بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلبيس إبليس عَلَى الوعاظ والقصاص
من كتاب تلبيس إبليس
لجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
رحمه الله تعالى (المتوفى: 597هـ)
كان الوعاظ فِي قديم الزمان علماء فقهاء وَقَدْ حضر مجلس عُبَيْد بْن عمير عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه وكان عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز
يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عَن الحضور وعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء
فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا عَلَى القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع فِي هَذَا الفن.
وقد ذكرنا آفاتهم فِي كتاب القصاص المذكرين إلا أنا نذكر هنا جملة فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب
ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس عَلَى الخير وكفهم عَن الشر وهذا افتيات منهم عَلَى الشريعة لأنها عندهم عَلَى هَذَا الفعل
ناقصة تحتاج إِلَى تتمة ثم نسوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
ومن ذلك أنهم تلمحوا مَا يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية فِي العشق
ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إِلَى محبة اللَّه عز وجل ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى
فيضل القاص ويضل ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة عَلَى مَا فِي قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل
بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بِهَا
عَلَى قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها الْيَوْم مشابهة للغناء فهي إِلَى التحريم أقرب منها إِلَى الكراهة والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل
مَعَ تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء وتمزيق الثياب لما فِي
النفوس من دفائن الهوى ثم يخرجون فيقولون كان المجلس طيبا ويشيرون بالطيبة إِلَى مَا لا يجوز ومنهم من يجري فِي مثل تلك الحالة التي
شرحناها لكنه ينشد أشعار النوح عَلَى الموتى ويصف مَا يجري لهم من البلاء ويذكر الغربة.
ومن مات غريبا فيبكي بِهَا النساء ويصير المكان كالمأتم وإنما ينبغي أن يذكر الصبر عَلَى فقد الأحباب لا مَا يوجب الجزع ومنهم من يتكلم فِي
دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه فليس عَلَيْهِ إبليس إنك من جملة الموصوفين بذلك لأنك لم تقدر عَلَى الوصف حتى عرفت مَا تصف وسلكت
الطريق وكشف هَذَا التلبيس أن الوصف علم والسلوك غير العلم ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عَن الشرع ويستشهد بأشعار العشق
وغرضه أن يكثر فِي مجلسه الصياح ولو عَلَى كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم الْيَوْم فِي مُوسَى والجبل
وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عَنْ ذنب فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها
هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف ومنهم من يحث عَلَى الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة
المقصود فربما تاب الرَّجُل منهم وانقطع إِلَى زاوية أَوْ خرج إِلَى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم ومنهم من يتكلم فِي الرجاء والطمع من غير أن
يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة عَلَى المعاصي ثم يقوي مَا ذكر بميله إِلَى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة
فيفسد القلوب بقوله وفعله.
فصل: وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة فِي قلبه مَعَ الزمان فيجب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه
أَوْ يعينه عَلَى الخلق كره ذلك ولو صح قصده لم يكره أن يعينه عَلَى خلائق الخلق.
فصل: ومن القصاص من يخلط فِي مجلسه الرجال والنساء وترى النساء يكثرن الصياح وجدا عَلَى زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن جمعا للقلوب عَلَيْهِ
ولقد ظهر فِي زماننا هَذَا من القصاص مَا لا يدخل فِي التلبيس لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمحنون به الأمراء والظلمة والآخذ
من أصحاب المكوس والتكسب به فِي البلدان وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى وفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر.
فصل: وقد يلبس إبليس عَلَى الواعظ المحقق فيقول لَهُ مثلك لا يعظ وإنما يعظ متيقظ فيحمله عَلَى السكوت والانقطاع وذلك من دسائس إبليس
لأنه يمنع فعل الخير ويقول إنك تلتذ بما تورده وتجد بذلك سد باب الخير وعن ثابت قَالَ كان الْحَسَن فِي مجلس فَقِيلَ للعلاء تكلم فَقَالَ
أَوْ هناك أنا ثم ذكر الكلام ومؤنته وتبعته قَالَ ثابت فأعجبني قَالَ ثم تكلم الْحَسَن واننا هناك يود الشَّيْطَان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحدا
بخبر ولم ينهه عَنْ شر.
