بسم الله الرحمن الرحيم
التَّعْلِيقُ عَلَى حَدِيث (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْت..)
فضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله تعالى
التَّعْلِيقُ عَلَى حَدِيث (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْت..)
فضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله تعالى
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علمًا ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أمَّا بعدُ معاشر الكرام : الحديث في هذه الأمسية وهذه الليلة -التي نسأل الله عز وجل أن يعمرها لنا أجمعين بالخير والبركة والنفع والفائدة- مذاكرةٌ مع حديثٍ عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ؛ وهو معدودٌ في جوامع كلِم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في وصيَّته عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن فقال عليه الصلاة والسلام في وصيته له : ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) .
هذا الحديث العظيم مشتملٌ على جماع الوصايا وأهمها وأعظمها ، ومشتملٌ على أصول المعاملة ؛ المعاملة بين العبد وربه ، والمعاملة فيما تخص العبد في نفسه ، والمعاملة بينه وبين الخلق ، فهو مشتمل على ثلاثة أصول عظيمة للمعاملة .
- أما الأصل الأول في معاملة العبد مع ربه جل وعلا أن تكون قائمة على التقوى ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ)) ، والتقوى: هي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من خلقه كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }[النساء:131] ، وتقوى الله عز وجل : أن تجعل بينك وبين ما تخشاه من سخط الله وعقابه وقايةً تقيك ؛ وذلك إنما يكون بفعل المأمور وترك المحظور ، بفعل الواجبات وترك المحرمات ، ولهذا فإن من أحسن ما عُرِّفت به التقوى قول أحد التابعين : «تقوى الله عز وجل : أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله» . فهذا أصل عظيم جدًا تنبني عليه سعادة العبد وفلاحه في دنياه وأخراه ؛ أن يكون متقيًا لربه أينما كان ، قال ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ)) ، لأنك أينما تكون في ليلٍ أو نهار ، في برٍّ أو بحر ، في سرٍ أو علانية ، فربُّ العالمين سبحانه وتعالى مطَّلع عليك لا تخفى عليه من العباد خافية ، يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
ولهذا من الأصول العظيمة التي تقوم عليها سعادة العبد في دنياه وأخراه أن يكون متقيًا لله حيثما كان ، ومن عزم على سفر إلى بلدٍ ما يجمل أن يوصى بهذه الوصية ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ)) ؛ لأن الإنسان إذا اغترب عن بلده وذهب إلى مكان لا يُعرف فيه تقِل عنده كثير من الآداب إلا من حفظه الله ؛ ولهذا يقال «يا غريب كن أديب» لأنه تقل عنده كثير من الآداب لأنه لا أحد يعرفه ، ولهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه له أن يراعي هذا الأصل أينما كان وفي أي بلد حل وفي أي مكان نزل ، وأن تكون المراقبة ليست للناس وإنما لله ، وأن يكون الخوف ليس من الناس وإنما من الله ، الخشية ليست من الناس وإنما من الله تبارك وتعالى ، مثل ذلك الخلوة خلوة الإنسان تقل عنده كثير من الأمور إذا كان في الخلوة حيث لا يراه أحد من الناس ، وكثير من المخالفات تقع في الخلوة ، بينما إذا تذكر هذا الأصل ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ)) صلحت حاله واستقام أمره ، ولهذا اتفق أهل العلم على أن أكبر زاجر وأعظم رادع أن تعلم أن الله يراك وأنه سبحانه وتعالى مطلع عليك ، وكلما كان العبد مستحضرًا لهذا الأصل مستذكرًا له استقام أمره وصلحت حاله بإذن الله سبحانه وتعالى . والنبي عليه الصلاة والسلام أشار في الحديث الآخر إلى صدره الشريف عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وقال : ((التَّقْوَى هَا هُنَا ، التَّقْوَى هَا هُنَا..)) يشير إلى صدره ؛ وهذا فيه أن منبع التقوى وأساسها القلب الذي إذا صلح بالتقوى واستقام بها استقامت الجوارح كلها كما قال عليه الصلاة والسلام : ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) . جعلنا الله أجمعين من عباده المتقين وأوليائه المقربين.
- ثم في هذا الحديث حديث معاذ في وصية النبي صلى الله عليه وسلم له ذكر الأصل الثاني في المعاملة في قوله عليه الصلاة والسلام : ((وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا)) ؛ وهذا فيه أن العبد لا يسلم من السيئات ، مهما جاهد نفسه على إقامة التقوى ومهما جاهد نفسه على إصلاح نفسه لابد من الخطأ ولابد من التقصير ولابد من الذنب لابد من التفريط ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر : ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)) ؛ فابن آدم لابد أن يقع في الزلة والزلتين والثلاث والأكثر ، لا يسْلم من الخطأ ، لا يسْلم من المعصية ، لا يسْلم من التقصير ، لا يسْلم من الظلم لنفسه ، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر لما طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلِّمه دعاءً يدعو الله به في صلاته وفي بيته قال : ((قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا)) وأبو بكر خير أمة محمد وأفضلهم رضي الله عنه وأرضاه ويعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء يقول «عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي وفي بيتي» ورواية «في بيتي» ثابتة قال: ((قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) .
