حثُّ الأحبةِ على الاستغفارِ وَ التوبةِ [6]
الحمد لله رب العالمين و صلى الله و سلم على نبينا محمد الأمين، و على آله الطاهرين، و أصحابه الطيبين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا جزء آخَر من موضوع "حثُّ الأحبةِ على الاستغفارِ وَ التوبةِ"، أسأل الله تعالى أن ينفعنا به، و أن يعلمنا ما جهلنا، و أن ينفعنا بما علمنا.
الفرقُ بينَ التوبةِ وَ الاستغفارِِ
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ملخصا (1/207) : "إذا أُفردا فإن الاستغفار يتضمن التوبة، و التوبة تتضمن الاستغفار.
و أما إذا اقترنا، فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى، و التوبة : الرجوع، و طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله".
سيدُ الاستغفارِ
روى البخاري في صحيحه و غيره عن شداد بن أوس رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم : "سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" قال : "ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة".
فائدةٌ حديثيةٌ :
قال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في شرح حديث سيد الاستغفار (ص 15) : "ليس لشداد رضي الله عنه في "صحيح البخاري" غير هذا الحديث –و هذه فائدة حديثية- و انفرد بإخراجه البخاري إذ لم يخرجه مسلم".
تسميتُه بسيدِ الاستغفارِ :
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/119) : "(سيد الاستغفار) قال الطيبي : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد، و هو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، و يرجع إليه في الأمور".
قال الجيلاني رحمه الله في فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد (2/75) : "(سيد الاستغفار) لفظ الصحيح (أفضل الاستغفار) و هو المراد بالسيادة، و لعل المراد أنها أكثر نفعا لمن استغفر بهذه الصيغة، و السيد الرئيس المتقدم الذي يعتمد إليه في الحوائج".
ما تضمنَه سيدُ الاستغفارِ من معاني التوحيدِ :
و لهذا كان أفضل الاستغفار كما بوب له البخاري رحمه الله "باب أفضل الاستغفار"، قال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/186) : "و قوله (سيد الاستغفار) أي : أفضله و أعظمه نفعا؛ لأن فيه الإقرار بالإلهية و العبودية، و أن الله خالق، و أن العبد مخلوق".
1 _ توحيدُ الربوبيةِ :
و يظهر هذا النوع في :
_ قوله "أنت ربي" و هذا فيه اعتراف من العبد لبره بالربوبية.
_ قوله "خلقتني" و الخلق من خصائص ربوبية الله تعالى.
_ قوله "أنا عبدك" قال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي (9/326) : "أي : مخلقك، و مملوكك".
_ قوله "وأنا على عهدك ووعدك" قال ابن حجر في الفتح (11/120) : "قال ابن بطال (وأنا على عهدك ووعدك) يريد العهد الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ فأقروا له بالربوبية و أذعنوا له بالوحدانية". و مثله قال الخطابي.
_ قوله "أبوء لك بنعمتك" و الإنعام من خصائص الربوبية.
_ قوله "لا يغفر الذنوب إلا أنت" و المغفرة من خصائص ربوبية الله تعالى.
2 _ توحيدُ الألوهيةِ :
و يظهر هذا النوع في :
_ قوله "لا إله إلا أنت" ففيه الشهادة بالألوهية لله وحده.
_ قوله "أنا عبدك" قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/119) : "قال الطيبي : يجوز أن تكون مؤكدة. و يجوز أن تكون مقدرة، أي : أنا عابد لك".
_ قوله "وأنا على عهدك ووعدك" قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/119) : "قال الخطابي : يريد أنا على ما عهدتك و واعدتك عليه من الإيمان بك و إخلاص الطاعة لك مات استطعت من ذلك".
_ قوله "أعوذ بك" و الاستعاذة عبادة لله تعالى.
_ قوله "فاغفر لي" و الاستغفار من عبادة الله تعالى.
3 _ توحيدُ الأسماءِ و الصفاتِ :
تضمن هذا الحديث بعض أسماء الله تعالى، مثل :
_ الربّ، قال تعالى {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس 58].
_ الإله، قال تعالى {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل 51].
و بعض الصفات، مثل :
_ الخلق، قال تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْئٍ} [الزمر 62].
_ المغفرة، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة 173].
العلاقةُ بينَ توحيدِ الربوبيةِ و الألوهيةِ وَ الأسماءِ و الصفاتِ :
جاء في أول هذا الحديث "أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك" فنأخذ منه العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة [مستفاد من شرح الشيخ عبد الرزاق البدر لسيد الاستغفار].
