بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.مخطئٌ من حَصَر مصطلحَ (الْخُلُق) في أبوابٍ محدودةٍ جدّاً، فظنَّه لا يتعدَّى كلماتٍ يقول المرء أو يكُفُّ عنها، أو تصرفاتٍ معدودةٍ يُحكم من خلالها على الإنسان أَحَسَنُ الْخُلُقِ هو أم غيرُ ذلك. فـ(حُسْنُ الْخُلُقِ): كلمةٌ واسعةُ المعاني، عظيمةُ الدلالة، وليست الأمانةُ، والصدقُ، والوفاءُ، والشجاعةُ، والكرمُ ، والْحِلمُ- إلا أمثلةً لا تشكِّلُ - رغم أهميتها - سوى جزءٍ من المنظومة الأخلاقية التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان. وبالمقابل فإنَّ الخيانةَ، والكذبَ، والغدرَ، والْجُبْنَ، والشُّحَّ، والجهلَ- أمثلةٌ - رغم خطورتها - لا تشكِّل إلا جزءاً من المنظومة الأخلاقية التي يجب على الإنسان أن يحذرها.
وأجمعُ وأبلغُ ما رأيتُ في تعريف (الْخُلُقِ) قولُ الإمامِ أبي العباس القرطبيِّ - رحمه الله -: " هي عبارةٌ عن أوصاف الإنسان التي بها يعامِلُ غيرَه ويخالطُه، وهي منقسمةٌ إلى محمود ومذموم. فالمحمودُ منها:صفاتُ الأنبياء والأولياءِ والفضلاءِ، كالصبرِ عند المكاره، والحِلْمِ عند الجفاءِ، وتحمُّلِ الأذى، والإحسانِ للناس، والتودُّدِ لهم، والمسارعةِ في حوائجهم، والرحمةِ، والشفقةِ، واللطفِ في المجادلة، والسَّبْتِ في الأمور، ومجانبةِ المفاسد والشرور. وعلى الجملة: فاعتدالُها أن تكونَ مع غيرك على نفسك؛ فتُنصِفَ منها، ولا تَنْـتَصفَ لها؛ فتعفوَ عمَّن ظلمك، وتعطيَ من حرمك. والمذمومُ منها: نقيضُ ذلك كلِّه".
فتأمل - رحمني الله وإياك - هذا الكلام الجامع، وقِسْه على حالنا في هذا الزمان: أكثرُنافي غفلةٍ عن كثير من الأخلاق الحميدة، وحتى الموصوفُ في زماننا بحسن الخلق قلَّ أن يكون مع غيره على نفسه، وقَلَّ أن يتركَ الانتصارَ لنفسه فضلاً عن الانتصاف لها!
ومن الناس من يتخلَّقُ بكثير من الأخلاق الحميدة، ولكن يكون تخلُّقُه بها مقصوراً على تعامله مع بعض الناس دون غيرهم، فتراه حميدَ الخصال مع من يحبُّهم ويألفُهم، أو مع من سبقت إليه منهم نعمةٌ وفضل، فإذا تعامل مع شخصٍ لا يميل إليه، أو لم يَرمنه إحساناً- رأيتَه على عكس ذلك جزئياً أو كلِّياً، فهذا قد لا يستحق حمداً لما يَظهر عليه من خُلُقٍ حَسَن، لا سيما في ميزان الشرع، و(ليس الواصل بالمكافئ)!
وليس مراداً بهذا من كان يبني تفريقَه بين الناس في المعاملة على أساس من الشرع؛ فالناس متفاوتون في حقوقهم، فللجار مزيد حق، ولذي القربى مزيد حق، وللوالدين فوق ذلك، ومعلومٌ أنه كلَّما ازداد إيمان المرء زاد حقُّه من المحبة ومظاهرِها.وإنما التنبيه هنا على خطإِ التفريق بين الناس في المعاملة على غيرِ أساسٍ صحيح.
فإذاسألتني: ما فضلُ حُسْنِ الْخُلُقِ؟ وما ثمرتُه في الدنيا والآخرة؟
فلا أظنُّني قادراً على توفيةِ الجواب حقَّه! فالأمر أعظم من كلمات تُقال، أو سطورٍ تُكتب!
على حُسْنِ الْخُلُقِ تقوم الحضارات، وتُبنى الدول، وتَسعد المجتمعات! ومهما اجتُهد في تحقيق هذه الأمور، ومهما توفَّر لها من أسباب ماديةٍ وغيرِها- فإنه لا مجال لإدراك شيءٍ من هذا المأمول في غياب الأخلاق الفاضلة، ولك في واقعنا الْحاضرِ أعظمُ شاهد، وبضدها تتبين الأشياء!
