وصيـةٌ جامعـة تُكتَب بماء الذهب
«اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ»
لفضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله -
[من شرح الأدب المفرد / ش78]
[للتحميل]
[بَابُ التُّؤَدَةِ فِي الأمُورِ]
قال: ((حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلاَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، أَنَّ رَجُلاً تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنًا لَهُ وَمَوْلى لَهُ، فَأَوْصَى مَوْلاَهُ بِابْنِهِ، فَلَمْ يَأْلُوهُ حَتَّى أَدْرَكَ وَزَوَّجَهُ، فَقَالَ لَهُ: جَهَّزْنِي أَطْلُب الْعِلْمَ، فَجَهَّزَهُ، فَأَتَى عَالِمًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ فَقُلْ لِي أُعَلِّمْكَ، فَقَالَ: حَضَرَ مِنِّي الْخُرُوجُ فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ». قَالَ الْحَسَنُ: فِي هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ، فَجَاءَ وَلاَ يَكَادُ يَنْسَاهُنَّ، إِنَّمَا هُنَّ ثَلاَثٌ.
فَلَمَّا جَاءَ أَهْلَهُ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الدَّارَ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَائِمٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا امْرَأَتُهُ نَائِمَةٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ مَا أَنْتَظِرُ بِهَذَا؟ فَرَجَعَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ! فَرَجَعَ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: مَا أَنْتَظِرُ بِهَذَا شَيْئًا؟ فَرَجَعَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ سَيْفَهُ ذَكَرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ، وَسَاءَلَهُ قَالَ: مَا أَصَبْتَ بَعْدِي؟ قَالَ: أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ خَيْرًا كَثِيرًا، أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ: أَنِّي مَشَيْتُ اللَّيْلَةَ بَيْنَ السَّيْفِ وَبَيْنَ رَأْسِكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَحَجَزَنِي مَا أَصَبْتُ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ قَتْلِكَ)).
================================================== ===
ثم عقد -رحمه الله- هذه الترجمة: "بَابٌ التُّؤَدَةِ فِي الأمُورِ"، التُّؤَدَة: هي الأناة وعدم التعجُّل والتسرُّع وأخذ الأمور بالحلم والهدوء دون استعجال.
وقد مرّ معنا عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «لا تَكُونُوا عُجُلاً مَذَايِيعَ بُذُرًا»، فحذَّر من العجلة.
والعجلة تؤدي بالإنسان في الغالب إلى عواقب لا يحمدها ولا يرضاها لنفسه ولا يرضاها لمن عاملهم بالعجلة.
ولهذا؛ العجلة مذمومة، وفي الأناة والتُّؤدة خيرٌ للإنسان، ولا سيّما في الأحداث العظيمة التي تمس مصالح الأمة؛ كثيرٌ من الشباب في الأحداث العظيمة التي تمس مصالح الأمة عمومًا قد يأخذه شيء من الاندفاع وشيء من العجلة فيرتكب أمورًا يظن أنه يُصلح بها في الدِّين وهو في الحقيقة يُفسد، والسبب في ذلك العجلة وعدم الرَّوِيّة وعدم استشارة أهل العلم وأهل الفقه.
ولهذا؛ جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَعَلَيْكُمْ بِالتُّؤَدَةِ، فَإِنَّكَ أَنْ تَكُونَ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ» وتأملوا هذا الكلام الجميل! «إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ»؛ أي يشتبه أمرها عليك، لا يتبين لك فيها الحق من الباطل، والهدى من الضلال. قال: «فَعَلَيْكُمْ بِالتُّؤَدَةِ» يعني: لا تستعجل! تأنَّى، تريَّث، لا تستعجل.
