بسم الله الرحمن الرحيم
فصل : تكَرر فِي الْقُرْآن جعل الْأَعْمَال الْقَائِمَة بِالْقَلْبِ والجوارح سَبَب الْهِدَايَة والإضلال ،
فَيقوم بِالْقَلْبِ والجوارح أَعمال تَقْتَضِي الْهدى اقْتِضَاء السَّبَب لمسببه والمؤثر لأثره وَكَذَلِكَ الضلال ،
فأعمال الْبر تثمر الْهدى وَكلما ازْدَادَ مِنْهَا ازْدَادَ هدى وأعمال الْفُجُور بالضد .
وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ يحب أَعمال الْبر فيجازي عَلَيْهَا بِالْهدى والفلاح وَيبغض أَعمال الْفُجُور ويجازي عَلَيْهَا بالضلال والشقاء
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ الْبَّرُّ وَيُحب أهل البر فَيقرِّب قُلُوبهم مِنْهُ بِحَسب مَا قَامُوا بِهِ من الْبر وَيبغض الْفُجُور وَأَهله فيبعد قُلُوبهم مِنْهُ بِحَسب مَا اتصفوا بِهِ من الْفُجُور .
فَمن الأَصْل الأول قَوْله تَعَالَى {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هدى لِلْمُتقين} ، وَهَذَا يتَضَمَّن أَمريْن :
أَحدهمَا أَنه يهدي بِهِ من اتَّقى مَا خطه قبل نزُول الْكتاب فَإِن النَّاس على اخْتِلَاف مللهم ونحلهم قد اسْتَقر عِنْدهم أَن الله سُبْحَانَهُ يكره الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَالْفساد فِي الأَرْض ويمقت فَاعل ذَلِك ،
وَيُحب الْعدْل وَالْإِحْسَان والجود والصدق والإصلاح فِي الأَرْض وَيُحب فَاعل ذَلِك فَلَمَّا نزل الْكتاب أثاب سُبْحَانَهُ أهل الْبر بِأَن وفقهم للْإيمَان بِهِ جَزَاء لَهُم على برهم وطاعتهم ،
وخذل أهل الْفُجُور وَالْفُحْش وَالظُّلم بِأَن حَال بَينهم وَبَين الإهتداء بِهِ .
وَالْأَمر الثَّانِي أَن العَبْد إِذا آمن بِالْكتاب واهتدى بِهِ مُجملا وَقبل أوامره وَصدق بأخباره كَانَ ذَلِك سَببا لهداية أُخْرَى تحصل لَهُ على التَّفْصِيل فَإِن الْهِدَايَة لَا نِهَايَة لَهَا وَلَو بلغ العَبْد فِيهَا مَا بلغ ففوق هدايته هِدَايَة أُخْرَى وَفَوق تِلْكَ الْهِدَايَة هِدَايَة أُخْرَى إِلَى غير غَايَة .
فَكلما اتَّقى العَبْد ربه ارْتقى إِلَى هِدَايَة أُخْرَى فَهُوَ فِي مزِيد هِدَايَة مَا دَامَ فِي مزِيد من التَّقْوَى وَكلما فوّت خطا من التَّقْوَى فَاتَهُ حَظّ من الْهِدَايَة بِحَسبِهِ فَكلما اتَّقى زَاد هداه وَكلما اهْتَدَى زَادَت تقواه .
قَالَ تَعَالَى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وَقَالَ تَعَالَى {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} وَقَالَ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} وَقَالَ {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}
وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} .
فهداهم أَولا للْإيمَان فَلَمَّا آمنُوا هدَاهُم للْإيمَان هِدَايَة بعد هِدَايَة .
وَنَظِير هَذَا قَوْله {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدَى} .
وَقَوله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وَمن الْفرْقَان مَا يعطيهم من النُور الَّذِي يفرقون بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل والنصر والعز الَّذِي يتمكنون بِهِ من إِقَامَة الْحق وَكسر الْبَاطِل فسر الْفرْقَان بِهَذَا وَبِهَذَا .
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وَقَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شكور} فِي سُورَة لُقْمَان وَسورَة إِبْرَاهِيم وسبأ والشورى فَأخْبر عَن آيَاته المشهودة العيانية أَنَّهَا إِنَّمَا ينْتَفع بهَا أهل الصَّبْر وَالشُّكْر ،
كَمَا أخبر عَن آيَاته الإيمانية القرآنية أَنَّهَا إِنَّمَا ينْتَفع بهَا أهل التَّقْوَى والخشية والإنابة وَمن كَانَ قَصده اتّباع رضوانه وَأَنَّهَا يتَذَكَّر بهَا من يخشاه سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لمن يخْشَى} .
