حثُّ الأحبةِ على الاستغفارِ و التوبةِ [5]
شروطُ التوبةِ
إذا كانت التوبة لها هذه الفضائل العظيمة، فلاشك أن أصحاب القلوب الحية، و النفوس التقية، و الهمم العالية، أنهم يسارعون إلى التوبة بعد العلم بهذه الفضائل العظيمة.
لكن ينبغي العلم بأن للتوبة شروطا لابد من تحققها؛ حتى تكون التوبة تامة مقبولة بإذن ربنا عز و جل.
و لما كانت النفوس مجبولة على رفض الأوامر و النواهي و الشروط و التقييدات؛ أحببت تأخير هذا العنوان إلى ما بعد ذكر فضائل التوبة؛ لأن بذلك تلين القلوب و تميل النفوس.
هذا و يذكر العلماء شروطا للتوبة النصوح، فإذا رجع العبد من معصية الله إلى طاعته فعليه أن يلتزم هذه الشروط.
الشرط الأول : الإخلاص.
و هو شرط في كل عبادة، قال الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة 5].
و قال تعالى {أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف 110].
و قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر 2].
و روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه".
و روى النسائي في الصغرى عن أبي أمامة الباهلي، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا شيء له" فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا شيء له" ثم قال : "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (1856).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/124) : "و لا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، و من ترك ذنبا لغير الله لا يكون تائبا اتفاقا".
الشرط الثاني : الاستغفار باللسان.
قال الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 136].
قال القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (5/324) : "{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم، و كل دعاء فيه هذا المعنى، أو لفظه، فهو استغفار".
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6/62) :"{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم".
و قال عز و جل {وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكَارِ} [غافر 55].
و قال تعالى {وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف 29].
روى أحمد في المسند عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال : أتيت أبا الدرداء في مرضه الذي قبض فيه فقال لي : يا ابن أخي ما أعمدك في هذا البلد -أو ما جاء بك-؟ قال : قلت : لا إلا صلة ما كان بينك وبين والدي عبد الله بن سلام فقال أبو الدرداء : بئس ساعة الكذب هذه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من توضأ فأحسن وضوءه ثم قام فصلى ركعتين، أو أربعا -شك سهل- يحسن فيهما الذكر، والخشوع ثم استغفر الله عز وجل غفر له" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (230).
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله في الآداب الشرعية (1/75) : "و في التوبة النصوح كما قال الحسن البصري قال : ندم بالقلب و استغفار باللسان و ترك بالجوارح و إضمار ألا يعود".
و قال رحمه الله : "و قال الكلبي : هي أن يستغفر باللسان و يندم بالقلب و يمسك بالبدن".
و قال رحمه الله : "قيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء : الندم بالقلب، و الاستغفار باللسان، و إضمار ألا يعود، و مجانبة خلطاء السوء".
ما هو الاستغفار المطلوب؟
قال القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (5/324) : " قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يَحُلُّ عَقْدَ الإصرار، و يثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان. فأما من قال بلسانه : استغفر الله، و قلبه مصر على معصيته، فاستغفاره يحتاج إلى استغفار، و صغيرته لاحقة بالكبائر".
الشرط الثالث : الندم على اقتراف تلك المعاصي.
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/86) : "لأن شعور الإنسان بالندم هو الذي يدل على أنه صادق في التوبة؛ بمعنى أن يتحسر على ما سبق منه، و لا يرى أنه في حل منه حتى يتوب منه إلى الله".
روى أحمد في المسند عن عائشة، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عائشة، إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن التوبة من الذنب : الندم والاستغفار". صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (1433).
و روى الحاكم في المستدرك عن حميد الطويل، قال : قلت لأنس بن مالك : أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الندم توبة" قال : نعم" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (6802).
قال الحافظ ابن حجر في رحمه الله في الفتح (11/124) : "المعنى : الحض عليه و أنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها".
قال القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (5/322) : "قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية (قلت : و هي قول الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 136]) في نبهان التمار -و كنيته أبو مقبل- أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه فقبلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه و سلم، فذكر ذلك له؛ فنزلت هذه الآية".
الشرط الرابع : الإقلاع عن الذنب.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (5/2336) : "اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب، و الإقلاع عنه، إن كان متلبسا به".
قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله في الآداب الشرعية (1/75) : "و لا تصح التوبة من الذنب مع الإقامة على مثله".
فمن تاب و أقلع عن الذنب لم يكن مصرا عليه.
قال الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 135].
قال القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (5/322) : "و الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر، و ترك الإقلاع عنه".
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/ 225) : "و أولى الأقوال بالصواب عندنا : قول من قال الإصرار : الإقامة على الذنب عامدا، و ترك التوبة منه".
كيفَ يقلعُ عن الذنبِ؟
التوبة تكون من ترك مأمور أو فعل محظور؛ فإن كان الذنب ترك واجب، فالإقلاع عنه يكون بفعله، و إن كان الذنب معصية الإقلاع عنه يكون بتركه.
و إن كان الذنب في حق آدمي فلا بد أن يبرأ من صاحبها.
الشرط الخامس : العزم على عدم العودة إلى الذنب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (11/124) : "لو ندم ولم يقلع و عزم على العود لم يكن تائبا اتفاقا".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/581) : "قال الثوري عن سماك عن النعمان عن عمر قال : التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه".
و قال رحمه الله : "و لهذا قال العلماء : التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، و يندم على ما سلف منه في الماضي، و يعزم ألا يفعل في المستقبل".
الشرط السادس : أن تكون التوبة في وقت قبول التوبة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/91) : "فإن كانت في زمن لا تقبل فيه التوبة فإنها لا تنفعه التوبة".
يوسف صفصاف
05 جمادى الآخر 1436
الموافق لـ 26 مارس 2015