إصلاح القلوب
إنَّ أهمَّ ما ينبغي على المسلم إصلاحه والعناية به قلبه الذي بين جنبيه ، فإن القلب هو أساس الأعمال ، وأصل حركات البدن ، وهو لها بمثابة الملك لجنده ؛ فإن طاب القلب طاب البدن ، وإن فسدَ فسد .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يهتم بإصلاح القلب غاية الاهتمام ويعنى به تمام العناية ، ويوصي بذلك في كثير من أحاديثه الشريفة ويضمِّن ذلك كثيراً من أدعيته المنيفة ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا)) [1] ، ويقول في دعائه : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ)) [2] ، ويقول في دعائه أيضاً : ((اللَّهُمَّ نَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ)) [3] ، ويقول أيضاً : ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا )) [4] ، وكان يقول : ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) [5] .
إنَّ الواجب على كل مسلم أن يهتم بتزكية قلبه وإصلاحه وتنقيته مع عنايته بإصلاح ظاهره واهتمامه بتكميل الأعمال ، إذ لا عبرة بصلاح الظاهر مع فساد الباطن ، ومتى ما أصلح المسلم قلبه بالأعمال الزاكية والإخلاص والصدق والمحبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم استقامت جوارحه وصلح ظاهره كما في حديث النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ )) [6]
فهذا الحديث العظيم فيه أوضح إشارة إلى أنَّ صلاح حركات العبد الظاهرة بحسب صلاح حركة قلبه وباطنه ، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات جوارحه كلها ، بخلاف ما إذا كان غالبه فاسداً قد استولى عليه حب الهوى واتباع الشهوات وتقديم حظوظ النفس فإن كان كذلك فسدت حركات جوارحه كلها .
ولهذا يقال : القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده ، وهم مع هذا جنود طائعون له ، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفون في شيء من ذلك ، فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة ، وإن كان فاسداً كانت جنوده بسبب هذا فاسدة .
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (8 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88-89] ، والقلب السليم : هو السالم من الآفات والمكروهات كلها ، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشية ما يباعد منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ثُمَّ الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ وَإِرَادَةٌ سَرَى ذَلِكَ إلَى الْبَدَنِ بِالضَّرُورَةِ ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْبَدَنُ عَمَّا يُرِيدُهُ الْقَلْبُ ... فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا قَلْبِيًّا لَزِمَ ضَرُورَةُ صَلَاحِ الْجَسَدِ بِالْقَوْلِ الظَّاهِرِ وَالْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ " .
ولهذا فإنَّ من أعظم ما يقوِّي إيمان الشخص الظاهر والباطن : أن يجاهد نفسه مجاهدة تامة في إصلاح قلبه وعمارته بمحبة الله ، ومحبة ما يحبه ، وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، ومن تمَّ له هذا تمَّ له إيمانه .
ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ ؛ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)) [7] . ومعنى هذا : أنَّ كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك باطناً وظاهرا ، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده ، سارعت إلى ما فيه رضاه ، وكفَّت عما يكرهه وعما يخشى أن يكون مما يكره وإن لم يتيقن ذلك .
إنَّ القلب لا يخلو بحال من الفكر ؛ إمَّا في واجب آخرته ومصالحها ، وإمَّا في مصالح دنياه ومعاشه ، وإمَّا في الوساوس الباطلة والأماني الفاسدة والمقدرات المفروضة ، ومن كان يريد إصلاح قلبه فعليه أن يشغل فكره بما فيه صلاحه وفلاحه المحقق ، ففي باب العلوم والتصورات يشغله بمعرفة ما يلزم من التوحيد وحقوقه ، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة أو النار ، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها . وفي باب الإرادات والعزوم يشغله بإرادة ما ينفع إرادته وطرح إرادة ما يضر إرادته ، وبذلك يكون المرء صحيحاً وقلبه سليماً مطمئناً .
إنَّ أعظم عون للعبد على ذلك هو تكثير الشواهد النافعة في القلب لتقوى صلته بالله ويزداد يقينه ويكمل إيمانه ، وقد أشار العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " مدارج السالكين " إلى جملة عظيمة من هذه الشواهد القلبية التي يعلم بها حقيقة هذا الأمر ، قال رحمه الله : " فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ... فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة ، وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير ... ثم يقوم بقلبه شاهدٌ من النار وتوقدها واضطرامها وبُعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سُود الوجوه زُرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم ، فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفا ... فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولبِس ثياب الخوف والحذر ... وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات ... فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعدَّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فضلا عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور . فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم الدائم بحذافيره فيها ، تربتها المسك ، وحصباؤها الدر ، وبناؤها لَبِنُ الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ ، وشرابها أحلى من العسل ، وأطيب رائحة من المسك ، وأبرد من الكافور ، وألذ من الزنجبيل ، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس ، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق ، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور ، وفاكهتهم دائمة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وفرش مرفوعة ، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون ، وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون ، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، فهم على الأرائك متكئون ، وفي تلك الرياض يحبرون ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون .
فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة ... فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها ، فلا يلتفت في طريقه يمينا ولا شمالا".
إن هذه الشواهد العظيمة إذا اعتنى بها العبد في حياته وأعمل فكره فيها كانت أعظم عون له على تطهير قلبه وتنزيهه من الأوصاف المذمومة والإرادات السافلة ، وعلى تخليته وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه ، وكانت أعظم باعث له على العبادة والمحبة والخشية والإنابة والافتقار إلى الله والسعي في مرضاته تبارك وتعالى .
ثم إنَّ الفتن التي تصيب القلوب نوعان :
1- فتن الشهوات .
2- وفتن الشبهات والغي والضلال .
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) [8]
فقسَّم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث القلوب عند عرض الفتن عليها إلى قسمين :
1- قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها القلب كما يشرب السفنج الماء فنكت فيه نكتة سوداء ، فلا يزال يُشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود ويتنكر ، وهو معنى قوله : ((كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا)) أي منكوساً ، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطيران :
أحدهما : اشتباه المعروف عليه بالمنكر ؛ فلا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكرا ، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، والحق باطلاً والباطل حقا .
والثاني : تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وانقياده للهوى واتباعه له .هذا قسم .
2- والقسم الثاني : قلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه ، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردَّها فازداد نوره وإشراقه وقوته .
إنَّ الواجب على كل مسلم أن يهتمَّ بسلامة قلبه عندما تشرئب الفتن وتكثر البدع ويعظم الجهل بدين الله ، والله تعالى يقول : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] .
*********
____________
[1] متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : رواه البخاري (6316) ومسلم (763) .
[2] رواه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
[3] عليه من حديث عائشة رضي الله عنها : رواه البخاري (6375) ومسلم (589) [بعد الحديث (2705) ] .
[4] رواه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه .
[5] رواه الترمذي (2140) من حديث أنس رضي الله عنه ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1739).
[6] رواه البخاري (52) ، ومسلم (1599).
[7] رواه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، وصححه لغيره الألباني رحمه الله في (الصحيحة ) (380) .
[8] رواه مسلم (144) .
من موقع الشيخ