الشمس لم يحتج فى علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه.
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء به الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا" لأن الحق هو الذى كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودى: "صحبت معاذا باليمن. فما فارقته حتى واريته فى التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهى الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال قلت: يا أصحاب محمد ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرنى بالجماعة وتحضنى عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهى الفريضة، وصل مع الجماعة وهى نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدرى ما الجماعة؟ قلت: لا: قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك" وفى طريق أخرى: "فضرب على فخذى وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة. وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل"، قال نعيم بن حماد: "يعنى إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" ذكره البيهقى وغيره.وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصرى قال: "السنة، والذى لا إله إلا هو بين الغالى والجافى، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقى: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف فى إترافهم، ولا مع أهل البدع فى بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا".
وكان محمد بن أسلم الطوسى، الإمام المتفق على إمامته، مع رتبته أتبع الناس للسنة فى زمانه، حتى قال: "ما بلغنى سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا، فما مكنت من ذلك"، فسئل بعض أهل العلم فى زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَعَلَيكُمْ بِالسَّوَادِ الأعْظَمِ". فقال: "محمد بن أسلم الطوسى هو السواد الأعظم" وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التى من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا.
والمقصود: أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دوائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى، والقلب المريض بضد ذلك.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء.
ومن علامات صحته أيضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبىِّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر: "كُنْ فى الدُّنْيا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القبُورِ".فَحَى عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ ... فَإِنهَامَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوِّ، فَهَلْ ... تَرَىنَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه "إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.
قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، وقال آخر "إنه ليمر بى أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة فى مثل هذا إنهم لفى عيش طيب".
وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
وقال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب فى ذكر الحى الذى لا يموت، والعيش الهنى الحياة مع الله تعالى لا غير".
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟،.
وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات".
وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل واحد بالنظر إليه".
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْدُه وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشرب.
ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا، وأن يكون فى الله.
ومن علامات صحته: أنه إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه.
ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله.
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره فى حق الله.
فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحى السليم.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذى همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها:
{يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] .
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدى إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتى بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتى المحب المتيم فى محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهى أحس من قلبه ناطقا ينطق: "لبَّيْك وسعديك، إنى سامع مطيع ممتثل، ولك على المنَّة فى ذلك، والحمد فيه عائد إليك".
وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: "أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لى إن لم تصبرنى، ولا قوة لى إن لم تحملنى وتقونى، لا ملجأ لى منك إلا إليك ولا مستعان لى إلا بك، ولا انصراف لى عن بابك، ولا مذهب لى عنك".
فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى:
وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ
وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا
فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:
ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى ... إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا
أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به ... مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا
فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز
والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.
سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ... وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ
تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه." ا.ه
---
المصدر: الباب العاشر من كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان".لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المكنى بابن قيم الجوزية، رحمه الله.
"كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله فى حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذى خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته، فلو عرف العبد كل شىء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره.وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شىء على النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل فى طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلى بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهى التى أهلكتهم، فالصبر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فتفرد العبد فى طريق طلبه دليل على صدق طلبه.
ولقد سُئِلَ إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنه. فقيل له: إن أخاك أحمد ابن حنبل يقول فيها بمثل ذلك. فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقنى عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس. فإذا رأى الرائى الشمس لم يحتج فى علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه.
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء به الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا" لأن الحق هو الذى كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودى: "صحبت معاذا باليمن. فما فارقته حتى واريته فى التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهى الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال قلت: يا أصحاب محمد ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرنى بالجماعة وتحضنى عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهى الفريضة، وصل مع الجماعة وهى نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدرى ما الجماعة؟ قلت: لا: قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك" وفى طريق أخرى: "فضرب على فخذى وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة. وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل"، قال نعيم بن حماد: "يعنى إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" ذكره البيهقى وغيره.وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصرى قال: "السنة، والذى لا إله إلا هو بين الغالى والجافى، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقى: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف فى إترافهم، ولا مع أهل البدع فى بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا".
وكان محمد بن أسلم الطوسى، الإمام المتفق على إمامته، مع رتبته أتبع الناس للسنة فى زمانه، حتى قال: "ما بلغنى سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا، فما مكنت من ذلك"، فسئل بعض أهل العلم فى زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَعَلَيكُمْ بِالسَّوَادِ الأعْظَمِ". فقال: "محمد بن أسلم الطوسى هو السواد الأعظم" وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التى من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا.
والمقصود: أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دوائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى، والقلب المريض بضد ذلك.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء.
ومن علامات صحته أيضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبىِّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر: "كُنْ فى الدُّنْيا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القبُورِ".فَحَى عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ ... فَإِنهَامَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوِّ، فَهَلْ ... تَرَىنَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه "إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.
قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، وقال آخر "إنه ليمر بى أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة فى مثل هذا إنهم لفى عيش طيب".
وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
وقال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب فى ذكر الحى الذى لا يموت، والعيش الهنى الحياة مع الله تعالى لا غير".
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟،.
وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات".
وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل واحد بالنظر إليه".
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْدُه وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشرب.
ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا، وأن يكون فى الله.
ومن علامات صحته: أنه إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه.
ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله.
ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره فى حق الله.
فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحى السليم.
وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذى همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها:
{يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] .
فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدى إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتى بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتى المحب المتيم فى محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهى أحس من قلبه ناطقا ينطق: "لبَّيْك وسعديك، إنى سامع مطيع ممتثل، ولك على المنَّة فى ذلك، والحمد فيه عائد إليك".
وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: "أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لى إن لم تصبرنى، ولا قوة لى إن لم تحملنى وتقونى، لا ملجأ لى منك إلا إليك ولا مستعان لى إلا بك، ولا انصراف لى عن بابك، ولا مذهب لى عنك".
فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى:
وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ
وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا
فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:
ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى ... إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا
أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به ... مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا
فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز
والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.
سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ... وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ
تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه." ا.ه
---
المصدر: الباب العاشر من كتاب "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان".لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المكنى بابن قيم الجوزية، رحمه الله.