من كتاب تلبيس ابليس
(1/ 111 - 113)
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلبيس إبليس عَلَى الوعاظ والقصاص
من كتاب تلبيس إبليس
لجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
رحمه الله تعالى (المتوفى: 597هـ)
كان الوعاظ فِي قديم الزمان علماء فقهاء وَقَدْ حضر مجلس عُبَيْد بْن عمير عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه وكان عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز
يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عَن الحضور وعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء
فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا عَلَى القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع فِي هَذَا الفن.
وقد ذكرنا آفاتهم فِي كتاب القصاص المذكرين إلا أنا نذكر هنا جملة فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب
ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس عَلَى الخير وكفهم عَن الشر وهذا افتيات منهم عَلَى الشريعة لأنها عندهم عَلَى هَذَا الفعل
ناقصة تحتاج إِلَى تتمة ثم نسوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
ومن ذلك أنهم تلمحوا مَا يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية فِي العشق
ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إِلَى محبة اللَّه عز وجل ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى
فيضل القاص ويضل ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة عَلَى مَا فِي قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل
بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بِهَا
عَلَى قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها الْيَوْم مشابهة للغناء فهي إِلَى التحريم أقرب منها إِلَى الكراهة والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل
مَعَ تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء وتمزيق الثياب لما فِي
النفوس من دفائن الهوى ثم يخرجون فيقولون كان المجلس طيبا ويشيرون بالطيبة إِلَى مَا لا يجوز ومنهم من يجري فِي مثل تلك الحالة التي
شرحناها لكنه ينشد أشعار النوح عَلَى الموتى ويصف مَا يجري لهم من البلاء ويذكر الغربة.
ومن مات غريبا فيبكي بِهَا النساء ويصير المكان كالمأتم وإنما ينبغي أن يذكر الصبر عَلَى فقد الأحباب لا مَا يوجب الجزع ومنهم من يتكلم فِي
دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه فليس عَلَيْهِ إبليس إنك من جملة الموصوفين بذلك لأنك لم تقدر عَلَى الوصف حتى عرفت مَا تصف وسلكت
الطريق وكشف هَذَا التلبيس أن الوصف علم والسلوك غير العلم ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عَن الشرع ويستشهد بأشعار العشق
وغرضه أن يكثر فِي مجلسه الصياح ولو عَلَى كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم الْيَوْم فِي مُوسَى والجبل
وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عَنْ ذنب فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها
هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف ومنهم من يحث عَلَى الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة
المقصود فربما تاب الرَّجُل منهم وانقطع إِلَى زاوية أَوْ خرج إِلَى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم ومنهم من يتكلم فِي الرجاء والطمع من غير أن
يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة عَلَى المعاصي ثم يقوي مَا ذكر بميله إِلَى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة
فيفسد القلوب بقوله وفعله.
فصل: وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة فِي قلبه مَعَ الزمان فيجب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه
أَوْ يعينه عَلَى الخلق كره ذلك ولو صح قصده لم يكره أن يعينه عَلَى خلائق الخلق.
فصل: ومن القصاص من يخلط فِي مجلسه الرجال والنساء وترى النساء يكثرن الصياح وجدا عَلَى زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن جمعا للقلوب عَلَيْهِ
ولقد ظهر فِي زماننا هَذَا من القصاص مَا لا يدخل فِي التلبيس لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمحنون به الأمراء والظلمة والآخذ
من أصحاب المكوس والتكسب به فِي البلدان وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى وفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر.
فصل: وقد يلبس إبليس عَلَى الواعظ المحقق فيقول لَهُ مثلك لا يعظ وإنما يعظ متيقظ فيحمله عَلَى السكوت والانقطاع وذلك من دسائس إبليس
لأنه يمنع فعل الخير ويقول إنك تلتذ بما تورده وتجد بذلك سد باب الخير وعن ثابت قَالَ كان الْحَسَن فِي مجلس فَقِيلَ للعلاء تكلم فَقَالَ
أَوْ هناك أنا ثم ذكر الكلام ومؤنته وتبعته قَالَ ثابت فأعجبني قَالَ ثم تكلم الْحَسَن واننا هناك يود الشَّيْطَان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحدا
بخبر ولم ينهه عَنْ شر.
من كتاب تلبيس ابليس
(1/ 111 - 113)