حثُّ الأحبةِ على الاستغفارِ و التوبةِ [1]
باسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ لله رب العالمين، و صلى الله و سلم على نبينا محمد الصادق الأمين، و على آله و صحبه أجمعين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
و بعد، فإن الله تعالى خلق الخلق، فأحسن خلقه و هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، قال الله تعالى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه 50] قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية (ص 479) : "أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، و أعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن صنعه من خلقه، من كبر الجسم و صغره و توسطه، و جميع صفاته، {ثُمَّ هَدَى} كل مخلوق إلى ما خلقه له، و هذه الهداية العامة المشاهدة في حميع المخلوقات".
و إن مما خلق الله تعالى بني آدم، و هم البشر، كلفهم الله عز و جل بتكاليف و شرائع، و أمرهم بأوامر و وصاهم بوصايا، و إن أهم ما أمرهم و أوصاهم به : التقوى، حيث قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء 131]. و قال ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران 102].
و قال ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة 119].
و قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن 16].
كذلك أمر و وصى النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه و أمته بها، روى الحاكم في المستدرك عن جابر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه، فلا تستبطئوا الرزق، واتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (169.
و قال صلى الله عليه و سلم كما في حديث العرباض بن سارية : "أوصيكم بتقوى الله" رواه ابن حبان و الحاكم و الترمذي و غيرهم، و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (37).
و قال صلى الله عليه و سلم لرجل يريد السفر : "أوصيك بتقوى الله" رواه ابن خزيمة و ابن حبان و غيرهما عن أبي هريرة، و حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2545).
و روى البخاري و مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال : "اتقي الله واصبري".
و روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر، قالَ : قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر، اتق الله حيث كنت..." حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (97).
و كان كذلك الصحابة رضوان الله عليه يتواصون بالتقوى، كما قال عمر لعمار بن ياسر رضي الله عنهما : "يا عمار اتق الله" رواه أبو داود و قال الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2367) : "صحيح".
و قالت عائشة لعثمان رضي الله عنهما : "اتق الله يا عثمان" رواه أبو داود و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (7946).
و قالت عائشة لمروان بن الحكم : "اتق الله" رواه البخاري.
و قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لصهيب : "اتق الله" رواه البخاري.
و إن التقوى هي كما عرفها طلق بن حبيب فيما ذكره الذهبي في السير (4/601) عن بكر المزني، قال : لما كانت فتنة ابن الأشعث قال طلق بن حبيب : "اتقوها بالتقوى"، فقيل له : صف لنا التقوى، فقال : "العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله" .
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/513) : "التقوى اسم مأخوذ من الوقاية؛ و هو أن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله. و الذي يقيك من عذاب الله هو فعل أوامر الله، و اجتناب نواهيه".
فإذا كانت التقوى تدور حول فعل المأمور و ترك المحظور، فإن الإنسان قد يخالف ما أمره به ربه و يفعل ما نهاه عنه، فيكون عاصيا مذنبا، و هذا من سنة الله تعالى في خلقه أن جعلهم يخطئون و يذنبون، روى الحاكم في المستدرك و غيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4515).
قال الأمير الصنعاني رحمه الله في التنوير شرح الجامع الصغير (8/167) : "فالحديث أخبر أن كل أحد من بني آدم له الحظ من الخطأ لما سبقت به الأقدار من ضعف بنية هذا البشر و جبلته على الخطأ".
و لما كان الإنسان يعصي و يذنب فمن رحمة الله تعالى بعبده أن شرع لعباده المذنبين التوبة و الاستغفار، قال تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ} [طه 82]، و قال {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر 53].
معنى التوبةِ
لغة :
قال الزبيدي في التاج : "أَنَاب ورَجَعَ عنِ المَعْصيَة إلَى الطَّاعَةِ وهُو تَائِبٌ وتَوَّابٌ : كَثيرُ التَّوْبَةِ والرُّجُوع".
و في اللسان لابن منظور : "التَّوْبةُ الرُّجُوعُ من الذَّنْبِ".
و في الصحاح للجوهري : "التوبة: الرجوع من الذنب".
شرعا :
قال الإمام ابن تيمية في كتابه التوبة (ص15) : "التوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه، فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، و إلى فعل ما أمر به و ترك ما نهى عنه".
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/86) : "الرجوع من معصية الله إلى طاعته".
حكمُ التوبةِ
تنقسم التوبة من حيث حكمها إلى نوعين : واجبة و مستحبة.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه التوبة (ص13) : "التوبة نوعان : واجبة و مستحبة.
فالواجبة : هي التوبة من ترك مأمور أو فعل محظور، و هذه واجبة على جميع المكلفين، كما أمرهم الله بذلك في كتابه، و على ألسنة رسله.
و المستحبة : هي التوبة من ترك المستحبات و فعل المكروهات".
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/86) : "و الواجب على المرء أن يتوب إلى الله سبحانه و تعالى من كل ذنب".
الحثُ على الاستغفارِ و التوبةِ
و قد جاء هذا الحث في كتاب الله تعالى، و قد حث عليه نبينا صلى الله عليه و سلم، و حث عليه النبيون من قبله.
حث الله تعالى عباده على التوبة في كتابه، في كثير من الآيات منها :
قول الله تعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور 31].
و قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم 8].
و قوله تعالى {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} [التوبة 74].
و قوله تعالى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة 199].
كذلك حث النبي صلى الله عليه و سلم أمته عليهما، و أكثر من ذلك صلوات الله و سلامه عليه.
روى مسلم عن الأغر بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب، في اليوم إليه مائة مرة".
و رواه الطحاوي عنه في شرح معاني الآثار قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه وهو يقول : "يا أيها الناس، استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، فوالله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم، مائة مرة" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (944).
و لمسلم عن بريدة بن الحصيب عن النبي صلى الله عليه و سلم : قال : جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت : يا رسول الله، طهرني، فقال : "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه".
و حث على الاستغفار للغير صلى الله عليه و سلم كما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة، يوم الذي مات فيه، فقال : "استغفروا لأخيكم".
و قال صلى الله عليه و سلم : "استغفروا لماعز بن مالك" رواه مسلم عن بريدة بن الحصيب.
و حث على الاستغفار للأموات فقال : "استغفروا لأخيكم، وسلوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل" رواه الحاكم عن عثمان بن عفان، و قال الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (945) : صحيح الإسناد.
كذلك حث الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أممهم على التوبة و الاستغفار.
فهذا نوح عليه السلام يحث قومه على التوبة، قال الله تعالى {يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} [هود 52].
و قال الله تعالى عن صالح عليه السلام {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود 61].
و أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام قال لقومه {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود 90].
هذا ما يسر الله تعالى جمعه، و اسأله التوفيق لإتمام الموضوع.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه.
يوسف صفصاف
20 جمادى الأولى 1436
الموافق لـ 11 فيفري 2015
تعليق