تنبيهُ الغافلِ إلَى مَا فِي تنظيفِ المساجدِ منَ الفضائلِ
الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على نبيه محمد الأمين، و على آله الطاهرين، و صحبه الأكرمين، و من اتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الله تعالى شرع الاجتماع في دينه و حث عليه و ذم الفرقة و نهى عنها حيث قال ممتنا على عباده {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران 103].
و قال تعالى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال 63].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره (ص 303) : "(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فاجتمعوا و ائتلفوا، و ازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، و لم يكن هذا بسعي أحد، و لا بقوة غير قوة الله".
و قال تعالى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى 13].
و جاء الأمر بالاجتماع و النهي عن الفرقة في سنة النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال : "إن الله أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث أمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا وتسمعوا وتطيعوا لمن ولاه الله عز وجل أمركم ونهاكم عن قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، و صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (685).
و روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
و إن الله تعالى شرع لعباده عبادات يجتمعون فيها، شرع لهم من الصلاة صلاة الجماعة، و الجمعة، و العيد، و الجنائز و غيرها، و شرع لهم الحج، و الجهاد، و غيرها من العبادات التي يجتمع المسلمون فيها في مكان واحد يعبدون ربا واحدا.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" هذا لفظ البخاري و لفظ مسلم : "أفضل".
و روى الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (8200).
و للبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : "أفضل الأيام عند الله يوم الجمعة وهو شاهد، ومشهود يوم عرفة، واليوم الموعود يوم القيامة" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (109.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في فتح القدير (5/411) : "و المشهود يوم عرفة؛ لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج، و تحضره الملائكة".
قال الأمير الصنعاني في التنوير بشرح الجامع الصغير (11/209) : "(و المشهود) المذكور في الآية أيضا (يوم عرفة) لأن الناس يشهدونه و يحضرونه و يجتمعون فيه".
و إنه قد شرع في ديننا أماكن يجتمع في المؤمنون لعبادة ربهم، و من تلكم الأماكن المساجد، شرعها الله تعالى ليجتمع فيها عباده على ذكره و عبادته فقال تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور 36].
و ذم الله تعالى من منع عباده من الاجتماع فيها لعبادة الله و ذكره فقال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة 114].
و هذه المساجد لها الفضائل الكبيرة الكثيرة في شريعتنا، و من هذه الفضائل :
أن المساجد خير البقاع : روى الحاكم في المستدرك عن ابن عمر، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله أي البقاع خير؟ فقال : "لا أدري" فقال : أي البقاع شر؟ فقال : "لا أدري" فقال : سل ربك، قال : فلما نزل جبريل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني سئلت أي البقاع خير وأي البقاع شر؟ فقلت : لا أدري" فقال : جبريل : وأنا لا أدري حتى أسأل ربي، قال : فانتفض جبريل انتفاضة كاد أن يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله : يا جبريل يسألك محمد أي البقاع خير؟ فقلت : لا أدري، فسألك أي البقاع شر فقلت : لا أدري، وإن خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (3271).
أن المساجد بيوت الله في الأرض : روى البيهقي في الشعب عن عمرو بن ميمون الأودي، قال : أخبرنا أصحاب، رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (323).
أن المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى : روى البزار في المسند عن جبير بن مطعم أن رجلا قال : يا رسول الله أي البلدان أحب إلى الله؟ وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال : "لا أدري حتى أسأل جبريل صلى الله عليه وسلم"، فأتاه فأخبره جبريل، أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق" قال الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (325) : حسن صحيح.
و قد جاء الحث و الترغيب في بناء المساجد في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، و جاء فيها ذكر الفضل العظيم لمن قام بهذا العمل.
فمن بنى بيتا لله بنى له بيت في الجنة، روى ابن خزيمة في صحيحه عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حفر ماء لم يشرب منه كبد حري من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (963).
و لابن حبان عن أبي ذر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (269).
و بناء المسجد من الأعمال التي تلحق المؤمن بعد موته، روى ابن خزيمة و ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا كراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (275).
