تذكيرُ الجالسِ ببعضِ آدابِ الجلوسِ و المَجالسِ
الحمد لله رب العالمين، و صلى الله و سلم على من بعثه الله رحمة للناس أجمعين، نبينا محمد الأمين، و على آله و صحبه الطيبين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
و بعد، فعلى المسلم أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، و بالآداب السامية، فإن هذا مما دعى إليه ديننا، و كان عليه نبينا صلى الله عليه و سلم، فقد قال الله تعالى فيه {و إنك لعلى خلق عظيم} (القلم 4)، و إن نبينا صلى الله عليه و سلم قد علَّم أمته كل ما تحتاجه في جميع شؤونها، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه كما رواه أحمد في المسند : "ما ترك النبي صلى الله عليه وسلّم طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما"، و روى مسلم في صحيحه، عن سلمان، قال : قيل له : قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال : فقال : أجل "لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"، فالنبي صلى الله عليه و سلم علَّم هذه الأمة الأخلاق الفاضلة و الآداب العالية، و من تلكم الآداب آداب الجلوس و المجالسة، التي فرط فيها كثير منا في هذا الزمان و الله المستعان.
و هي آداب كثيرة، ينبغي للمسلم التحلي بها، على اختلاف أحكامها الشرعية، و أنا اخترت بعضا منها، أسأل الله تعالى أن ينفعني بها و القارئين، و أن يوفقنا للتحلي بها و التأدب بالآداب الإسلامية، إنه جواد كريم.
1 _ الحرص على الجليس الصالح :
_ روى البخاري –و اللفظ له- و مسلم و ابن حبان، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك : إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة".
2 _ أكرم الناس على الرجل جليسه :
_ روى البخاري في الأدب المفرد، عن ابن عباس : "أكرم الناس عليَّ جليسي". قال الألباني رحمه الله : صحيح الإسناد.
3 _ خير المجالس أوسعها :
_ روى البخاري في الأدب المفرد، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال : أوذن أبو سعيد الخدري بجنازة، قال : فكأنه تخلف حتى أخذ القوم مجالسهم، ثم جاء معه، فلما رآه القوم تسرعوا عنه، وقام بعضهم عنه ليجلس في مجلسه، فقال : لا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خير المجالس أوسعها"، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع. و صححه الألباني في الصحيحة برقم 832.
4 _ التوسع و التفسح في المجالس للداخل :
_ روى البخاري -و اللفظ له- و مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا" وكان ابن عمر "يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه".
5 _ النهي عن الجلوس في الطرقات :
_ روى البخاري و مسلم -و اللفظ له-، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا : يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا : وما حقه؟، قال : "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
6 _ الرجل يسلم إذا انتهى إلى المجلس :
_ روى أبو داود و الترمذي و النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحقَّ من الآخرة". صحيح الترغيب و الترهيب رقم 2707.
_ و روى الطبراني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : يا بني! إذا كنت في مجلس ترجو خيره فعَجِلَتْ بك حاجة؛ فقل : السلام عليكم؛ فإنك شريكهم فيما يصيبون في ذلك المجلس. صحيح الترغيب و الترهيب رقم 2709.
7 _ يجلس الرجل حيث انتهى المجلس :
_ روى البخاري و مسلم و غيرهما، عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال : فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما : فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر : فجلس خلفهم، وأما الثالث : فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
_ روى الترمذي في سننه، عن جابر بن سمرة، قال : "كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي". صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي، و انظر الصحيحة رقم 330.
8 _ لا يتمثل الرجل للرجل قائما :
_ روى الترمذي في سننه عن أنس قال : "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم، و كانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك". صححه الألباني رحمه الله.
_ و له عن أبي مجلز قال : خرج معاوية؛ فقام عبد الله بن الزبير، و ابن صفوان حين رأوه، فقال : اجلسا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : "من سره أن يتمثل له الرجال قياما؛ فليتبوَّأْ مقعده من النار". صححه الألباني رحمه الله.
9 _ لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه :
_ روى البخاري -و اللفظ له- و مسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه".
_ و للبخاري عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أنه نهى أن يُقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا" وكان ابن عمر "يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه".