«فَإِنَّكَ أَنْ تَكُونَ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ» لأنك إنْ استعجلت وأَقْدمت على أمرٍ تظن فيه مصلحة دون مشورة قد تفتح على نفسك وعلى غيرك باب شرٍّ جرَّتْه عليك عجلتك، بينما إذا تأنَّيت وقلتَ: لا.. ما هناك داعٍ للعجلة، أذهب للعالم الفلاني أسأله، أو الشيخ الفلاني أسأله، أَنظر في الأمر قد يكون خفي عليّ شيء، لماذا أستعجل؟ فهنا تغنم بإذن الله عز وجل.
«أَنْ تَكُونَ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ» ولهذا؛ ترك العجلة مطلوبٌ في أمور الإنسان كلها، وأنْ يأخذ الأمور بالتُّؤدة، وهذا الذي يسمى بالحِلم، الحليم: هو المتأني؛ الذي يأخذ الأمور بهدوء، يأخذ الأمور بانشراح، بتأمل، بتفكُّر، بتدبُّر.. يتأنى في الأمور.
ولهذا؛ سيُعيد المصنف -رحمه الله- الترجمة مرةً ثانية: "التُّؤَدَةِ فِي الأمُورِ" وسيذكر فيها حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي فيه التنبيه على فضيلة الحِلم. والحِلم هو المنبع الذي تنشأ عنه التُّؤدة والأناة والهدوء في الأمور والمعاملات الطيبة.. إلى غير ذلك.
فالبخاري -رحمه الله- عقد هذه الترجمة: "بَابٌ التُّؤَدَةِ فِي الأمُورِ" مبيِّنًا فضل التُّؤدة وما يترتب عليها من العواقب الطيبة ثم ذكر على وجه الاستئناس قصة فيها فائدةٌ وعبرة.
والقصص -أيها الإخوة- تُذكر عند أهل العلم وأئمة السلف للاستئناس لا للاعتماد، العمدة كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو العمدة، العمدة: قال الله وقال رسوله، لكن القصص يُستفاد منها من حيث أنه يُستأنَس بها، وكما يقال: السعيد من اتّعظ بغيره والشقي من اتّعظ به غيره، والتجارب تفيد، فإذا كانت هناك قصص فيها تجارب معينة تبين فضيلة المحافظة على أدبٍ من آداب الشريعة أو خطورة التخلي عن أدبٍ من آداب الشريعة كأن تُذكَر قصة لشخصٍ ما ترك أدبًا من آداب الشريعة فدخل في ورطةٍ -مثلا- بسبب تخلِّيه عن هذا الأدب، فلا بأس أن يُستأنس بذكر قصته لا أنها عمدةٌ في الباب؛ وإنما تُذكر للاستئناس.
ولهذا؛ الإمام البخاري عقد هذه الترجمة: "بَابُ التُّؤَدَةِ" وذكر هذه القصة ثم أعاد الترجمة لذكر الدليل عليها من سنة النبي -صلوات الله وسلامه عليه-.
أورد قصةً عن الحسن البصري -وهو من علماء التابعين- قصة فيها فائدة؛ قال: ((أَنَّ رَجُلاً تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنًا لَهُ وَمَوْلى لَهُ)) وفي أوائل الكتاب عرفنا الولاء، وعرفنا أيضًا أقسام الولاء، ومن الولاء: الولاء بالعتق؛ أنْ يكون عند الرجل مملوكا فيعتقه لوجه الله فيكون له ولاء بالعتق من الرجل الذي أعتقه، فعتيق الرجل مولاه.
فالشاهد ((أَنَّ رَجُلاً تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنًا لَهُ وَمَوْلى لَهُ، فَأَوْصَى مَوْلاَهُ بِابْنِهِ))، أي أوصاه به خيرًا، أي أنْ يحسِن تعاهده وتربيته والمحافظة عليه.. إلخ
((فَلَمْ يَأْلُوهُ حَتَّى أَدْرَكَ وَزَوَّجَهُ))، ((فَلَمْ يَأْلُوهُ))؛ أي لم يدَّخر وسعًا في تربيته وتأديبه والمحافظة عليه، ((حَتَّى أَدْرَكَ))؛ حتى أصبح هذا الشاب مدركًا بالغًا شابا فاهمًا للأمور، فزوجه.
