كيف لا نخاف من الله
علي الوصيفي
علي الوصيفي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الخوف من الله - عز وجل - منبه للقلوب الغافلة، ووسيلة لإيقاظ الإيمان وتجديده في هذه القلوب، وقد تناولنا معنى الخوف من الله وحقيقته، وعرضنا صورًا من خوف الملائكة والنبيين والسلف الصالحين، وفي هذه الحلقة نكمل عرض صور من خوفهم - رضي الله عنهم - أجمعين.
فإذا أردنا أن نتعرف على خوف المصلين القائمين الذاكرين المخبتين وهم بالأعين يبكون وبالأركان يخضعون؟ فهؤلاء هم أولو الألباب المكرمون، قال تعالي: "أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب "الزمر: 90".
نعم من خاف قام وسبح وبادر بالأعمال قبل الانشغال، سيما في أعظم الأوقات وأجلها، في الوقت الذي ينزل الله - تعالى - فيه إلى السماء الدنيا، ليعطي السائل، ويجيب الداعي، ويغفر للمستغفر، من خاف سار من أول الليل، إذا ظن أن عائقًا سيحول بينه وبين القيام في آخره، فإذا قوى قام في آخره، وإذا قام بلغ الغاية الكبرى، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". "رواه الترمذي وقال: حديث حسن. انظر صحيح الجامع 6222".
وهكذا كان السلف - رضي الله عنهم -، فهذا ضرار بن ضمرة الكناني يصف عليًا لمعاوية - رضي الله عنهما - حين سأله عنه بأوصاف تحير الألباب وتدل الأحباب وتزكي القلب والفؤاد، قائلاً: "لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، ألي تعرضت أم إليَّ تشوقت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك قليل آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق"؛ فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال:" حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها". الاستيعاب لابن عبد البر 3-1108".
أو نتعرف على خوف الراهبين عند ذكر العذاب والموقف والحساب حين يقرع الوعيد بصورته المخيفة أسماع المؤمنين فترتجف أفئدتهم وترتعد فرائصهم وتنهمر دموعهم؟ فكيف يكون حال المعاين لقوله: "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون "الزمر: 16"، وقد صدقوا في الخوف فقالوا: "إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا "الإنسان: 10".
قال الحسن: "والله ما صدق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها". "التخويف لابن رجب ص114".
وعن أبي سليمان الداراني قال: "خرج مالك بن دينار بالليل إلى قاعة الدار وترك أصحابه في البيت فأقام إلى الفجر قائمًا في وسط الدار، فقال لهم: إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم وأغلالهم". "العظمة للأصبهاني 1-310".
أو نتعرف علي خوف الوجلين من قبول الأعمال، الناسين لأعمال كالجبال؟ فهل يرضى بعمله إلا مغرور؟ ! فهذا إبليس كان في صفوف الملائكة، فلما رأى نفسه صار من المرجومين، وبلعام بن باعوراء عابد بني إسرائيل كان يعرف اسم الله الأعظم، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه وصار مثله كالكلب، فكيف إذا أضيف إلى ذلك المعجب بعمله المتألي على الله - عز وجل -، لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يرون أعمالهم، بل كانوا يخافون ألا تقبل منهم.
روى الترمذي عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة "المؤمنون: 60"، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟، قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات". رواه الترمذي في التفسير (3099)، وابن ماجه في الزهد (41، وأحمد في المسند (24223).
قال ابن عون: "لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا، إن عملك مغيب عنك كله". "شعب الإيمان 5-467".
قال الحسن: "أدركت أقوامًا لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه". "جامع العلوم لابن رجب ص174".
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يخافون على أنفسهم النفاق، ليس النفاق الذي يورد صاحبه في الدرك الأسفل من النار، فهم منه براء، إنما المقصود به ما يكون من خوف النقص في الكمال الواجب من العبادة والطاعة بأن يشوبها شيء من ضعف الإخلاص لا أصل الاعتقاد، هم يخافون أن يقع منهم ذلك؛ ذكر البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا".
