بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.فضلُ صومِ يومِ عاشوراء
لفضيلة الشَّيخ الدُّكتور
عليّ بن مُحمَّد بن ناصر الفقيهيّ
لفضيلة الشَّيخ الدُّكتور
عليّ بن مُحمَّد بن ناصر الفقيهيّ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له..
وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ؛ ليظهره على الدِّين كله ولو كره الكافرون.
أمَّا بعد:
فإن للخير مواسم يحسنُ بالمسلم الحرص عليها، والإفادة منها في سجل حسناته، وإنَّ المسلم الفطن يُحاسب نفسَه قبل الحساب، فإن الأيام تمضي، والسنوات تُطوى، وكل عام ينقضي يُقرِّبك مرحلة إلى يوم التغابن.
أيها القارئ الكريم: إنك في مطلع عام جديد، وقد ودَّعتَ عامًا مِن عمرك لن يعود إليك.
ولقد كتب بعض السَّلف إلى أخٍ له فقال: يا أخي، يُخيَّل لك أنَّك مُقيم، والحقيقة أنَّك دائب السَّير، تُساق مع ذلك، سوقًا حثيثًا، الموت موجّه إليك، والدُّنيا تُطوى مِن ورائك، وما مضى مِن عمرك فليس بِكارِّ عليك حتَّى يُكرَّ عليك يوم التغابن، وهو يوم يجمع اللهُ فيه الأوَّلين والآخرين، كما قال تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»[التغابن: 9].
فإنَّك، أيُّها المُسلم مسافر في هذه الدُّنيا، ولا بُدَّ لكلِّ مُسافر من زاد، كما قيل:
سبيلُك في الدنيا سبيلُ مُسافر *** ولا بُدَّ من زادٍ لكل مُسافر
واللهُ يقول: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»[البقرة: 197]
والتقوى: هي امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فاحرص ألاّ يفقدك ربُّك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك.
ولهذا يقول بعض العلماء الحُكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟!
فالإنسان يتتظر متى ينتهى الشهر ليقبض أجره ومكسبه: من مُوظف أو عامل، أو تاجر، وينتظر انتهاء السنة بفارغ الصبر لينال ما يستطيع جمعه من المال، وطلب الرزق الحلال مطلوب.
ولكن: هل فكَّرنا وتذكَّرنا أنَّ آخر الشهر أو آخر العام قد يكون هو نهاية الأجل، فعمِلنا لذلك اليوم وأعددنا له عدته؟
قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟
قال: ستون سنة.
قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ.
فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
فقال الفضيل: أتعرف تفسيره، تقول: أنا لله عبد، وإليه راجع، فمن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع؛ فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف؛ فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول؛ فليعدَّ للسؤال جوابًا.
فقال الرجل: فما الحيلة؟
قال: يسيرة.
قال: ما هي؟
قال: تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فإنَّك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي.
وفي هذا يقول بعضهم:
وإن امرأ قد سار ستين حجة *** إلى منهل من ورده لتقريب
قال تعالى: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا»[مريم: 76].
أيها القارئ الكريم: إننا في مطلع عام جديد، وبالأمس ودَّعنا عاما انقضى من أعمارنا، فيجب علينا أن نستغفر الله، وتتوب إليه توبة صادقة من تقصيرنا فيما مضى.
ونسأله تعالى العون والتوفيق في مستقبلنا، وأن نبدأ عامنا بعمل صالح يفعنا في آخرتنا التي إليها معادنا ونحن نسير إليها سيرًا حثيثًا، وعمَّا قليل سوف نصل إلى منازلنا التي فيها مستقرنا.
وما هذه الأيام إلا مراحل*** يَحثُّ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيء لوتأمَّلت أنَّها ***منازل تُطوى والمُسافر قاعدُ
والصَّوم لله ـ كما جاء في الحديث القدسي ـ قوله:«كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي».
ومعنى ذلك: أن الصائم إذا لم يكن صومُه خالصًا لله يبتغي به وجه الله، وإنَّما يقصد به الرياء والسعة فبإمكانه أن يختفي عن أعين الناس، ويأكل، ويشرب، ويُمارس شهواته، ثُمَّ يظهر أمام الناس متلبِّسًا بالصوم.
ولكن نيته وإخلاصه حملته على الصبر على طاعة الله؛ ولهذا فإنَّ من أسماء شهر رمضان: شهر الصبر، وقد وعد اللهُ الصابرين بجزيل الثواب، واللهُ لا تخلف الميعاد، فقال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»[الزمر: 10].
فالصوم من أفضل الأعمال التي يتقرب بها المُسلم إلى ربِّه، وقد ورد الحثُّ على صوم يوم عاشوراء، وبيان فضله، وأنَّه يُكفِّر السنة الماضية.
فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما، أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه.
وأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا زال مستمرًّا على صيامه حتَّى عام وفاته؛ لِما روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لئن عشت إلى قابل لأصُومنَّ التاسع مع العاشر»[مسلم: ح1134]
وهذا مما يؤكد استحباب صومه وصوم التاسع مع العاشر؛ مُخالفه لليهود الذين كانوا يصومونه.
فقد جاء في صحيح البخاري من رواية ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: «قدم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى اللهُ فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال:فأنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه»[خ204].
ومما يدل على أن إضافة اليوم التسع إلى العاشر مُحالفة لليهود: ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عباس مرفوعًا: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أويومًا بعده».
ورواية مُسلم تبيِّن اليوم الذي يُصام، وهو اليوم التاسع مع العاشر لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لئن عشت إلى قابل لأصُومنَّ التاسع مع العاشر».
أيها القارئ الكريم: إن فضل صوم يوم عاشوراء قد ورد فيه حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم، أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «يُكفٍّر السنة الماضية».
فلنحرص على صومه لعل اللهَ يُكفِّر عنَّا ما حدث منا من تقصير وزلل في السنة الماضية، وليكون لنا باب خير نفتتح به عامنا الحديد.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: ما رأيت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتحرَّى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر ـ يعني: شهر رمضان ـ .
وهذا دليل على فضل هذا اليوم؛ لأن قول ابن عباس: يتحرَّى ـ أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه ـ.
فهذا عمل المُصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد غفر اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فحري بك أيها المُسلم مُتابعة نبيِّك: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً»[ الأحزاب: 21].
المصدر
الوصايا مِن الكتاب والسُّنَّة
(المجموعة السابعة)
ط/دار الإمام أحمد ـ ص[54ـ59]