وَقَالَ فِي الساعة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ من يخشاها} وَأما من لَا يُؤمن بهَا وَلَا يرجوها وَلَا يخشاها فَلَا تَنْفَعهُ الْآيَات العيانية وَلَا القرآنية .
وَلِهَذَا لما ذكر سُبْحَانَهُ فِي سُورَة هود عقوبات الْأُمَم المكذبين للرسل وَمَا حل بهم فِي الدُّنْيَا من الخزي قَالَ بعد ذَلِك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَاب الْآخِرَة} فَأخْبر أَن عقوباته للمكذبين عِبْرَة لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة ،
وَأما من لَا يُؤمن بهَا وَلَا يخَاف عَذَابهَا فَلَا يكون ذَلِك عِبْرَة وَآيَة فِي حَقه إذا سمع ذَلِك قَالَ لم يزل فِي الدَّهْر الْخَيْر وَالشَّر وَالنَّعِيم والبؤس والسعادة والشقاوة وَرُبمَا أحَال ذَلِك على أَسبَاب فلكية وقوى نفسانية !!
وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْر وَالشُّكْر سَببا لانتفاع صَاحبهمَا بِالْآيَاتِ يَنْبَنِي على الصَّبْر وَالشُّكْر فنصفه صَبر وَنصفه شكر فعلى حسب صَبر العَبْد وشكره تكون قُوَّة إيمَانه وآيات الله إِنَّمَا ينْتَفع بهَا من آمن بِاللَّه وَلَا يتم لَهُ الْإِيمَان إِلَّا بِالصبرِ وَالشُّكْر ،
فَإِن رَأس الشُّكْر التَّوْحِيد وَرَأس الصَّبْر ترك إِجَابَة دَاعِي الْهوى فَإِذا كَانَ مُشْركًا مُتبعا هَوَاهُ لم يكن صَابِرًا وَلَا شكُورًا فَلَا تكون الْآيَات نافعة لَهُ وَلَا مُؤثرَة فِيه إيمانا.
فصل : تكَرر فِي الْقُرْآن جعل الْأَعْمَال الْقَائِمَة بِالْقَلْبِ والجوارح سَبَب الْهِدَايَة والإضلال ،
فَيقوم بِالْقَلْبِ والجوارح أَعمال تَقْتَضِي الْهدى اقْتِضَاء السَّبَب لمسببه والمؤثر لأثره وَكَذَلِكَ الضلال ،
فأعمال الْبر تثمر الْهدى وَكلما ازْدَادَ مِنْهَا ازْدَادَ هدى وأعمال الْفُجُور بالضد .
وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ يحب أَعمال الْبر فيجازي عَلَيْهَا بِالْهدى والفلاح وَيبغض أَعمال الْفُجُور ويجازي عَلَيْهَا بالضلال والشقاء
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ الْبَّرُّ وَيُحب أهل البر فَيقرِّب قُلُوبهم مِنْهُ بِحَسب مَا قَامُوا بِهِ من الْبر وَيبغض الْفُجُور وَأَهله فيبعد قُلُوبهم مِنْهُ بِحَسب مَا اتصفوا بِهِ من الْفُجُور .
فَمن الأَصْل الأول قَوْله تَعَالَى {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هدى لِلْمُتقين} ، وَهَذَا يتَضَمَّن أَمريْن :
أَحدهمَا أَنه يهدي بِهِ من اتَّقى مَا خطه قبل نزُول الْكتاب فَإِن النَّاس على اخْتِلَاف مللهم ونحلهم قد اسْتَقر عِنْدهم أَن الله سُبْحَانَهُ يكره الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَالْفساد فِي الأَرْض ويمقت فَاعل ذَلِك ،
وَيُحب الْعدْل وَالْإِحْسَان والجود والصدق والإصلاح فِي الأَرْض وَيُحب فَاعل ذَلِك فَلَمَّا نزل الْكتاب أثاب سُبْحَانَهُ أهل الْبر بِأَن وفقهم للْإيمَان بِهِ جَزَاء لَهُم على برهم وطاعتهم ،
وخذل أهل الْفُجُور وَالْفُحْش وَالظُّلم بِأَن حَال بَينهم وَبَين الإهتداء بِهِ .