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"، "ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".
أعظم الصور في الخوف من الله تعالى
هذه صور متعددة تبين هيئة الخوف عند السلف؛ حين يرون ذنوبهم كالجبال، ويرون أعمالهم كالذر، حين يعبدون الله كأن الجنة عن يمينهم، والنار عن يسارهم، والصراط من تحتهم، وملك الموت من خلفهم، وعين الله من فوقهم ناظرة إليهم، فكيف بمن كان هذا حاله أن يهنأ بمطعم أو يسعد بمشرب؟
وهذه ثلاث صور عظيمة للخوف من الله جل جلاله، صورة صحابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا".
قال أنس - رضي الله عنه -: قال فما أتى على أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم أشد منه قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا. "متفق عليه.
وهم في هذا الموقف وجلون من نقص العلم الذي يحول بينهم وبين شدة الخوف من الله - تعالى -، وهكذا كان حالهم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - دائمًا إلا أن المواقف تتفاوت، وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. "رواه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث حسن صحيح".
أما الصورة الثانية فهي صورة هذا الشاب من الأنصار الذي فرق قلبه من شدة لهب النار، حتى حبسه الخوف منها في بيته، فلم يعد يقدر على نسيانها ولا على التجهز للتوقي منها.
عن سهل بن سعد أن فتى من الأنصار دخلته خشية من النار فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه في البيت، فلما دخل عليه اعتنقه الفتى وخر ميتًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جهزوا صاحبكم فإن الفرق فلذ كبده". قال الحاكم في "المستدرك" (2-536): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
أما الصورة الثالثة من الخوف فهي تلك الصورة التي جعلت عبدًا مسيء الظن بعمله يفكر في إحراق نفسه بعد موته، مخافة الله جل جلاله، المتمثلة في عمله القاصر وذنبه البالغ، والخوف من الحساب،.عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك فغفر الله له وفي رواية مخافتك يا رب"."متفق عليه".
دعوة إلى الخوف:
ولا يزال القرآن يعرض صور الخاشعين الخائفين من الله، ويبين أثر ذكر الله - تعالى -على القلوب المؤمنة، خاصة في دمع العين، ليقرب حقيقة الوصف فتميل إليه أنفس المؤمنين، قال الله - تعالى -: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله "الزمر: 23"، وقال تعالى "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم "الأنفال: 2"، "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " المائدة: 83 "، "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا "مريم: 58"، وقال تعالي "ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا "الإسراء: 109"، فكم مرة دمعت أعيننا لما فاتنا من الطاعة؟ وكم مرة دمعت أعيننا عند قراءة القرآن، فهذه هي حلاوة الإيمان في القلب، وتلك هي جنة الدنيا، من ذاقها دخل جنة الآخرة، وأظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن حُرِمها دخل النار. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم-: رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". "متفق عليه".
فالخوف من لوازم عظمة الله - تعالى - وكمال ربوبيته على خلقه، ومن أجل ذلك تعددت الآيات الدافعة إلى تخويف المؤمنين من الله - تعالى - ومن عذابه، كي يكونوا إلى عبادة الله - تعالى -أقرب وإلى جنته أرغب، ويكون ذلك إما بالأمر بالخوف من الله وإياي فارهبون، وإما بذكر أحوال الخائفين وعاقبة خوفهم: " قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم "الطور: 26- 28"، وإما بذكر حال القساة المعرضين وعاقبة إعراضهم: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله "الزمر: 22"، وإما بذكر حال المخلوقات في الخشية من الله - تعالى -مقارنة بحال هؤلاء القساة، كما قارن بين بني إسرائيل وبين الحجارة التي تهبط من خشية الله: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون "البقرة: 74".
والله من وراء القصد.
****************************************
منقــــــــــــــول