_ و روى ابن خزيمة في صحيحه أن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يُقِم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يخلفه فيه"، فقلت : أنا له في يوم الجمعة؟ قال : في يوم الجمعة وغيره . قال : وقال نافع : كان ابن عمر يقوم له الرجل من مجلسه فلا يجلس فيه.
10 _ لا يقوم الرجلُ للرجلِ من مجلسه :
_ روى أحمد في المسند عن أبي هريرة مرفوعا : "لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، و لكن افسحوا، يفسح الله لكم". حسنه الألباني في الصحيحة رقم 228.
_ روى أبو داوود في سننه، عن سعيد بن أبي الحسن، قال : جاءنا أبو بكرة في شهادة فقام له رجل من مجلسه فأبى أن يجلس فيه وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم : "نهى عن هذا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه". صححه الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب برقم 3068.
_ روى أبو داوود في سننه عن ابن عمر، قال : "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الألباني رحمه الله : حسن لغيره، في صحيح الترغيب و الترهيب رقم 3067.
11 _ لا يُفَرق بين رجلين إلا بإذنهما :
_ روى الترمذي و أبو داود عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل للرجل (و للبخاري في الأدب المفرد : لا يحل لرجل) أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما". قال الألباني رحمه الله تعالى : حسن صحيح.
_ و في رواية لأبي داود : "لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما". حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب رقم 3071.
12 _ إذا قام الرجل من مجلسه فهو أحق به إذا رجع إليه :
_ روى الترمذي في سننه و ابن حبان في صحيحه عن وهب بن حذيفة، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "الرجل أحق بمجلسه و إن خرج لحاجته ثم عاد؛ فهو أحق بمجلسه". صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي، و في صحيح الترغيب و الترهيب رقم 3073.
13 _ الرجل يقبض رجليه بين يدي جليسه :
_ روى البخاري في الأدب المفرد، عن كثير بن مرة قال : دخلت المسجد يوم الجمعة فوجدت عوف بن مالك الأشجعي جالسا في حلقة، مدَّ (قال الألباني معلقا : كذا الأصل، و لعل الصواب : مادًّا) رجليه بين يديه، فلما رآني قبض رجليه، ثم قال لي : "أتدري لأي شيء مددت رجلي؟ ليجيء رجل صالح فيجلس". قال الألباني رحمه الله : حسن الإسناد.
14 _ لا يقعد قعدة المغضوب عليهم :
_ روى أبو داود و ابن حبان، عن الشريد بن سويد قال : مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أنا جالس، و قد وضعت يدي اليسرى وراء ظهري و اتكأت على ألْيَتِ يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "لا تقعد قعدة المغضوب عليهم".
15 _ لا يتناجى اثنان و الثالث حاضر في المجلس :
_ روى البخاري و مسلم في صحيحيهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أَجْلَ أن يحزنه".
16 _ لا يجلس قوم في مجلس و لا يذكرون الله فيه :
_ روى الترمذي في سننه، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم". صححه الألباني رحمه الله.
17 _ كفارة المجلس :
_ روى أبو داود، و الترمذي –و اللفظ له-، و النسائي، و ابن حبان في صحيحه، و الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "من جلس مجلسا كثر فيه لغطه؛ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك. صحيح الترغيب و الترهيب رقم 1516.
_ روى أبو داود في سننه، عن أبي برزة الأسلمي، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" فقال رجل : يا رسول الله، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، فقال : "كفارة لما يكون في المجلس". صححه الألباني رحمه الله، ينظر صحيح الترغيب و الترهيب رقم 1517.
هذا ما يسر الله تعالى جمعه.
و في الأخير أنبه إلى أمر مهم، و هو أن بعض الناس في المجتمعات الإسلامية قد تأثروا كثيرا بالحضارة الغربية الكافرة، زعما منهم أنهم أفضل من كثير من المسلمين في أخلاقهم، و لا تنقصهم إلا الشهادة كما يقولون، و من الأسباب الدافعة لهذا الفكر هو الجهل بالآداب الإسلامية، و بعد الناس عنها، و عن العمل بها.
فينبغي علينا الاهتمام بهذا الجانب المهم، تَعَلُّما و تعليما، و دعوة و عملا، و الله تعالى وحده الموفق.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد، و على آله و صحبه أجمعين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه : يوسف صفصاف.
29 ذو القعدة 1435
24 سبتمبر 2014
تعليق