وَالْأَمر الثَّانِي أَن العَبْد إِذا آمن بِالْكتاب واهتدى بِهِ مُجملا وَقبل أوامره وَصدق بأخباره كَانَ ذَلِك سَببا لهداية أُخْرَى تحصل لَهُ على التَّفْصِيل فَإِن الْهِدَايَة لَا نِهَايَة لَهَا وَلَو بلغ العَبْد فِيهَا مَا بلغ ففوق هدايته هِدَايَة أُخْرَى وَفَوق تِلْكَ الْهِدَايَة هِدَايَة أُخْرَى إِلَى غير غَايَة .
فَكلما اتَّقى العَبْد ربه ارْتقى إِلَى هِدَايَة أُخْرَى فَهُوَ فِي مزِيد هِدَايَة مَا دَامَ فِي مزِيد من التَّقْوَى وَكلما فوّت خطا من التَّقْوَى فَاتَهُ حَظّ من الْهِدَايَة بِحَسبِهِ فَكلما اتَّقى زَاد هداه وَكلما اهْتَدَى زَادَت تقواه .
قَالَ تَعَالَى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وَقَالَ تَعَالَى {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} وَقَالَ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} وَقَالَ {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}
وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} .
فهداهم أَولا للْإيمَان فَلَمَّا آمنُوا هدَاهُم للْإيمَان هِدَايَة بعد هِدَايَة .
وَنَظِير هَذَا قَوْله {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدَى} .
وَقَوله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وَمن الْفرْقَان مَا يعطيهم من النُور الَّذِي يفرقون بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل والنصر والعز الَّذِي يتمكنون بِهِ من إِقَامَة الْحق وَكسر الْبَاطِل فسر الْفرْقَان بِهَذَا وَبِهَذَا .
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وَقَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شكور} فِي سُورَة لُقْمَان وَسورَة إِبْرَاهِيم وسبأ والشورى فَأخْبر عَن آيَاته المشهودة العيانية أَنَّهَا إِنَّمَا ينْتَفع بهَا أهل الصَّبْر وَالشُّكْر ،
كَمَا أخبر عَن آيَاته الإيمانية القرآنية أَنَّهَا إِنَّمَا ينْتَفع بهَا أهل التَّقْوَى والخشية والإنابة وَمن كَانَ قَصده اتّباع رضوانه وَأَنَّهَا يتَذَكَّر بهَا من يخشاه سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لمن يخْشَى} .
وَقَالَ فِي الساعة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ من يخشاها} وَأما من لَا يُؤمن بهَا وَلَا يرجوها وَلَا يخشاها فَلَا تَنْفَعهُ الْآيَات العيانية وَلَا القرآنية .
وَلِهَذَا لما ذكر سُبْحَانَهُ فِي سُورَة هود عقوبات الْأُمَم المكذبين للرسل وَمَا حل بهم فِي الدُّنْيَا من الخزي قَالَ بعد ذَلِك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَاب الْآخِرَة} فَأخْبر أَن عقوباته للمكذبين عِبْرَة لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة ،
وَأما من لَا يُؤمن بهَا وَلَا يخَاف عَذَابهَا فَلَا يكون ذَلِك عِبْرَة وَآيَة فِي حَقه إذا سمع ذَلِك قَالَ لم يزل فِي الدَّهْر الْخَيْر وَالشَّر وَالنَّعِيم والبؤس والسعادة والشقاوة وَرُبمَا أحَال ذَلِك على أَسبَاب فلكية وقوى نفسانية !!
وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْر وَالشُّكْر سَببا لانتفاع صَاحبهمَا بِالْآيَاتِ يَنْبَنِي على الصَّبْر وَالشُّكْر فنصفه صَبر وَنصفه شكر فعلى حسب صَبر العَبْد وشكره تكون قُوَّة إيمَانه وآيات الله إِنَّمَا ينْتَفع بهَا من آمن بِاللَّه وَلَا يتم لَهُ الْإِيمَان إِلَّا بِالصبرِ وَالشُّكْر ،
فَإِن رَأس الشُّكْر التَّوْحِيد وَرَأس الصَّبْر ترك إِجَابَة دَاعِي الْهوى فَإِذا كَانَ مُشْركًا مُتبعا هَوَاهُ لم يكن صَابِرًا وَلَا شكُورًا فَلَا تكون الْآيَات نافعة لَهُ وَلَا مُؤثرَة فِيه إيمانا.
(كتاب الفوائد ، ص206-209 : للإمام ابن القيم رحمه الله)