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في قطف الجنى الداني شرح مقدمة ابن أبي زيد القيزواني (ص 56) : "إن توحيد الربوبية و توحيد الأسماء و الصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، و توحيد الألوهية متضمن لهما، و المعنى أن من أقر بالألوهية فإنه يكون مقرا بتوحيد الربوبية و بتوحيد الأسماء و الصفات؛ لأن من أقر بأن الله هو المعبود وحده فخصه بالعبادة ولم يجعل له شريكا فيها، لا يكون منكرا بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، و أن له الأسماء الحسنى و الصفات العلى".
ما تضمنهُ سيدُ الاستغفارِ من اعترافِ العبدِ بعجزِه و ذنبِه و نعمِ اللهِ عليهِ :
تضمن هذا الدعاء اعتراف العبد بعجزه، و هذا من قوله "ما استطعت"، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/119) : "و اشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز و القصور عن كنه الواجب من حقه تعالى".
و تضمن الاعتراف بنعم الله تعالى على العباد، و هذا من قوله "أبوء لك بنعمتك علي" قال ابن الملقن رحمه في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/18 : "أقر بنعمتك و ألزمها نفسي".
و قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (6/71 : "يعني أعترف بنعمتك العظيمة الكثيرة التي لا أحصيها".
و تضمن الاعتراف بالذنب، فانتفي عنه الإصرار، و هذا من قوله "أبوء لك بذنبي" قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/120) : "و يحتمل أن يكون قوله (أبوء لك بذنبي) أعترف بوقوع الذنب مطلقا ليصح الاستغفار منه".
قال الجيلاني رحمه الله في فضل الله الصمد (2/76) : "أي : أعترف بكل ذنب اقترفته و ما قصرت بأداء الشكر بنعمتك علي".
ما تضمنَه سيدُ الاستغفارِ من آدابِ الدعاءِ وَ الاستغفارِ :
تضمن هذا الدعاء بعض آداب الاستغفار، و لعلها أهم الآداب :
_ التقديم بين يدي الاستغفار بالثناء على الله تعالى بذكر ربوبيته، و خلقه و إنعامه.
_ التقديم بين يدي الاستغفار باعتراف العبد بتقصيره و عجره.
_ التقديم بين يدي الاستغفار بالاعتراف بالذنب، و هذا أدعى لانكسار العبد أمام ربه و استكانته له.
_ سؤال الله تعالى المغفرة مع انكسار و خضوع.
_ اختيار الصفة المناسبة من صفات الله لما يطلبه من المغفرة.
_ الإيمان و الاعتراف بأنه لا أحد له مغفرة الذنوب إلا الله تعالى.
_ استحضار الإخلاص و اليقين عند طلب المغفرة.
ما تضمنَه سيدُ الاستغفارِ من فضائلِ :
_ أنه سبب لمغفرة الذنوب : و هذا من قوله "فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/120) : " قوله (فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، و قد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل و فيه (العبد إذا اعترف بذنبه و تاب تاب الله عليه)".
_ أنه سبب لدخول الجنة : و هذا من قوله "ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة".
و مما يستفادُ منهُ :
_ عظم رحمة الله تعالى : و ذلك بأنه تعالى غفار لمن تاب، و عفو لمن أناب إليه؛ فإن عقاب الله عدل و عفوه فضل.
_ عظم فضل الله تعالى : و ذلك بأن الله تعالى يجزي العبد على العمل اليسير الجزاء الكبير.
_ حرص النبي صلى الله عليه و سلم على تبليغ أمته الخير : و ذلك مما ورد في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه قال : "ألا أدلك على سيد الاستغفار؟" و في رواية النسائي "تعلموا سيد الاستغفار".
و يستفاد من هذا أيضا حسن تعليم النبي صلى الله عليه و سلم.
_ شفقة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته : إذ يرشدهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و آخرتهم، فأرشدهم إلى ما يخلصهم من ذنوبهم للنجاة من نار خالقهم، و إلى ما يدخلهم جنات ربهم، و هذا الخير كله، "ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة".
هذا ما يسر الله تعالى جمعه و نقله، أسأل الله التوفيق و السداد.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
يوسف صفصاف
الخميس 12 جمادى الآخر 1435 هـ
الموافق لـ 02 أفريل 2015 م
تعليق