و إن المساجد لما فيها من اجتماع الناس فإنها تحتاج إلى تنظيم و تنظيف و تهيئة، يرفع عنها الأذى و النجاسات، و تطيب و تطهر، و هذا من تعظيمها، و تعظيمها من تعظيم ما يحبه الله جل و علا.
و قد جاء الأمر و الحث و الترغيب في هذا الأمر في شريعة ربنا :
_ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال : قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".
و لمسلم عن أنس أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوه" فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله".
و رواه أحد بلفظ : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا في المسجد وأصحابه معه، إذ جاء أعرابي فبال في المسجد، فقال أصحابه : مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزرموه دعوه"، ثم دعاه فقال له : "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم : "قم فأتنا بدلو من ماء، فشنه عليه" فأتاه بدلو من ماء فشنه عليه. صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (226.
_ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : أن امرأة -أو رجلا- كانت تقم المسجد _ولا أراه إلا امرأة- فذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى على قبرها".
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (1/715) : "(كان يقم المسجد) بقاف مضمومة أي : يجمع القمامة و هي الكناسة".
و رواه مسلم عنه بلفظ : "أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد -أو شابا- ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها -أو عنه- فقالوا : مات، قال : "أفلا كنتم آذنتموني" قال : فكأنهم صغروا أمرها -أو أمره- فقال : "دلوني على قبره" فدلوه، فصلى عليها، ثم قال : "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم".
و في لفظ عند ابن خزيمة : "أن امرأة كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (276).
_ روى أحمد في المسند عن سمرة بن جندب، قال : "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها" قال الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و التر هيب (27 : صحيح لغيره.
_ روى ابو داود عن عائشة، قالت : "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (279).
_ روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال : "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه" ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض، فقال : "أو يفعل هكذا".
و لمسلم عن أبي سعيد الخدري : "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة، ثم نهى أن يبزق الرجل عن يمينه، أو أمامه، ولكن يبزق، عن يساره أو تحت قدمه اليسرى".
هذا، و إننا سنستقبل شهرا فضيلا مباركا، شهر رمضان، شهر يجتمع الناس في المساجد ما لا يجتمعون فيها في غيره من الشهور، يمكث الناس في المساجد يشهدون الخيرات، من حلق العلم و الصلوات، شهر يجتهد فيه الناس في الطاعات و العبادات، و يجتمعون ليلا لأداء التراويح.
و عليه فإن المسجد يكون بحاجة لخدمة أكثر مما سبق من الشهور و الأيام، و عباد الله المؤمنون يحتاجون لخدمة أكثر فيه، فيحتاجون لمن ينظف و يهيئ و يطهر و يطيب مكان العبادة، و يهيء لطلاب العلم مجالس الحلق و التعلم، و يخدم المصلين بالتهوية و السقاية و غيرها، و يكون عمله من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى.
و إنه قد يلبس الشيطان على البعض –و قد يكون هذا بدافع الكسل لا غير- بأن هذا يشغله عن عبادة ربه، أو يشغله عن طلب العلم، فأقول :
1 _ إن هذا العمل مما يتقرب إلى الله تعالى به، و قد تقدم ذكر ما له من الفضائل.
2 _ أن طالب العلم مما تعلم أن هذا العمل من أفضل القربات إلى الله، و مقتضى العلم العمل.
3 _ أن من زعم أن هذا العمل فيه مشغلة عن عبادة الله و عن طلب العلم، نقول له : هل أنت في جل وقتك منشغل بالعبادة و الطلب، أم أن لك أوقاتا طويلة تقضيها في اللغو و اللهو؟ فلماذا لا تصرف وقتك هذا فما فيه خير لك و للمؤمنين؟!.
4 _ أن تنظيف بيوت الله من إكرام زوارها، كيف لا و "إنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها" رواه البيهقي في الشعب –وقد تقدم تخريجه-.
5 _ أن النبي صلى الله عليه و سلم قام بحك النخامة دفعا للأذى عن بيت الله، و لنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة.
و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك.
و صلى الله على نبينا و على آله وسلم.
كتبه
يوسف صفصاف
26 شعبان 1436
13 جوان 2015
تعليق