قوله: ((وَزَوَّجَهُ)) السياق -كما سيأتي- يدل على أنّ هذا المولى زوّجه إحدى محارمه (أي محارم هذا المولى) إما ابنته أو أخته أو نحو ذلك من محارمه، والسياق يدل على ذلك ولا بد كما سنعرف ذلك لاحقا.
قال: ((وَزَوَّجَهُ)) أي زوَّجه من محارمه. وقوله: ((وَزَوَّجَهُ)) تفيد هذا المعنى الذي أشير إليه، لأن الغلام لما أدرك هو الذي يزوِّج نفسه، ليس مولاه الذي يزوجه، فقوله: ((وَزَوَّجَهُ)) أي زوَّجه إحدى محارمه، إما ابنته أو أخته أو نحو ذلك. قال: ((وَزَوَّجَهُ)). فقال له: ((جَهَّزْنِي أَطْلُب الْعِلْمَ، فَجَهَّزَهُ))؛ أي أنّ هذا الغلام (أو الشاب) بعد أن تزوج بقريبة مولاه طلب من مولاه أن يجهِّزه أي أن يُهيِّئ جهازه للرحلة في طلب العلم.
((فَجَهَّزَهُ، فَأَتَى عَالِمًا فَسَأَلَهُ))؛ وهذا فيه فضيلة استشارة أهل العلم حتى في طلب العلم، حتى في طلب العلم إذا أراد إنسانا أن يطلب علمًا ينبغي عليه أن يستشير أهل العلم؛ يستشيرهم فيما يقرأ من الكتب، فيما يذهب إليه من البلدان، فيمن يقرأ عليه من العلماء وأهل العلم، يستشير أهل العلم وأهل الفضل، فهذا الشاب وُفِّق فأتى عالمًا فسأله.
((فَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْطَلِقَ فَقُلْ لِي أُعْلِمْكَ))؛ يعني إذا عزمتَ على الانطلاق لطلب العلم فأخبرني أعلمك، أي أعلمك بوصية، بأمرٍ تعتني به. ((فَقَالَ: حَضَرَ مِنِّي الْخُرُوجُ فَعَلَّمَنِي))؛ أي جاء وقت خروجي وذهبت إليه فعلَّمني.
((فَقَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ»))، أعطاه ثلاث وصايا من أجمل ما يكون!
قال له: «اتَّقِ اللَّهَ» وهذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن؛ قال له: «اتق الله حيثما كنت»، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من خلقه؛ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
قال: «اتَّقِ اللَّهَ» وتقوى الله -عز وجل- أن تجعل بينك وبين ما تخشاه من سخط الله وقايةً تقيك وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي.
ولهذا؛ خير ما عُرِّفت به التقوى قول طلق بن حبيب، وهو من علماء التّابعين، قال: "تقوى الله العمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وترك معصية الله على نورٍ من الله خِيفة عذاب الله" وهذا التعريف من طلق للتقوى أثنى عليه غير واحدٍ من أهل العلم؛ منهم ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن رجب.. وآخرين من أهل العلم.
قال: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ» وهذا من أعظم ما يُوصى به طالب العلم أن يوصى بالصبر.
ويوصَى طالب العلم بالصبر بأنواعه الثلاث: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة. قد يخرج الإنسان في طلب العلم ويصاب بمصيبةٍ -مثلا- أو يُبتلى ببلاء أو يأتيه سقم أو نحو ذلك فبعض الناس يَنْثني من أول الطريق، بينما إذا صبر فعاقبة الصبر حميدة، يصبر على الآلام، ويصبر على طاعة الله -عز وجل-، ومن طاعة الله طلب العلم؛ بل هو من أفضل الطاعات ومن أعظم القُرُبات، ويصبر أيضا عن المعاصي بالبعد عنها وأماكنها وأماكن إثارة الشهوات، فهذه الأمور ينبغي أن يتحلَّى بها طالب العلم: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة.