أما ثمرة حسن الخلق في الآخرة، وسوءُ عاقبةِ ضدِّه- ففي كلام المعصوم المؤتَى جوامعَ الكلم كفايةٌ: فهوالقائل -صلوات ربي وسلامه عليه -:(ماشيءٌ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَن، وإن الله ليبغض الفاحشَ البذيء). وهوالقائل:(إنَّ من أحبِّكم إلي، وأقربِكم مني مجلساً يومالقيامة- أحاسنَكم أخلاقا.وإن أبغَضَكم إليَّ وأبعدَكم مني مجلساً يوم القيامة- الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون). وسُئِل - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الْجنَّةَ، فقال:(تقوى الله وحُسْنُ الْخُلُق). ولومضى المرء يسرد النصوص الدالَّةَ على عِظم هذا الباب من الإيمان لأطال ولما استوعب، وفيما ذُكر مقنعٌ - إنشاء الله -.
ولأنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ عبادةٌ؛ فإنه ينبغي أن يُلاحَظ فيه ما يلاحَظ في سائر العبادات:الإخلاصُ، والمتابعة.
فمن كان لا يبتغي بِحُسْنِ خُلُقِه وجهَ الله - تعالى -،بل هَمُّه مدحُ الناس، والذِّكرُ الْحَسَن، أو التقرُّبُ لذوي المال والوجاهة، أوغيرُ ذلك من المطالب الدنيوية الدنية- فإنه لا يُثاب على حُسْنِ خُلُقِه. وقد سأل عديُّ بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أبيه، وكان أبوه من أكرم العربِ، وأحسنِهم خُلُقاً؛ قال عدي: قلت: يارسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا! فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم -:(إن أباك أراد أمرا فأدركه). يعني أن حاتماً الطائيَّ أراد بإحسانه إلى الناس أن ينال الذِّكْرَ الْحَسَنَ بينهم، فحصل له هذا، ولم ينل عند الله شيئا بفعله لعدم إرادته وجهَ الله - تعالى - به.
كما أن حُسنَ الْخُلُقِ الممدوحَ شرعاً هو ما لم يكن مخالفاً للشرع المطهر، وثمت أحوالٌ وأشخاصٌ لا يَحسُن بالمسلمِ أن يُلين الجانب معهم، ويدخل في هذا الباب الأمرُ بالغلظة مع الكفار المحارِبين، ومشروعيةُ هجرِ المبتدعةِ والفسَّاق عند رجحان مصلحة الهجر. وليس بمحمودٍ من هنَّأ نصرانياً أو يهودياً بِعيدِه متحجِّجاً بحُسن الخلق، وليس محموداً من بدأ كافراً بالسلام. ومدارُالفلاح على اتباع الشرع، والاستسلامِ لحكم الله - تعالى -، والاستمساكِ بسنّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلم -.
وحُسنُ الخلق فوقَ كونه عبادةً مستقلَّةً؛ فقدجاء الأمر به حليةً لكثيرٍ من العبادات، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدقةِ، وغير ذلك: {وَلاَتُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً}. بل جاء الأمر به مقارناً لبعض أحكام الصلاة التي هي عمود الدين: في الحديث الصحيح:(أَقيمُوا الصفوفَ، وحاذوا بين المناكِبِ، وسدُّوا الخلل، ولينُوا بأيدي إخوانكم ...). فهذه النصوص ونحوُها تؤكِّد على المكانة الرفيعة التي يحتلُّها الجانب الأخلاقيُّ في التشريع الإسلامي.
والواجب علينا جميعاً أن نسعى لإصلاح الخلل الكبير الذي يعانيه المجتمع المسلم في هذا الباب، وذلك لا يكون إلا بأمرين اثنين: الأول: أن يتعاهد كلٌّ منّا نفسَه، ويجاهدَها، ويروِّضَها على الْخُلُقِ الحسَنِ، مهما ظهر في ثناياه من انكسارٍ للنفس، وتفريطٍ في حظِّها، والثاني:أن نجتهدَ جميعاً في بذل النصيحة بعضنا لبعضٍ، والتواصي بالأخلاق الحميدة، والتنبيهِ على الخصالِ الفريدة، و(لايؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه).
ولاشكَّ أن التغيير المنشود لن يتحقَّق في يوم أو يومين، ولا في عام أو عامين، بل إنه يستلزم جهداً ووقتاً، وصبراً ومثابرةً، ولكنَّ العاقبةَ المرجوَّةَ تستحقُّ هذاالعناء الجميل، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. نسأله - سبحانه - أن يتولانا والمسلمين كافّةً برحمتِه، وأن يرزقنا العلم النافع، والعملَ الصالح، والْخُلُقَ الْحَسَن، إنه لطيف خبير.