ولهذا العبد لابد من وقوعه في الأخطاء والسيئات والذنوب ؛ ولهذا وجَّهه عليه الصلاة والسلام لهذا القصور الذي لا ينفك عن العبد ولا يسلم منه أن يعمل في حياته على الاستكثار من الحسنات ، وكلما تهيأت له فرصة لفعل الحسنات انتهزها واجتهد على أن يستكثر من الحسنات ولاسيما ما كان من المواسم العظيمة ، يعني مثلا الآن مر معنا قريبًا يوم عاشوراء ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : ((أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)) ؛ فينبغي على العبد أن يستكثر من الحسنات وأن يجتهد في اكتسابها وتحصيلها ، وأيضا أن يجتهد في باب الحسنات في الأعمال المضاعفة والثواب المضاعف والأجر المضاعف والذكر المضاعف ، يحرص على الفقه في هذا الباب ، والإمام ابن سعدي رحمه الله تعالى له رسالة قيمة في صفحات قلائل لكن ثمينة جدًا في الأسباب التي يضاعف بها الثواب ؛ هذا باب عظيم جدا ينبغي على المسلم أن يفقهه حتى يستكثر ، يعني انظر على سبيل المثال في المضاعفة في الثواب حديث جويرية لما مر بها النبي عليه الصلاة والسلام وهي في مصلَّاها تذكر الله من بعد صلاتها للفجر إلى الضحى فرجع إليها عليه الصلاة والسلام وقال : ((لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)) ؛ هذا يسميه العلماء «الذِّكر المضعَّف» يعني الذي ثوابه مضاعف عند الله سبحانه وتعالى .
فالفقه في هذا الباب والاستكثار من الحسنات عمومًا والعناية بهذا الأمر العظيم كله داخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث ((وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا)) ؛ فيحرص على أن يستكثر من الحسنات ولا يحقرن من المعروف شيئًا ، وباب الحسنات واسع جدًا ؛ فينبغي على العبد أن يغنم من الحسنات والطاعات ما استطاع من ذلك ، ((وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا)) .
- ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الأصل الثالث في المعاملة مع الخلق قال : ((وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) أي عاملهم بالمعاملة الطيبة الكريمة ، بالأدب العالي الرفيع ، بما تحب أن تعامَل به ؛ فإن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، بل قال عليه الصلاة والسلام : ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) ، وقال في الحديث الآخر : ((وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ)) .
والخلق الحسن يتعلق بالقلب وبالعمل الظاهر :
§ أما القلب فقوام ذلك ما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) ، بل لا يستقيم للمرء خُلُق ولا ينهض لفعل أدب إلا إذا صلح قلبه بهذه المحبة لإخوانه المسلمين ، يحب لهم ما يحب لنفسه ، أما من كان لا يحب إخوانه ما يحب لنفسه وانطوى قلبه والعياذ بالله على الحسد وعلى الغل وعلى الضغينة لا يمكن أن ينهض من كان هذا حال قلبه إلى الأخلاق العالية والآداب الكريمة الرفيعة .
§ وأما جانب المعاملة الظاهرة فقوامها ما جاء في الحديث الآخر حديث عمرو بن العاص : ((وَتَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ)) ؛ أي عاملهم بالمعاملة التي ترضاها لنفسك ، هذا هو الخلق الحسن ؛ المعاملة التي ترضى أن تعامَل بها وترغب أن تعامل بها عامل الناس بها فهي الخلق الحسن ، في أي باب يعني مثلا معاملة الابن لوالده متى يعرف الابن أنه فعلًا يعامِل والده بالخلق الحسن ؟ إذا تأمل الابن في معاملته لوالده هل يرضاها لنفسه لو كان هو الأب أو لا يرضاها ؟ هل يحب أن يعامَل بها أو لا يحب؟ إن كان لا يحب أن يعامل بها فهذا من سوء الخلق لأنه لا يحب ذلك .
فقوام المعاملة الحسنة والخلق الحسن أن تأتي للناس الشيء الذي تحب أن يؤتى إليك ، مثلا معاملة الطالب مع استاذه إذا أردت أن تعرف هل معاملتك مع استاذك هي من الخلق الحسن أو لا ؟ فانظر في أمرك لو كنت أنت المعلم وعوملت بمثل هذه المعاملة التي عاملته بها هل ترضاها أو لا ترضاها ؟ فقوِّم نفسك بنفسك وفق هذا الحديث ((أن تأتي الناس الذي تحب أن يؤتى إليك)) ؛ وهذا أصل عظيم جدا شريف في هذا الباب يضبط المرء من خلاله نفسه ويقوِّم سلوكه ويقوِّم خُلقه ، في البيع والشراء إذا تعاملت مع بائع فانظر إلى المعاملة التي عاملته بها إن كنت ترضاها لنفسك لو كنت أنت البائع فهي الخلق الحسن ، يعني مثلا تأتي إلى البائع وتشتري منه ثم ترمى النقود رميًا لو كنت مكانه ما ترضى ولا تقبل بذلك فالإنسان يستطيع في ضوء هذا الحديث في كل باب من الأبواب وموقف من المواقف أن يعرف هل هذا التعامل الذي يتعامل به مع الناس من الخلق الحسن أو لا ؟ إن كان يعاملهم بما يحب أن يعامل به فهذا هو الخلق الحسن .
الحاصل أن هذا الحديث جمع لك الخير كله وجمع لك أصول المعاملة بينك وبين الله ، وبينك وبين نفسك ، وبينك وبين العباد .
ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن ينفعنا أجمعين بما علَّمنا وأن يزيدنا علما ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما . أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .