القلوب أمام الفتن
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»، قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: «يَا أَبَا مَالِكٍ مَا «أَسْوَدُ مُرْبَادًّا»؟» قَالَ: «شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ». قَالَ: قُلْتُ: «فَمَا «الْكُوزُ مُجَخِّيًا»؟» قَالَ: «مَنْكُوسًا».
ما أبدع هذه البلاغة النبوية في وصف تأثير الفتن والشهوات على القلوب حتى تشوِّه صفاءَها وتسوِّد نقاءَها وتؤدِّيَ إلى انتكاسها.
فالفتن والشهوات تنسلُّ إلى القلب متتابعةً واحدةً بعد الأخرى كما ينسج الحصير عودًا عودًا، فأمَّا قلب المؤمن العامر بحبِّ الله ورسوله فإنه كالصفا أي: كالحجر الأملس في صلابته وتماسُكه ونقاوته وعدم علوق شيءٍ به، فلا تضرُّه فتنةٌ ولا تستهويه معصيةٌ ولا يرضى بديلًا عمَّا ظفر به من حلاوة الإيمان في قلبه.
وأمَّا غيره ممَّن لم يتمكَّن حبُّ الله ورسوله في قلوبهم فإنَّ سهام الفتن وشهواتِ الدنيا تؤثِّر تدريجيًّا في ذلك القلب وتشوِّه صفاءَه حتى يكون «مُرْبَادًّا» وهو بياضٌ يسيرٌ مع السواد، فإذا انساق العبد أكثرَ فأكثر وراء أهوائه اختفى أثرُ البياض الباقي واسودَّ القلب وأظلم.
وهناك وصفٌ آخر لهذا القلب المفتون وهو الكوز المُجَخِّي أي: المائل المنكوس، وهذا الميل كان في بدايته قليلًا بحسَب ما تسرَّب إليه من الفتن، ثمَّ ازداد ميلًا حتى انقلب وانتكس، ولا يخفى أنَّ الكوز كلَّما مال عن استقامته انسكب منه ما كان فيه بمقدار الميل، حتى إذا انتكس انسكب كلُّ ما فيه ولم يَعُدْ قابلًا لأنْ يمتلئ بشيءٍ على الإطلاق حتى يعود إلى عدالته، فما فائدة الكأس إذا انسكب منه الماء الزلال ولم يبق فيه إلَّا الهواء؟
وهنا تتجلَّى البلاغة النبوية في أبهى صورها، بحيث تترسَّخ في النفس صورة الكأس المقلوب الذي لا يُنتفع منه بشيءٍ، فهو كالعدم وإن كان موجودًا، والهواء الذي فيه تمثيلٌ للهوى المستقرِّ في القلب المنكوس الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلَّا ما أُشرب من هواه!!
وهذا شرُّ القلوب وأخبثُها فإنه يعتقد الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلًا.
[«منهاج الإسلام في تزكية النفس» لأنس كرزون (٢/ ٥٢٣)]
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»، قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: «يَا أَبَا مَالِكٍ مَا «أَسْوَدُ مُرْبَادًّا»؟» قَالَ: «شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ». قَالَ: قُلْتُ: «فَمَا «الْكُوزُ مُجَخِّيًا»؟» قَالَ: «مَنْكُوسًا».
ما أبدع هذه البلاغة النبوية في وصف تأثير الفتن والشهوات على القلوب حتى تشوِّه صفاءَها وتسوِّد نقاءَها وتؤدِّيَ إلى انتكاسها.
فالفتن والشهوات تنسلُّ إلى القلب متتابعةً واحدةً بعد الأخرى كما ينسج الحصير عودًا عودًا، فأمَّا قلب المؤمن العامر بحبِّ الله ورسوله فإنه كالصفا أي: كالحجر الأملس في صلابته وتماسُكه ونقاوته وعدم علوق شيءٍ به، فلا تضرُّه فتنةٌ ولا تستهويه معصيةٌ ولا يرضى بديلًا عمَّا ظفر به من حلاوة الإيمان في قلبه.
وأمَّا غيره ممَّن لم يتمكَّن حبُّ الله ورسوله في قلوبهم فإنَّ سهام الفتن وشهواتِ الدنيا تؤثِّر تدريجيًّا في ذلك القلب وتشوِّه صفاءَه حتى يكون «مُرْبَادًّا» وهو بياضٌ يسيرٌ مع السواد، فإذا انساق العبد أكثرَ فأكثر وراء أهوائه اختفى أثرُ البياض الباقي واسودَّ القلب وأظلم.
وهناك وصفٌ آخر لهذا القلب المفتون وهو الكوز المُجَخِّي أي: المائل المنكوس، وهذا الميل كان في بدايته قليلًا بحسَب ما تسرَّب إليه من الفتن، ثمَّ ازداد ميلًا حتى انقلب وانتكس، ولا يخفى أنَّ الكوز كلَّما مال عن استقامته انسكب منه ما كان فيه بمقدار الميل، حتى إذا انتكس انسكب كلُّ ما فيه ولم يَعُدْ قابلًا لأنْ يمتلئ بشيءٍ على الإطلاق حتى يعود إلى عدالته، فما فائدة الكأس إذا انسكب منه الماء الزلال ولم يبق فيه إلَّا الهواء؟
وهنا تتجلَّى البلاغة النبوية في أبهى صورها، بحيث تترسَّخ في النفس صورة الكأس المقلوب الذي لا يُنتفع منه بشيءٍ، فهو كالعدم وإن كان موجودًا، والهواء الذي فيه تمثيلٌ للهوى المستقرِّ في القلب المنكوس الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلَّا ما أُشرب من هواه!!
وهذا شرُّ القلوب وأخبثُها فإنه يعتقد الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلًا.
[«منهاج الإسلام في تزكية النفس» لأنس كرزون (٢/ ٥٢٣)]