ثم الوصية الثالثة قال: «لاَ تَسْتَعْجِلْ»، يعني في أمورك كلها لا تستعجل، خُذ الأمور بالأناة سواء في طلب العلم أو في الأمور الأخرى.
وأحيانًا العجلة تورث الإنسان الانقطاع عن الخير، يعني مثلا شخص يُنصح بحفظ متنٍ من المتون فيعزم أن يحفظ هذا المتن في أسبوع، من العجلة التي عنده، يقول: أنا أريد أن أحفظه في أسبوع، ثم يضغط على نفسه في أسبوع يريد أن يحفظه فلا يستطيع فيترك حفظه نهائيًا، بينما لو أنه حفظ في اليوم الواحد حديثًا واحدًا وصبر على ذلك بعد سنةٍ أو سنتين أو ثلاث بحسب حجم هذا المتن الذي يحفظه سيكون من محفوظاته بإذن الله -تبارك وتعالى-. فالعجلة يبتعد عنها الإنسان في طلب العلم وفي أموره الأخرى، قال: «وَلاَ تَسْتَعْجِلْ» أي خذ الأمور بالأناة والتُّؤدة والبعد عن العجلة.
قال الحسن: ((فِي هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ))، هذا ثناءٌ من الحسن البصريِّ على هذه الوصايا الثلاث، ((فِي هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ))؛ أي في: التقوى، والصبر، وترك العجلة، في هذه الأمور الثلاث الخير كله.
((فَجَاءَ وَلاَ يَكَادُ يَنْسَاهُنَّ))؛ أي أنّ هذا الشاب حفظ هذه الوصايا الثلاث واعتنى بها، ولا يكاد ينساها في أيامه كلها، قال: ((فَجَاءَ وَلاَ يَكَادُ يَنْسَاهُنَّ، إِنَّمَا هُنَّ ثَلاَثٌ))، يقلِّلهنَّ الحسن، يقول: ثلاث وصايا قليلة: اتق الله، اصبر، لا تستعجل، لكنها فيها الخير كله لمن اعتنى بها وحافظ عليها.
قال: ((فَلَمَّا جَاءَ أَهْلَهُ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الدَّارَ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَائِمٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْمَرْأَةِ))، رجل نائم في البيت وزوجته تركها في بيته، ولما دخل البيت وجد زوجته نائمة، ووجد في البيت رجلا متراخٍ عنها، "متراخٍ" أي بعيد عنها، نائم معها في البيت، لكن لم يستبن من هو، في أول نظرة لم يستبن من هو هذا الرجل، لكنه دخله الغضب؛ رجل ونائم في البيت عند أهله! فغضب وذهب إلى راحلته ليأتي بالسيف ليقتله، وربما لو كان السيف أو السلاح في يد الإنسان في نفس اللحظة ربما العجلة دفعته إلى القتل لكن هذا الرجل أصبح عنده شيء من الوقت ذهب إلى دابته وأخذ السلاح، ثم حضرت الوصية في ذهنه "اتق الله، اصبر، لا تستعجل"، قال: ((إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَائِمٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا امْرَأَتُهُ نَائِمَةٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ مَا أَنْتَظِرُ بِهَذَا؟)) إيش أنتظر الآن؟! رجل وفي بيتي ونائم قريب من أهلي، إيش أنتظر؟!! فرجع إلى راحلته فلما أراد أن يأخذ السيف قال: "اتق الله واصبر ولا تستعجل" حضرتْ الوصيَّة التي لا يكاد أن ينساها؛ "اتق الله واصبر ولا تستعجل" فرجع، رجع إلى المكان، ترك السيف، فلما قام على رأسه قال: ما أنتظر بهذا شيئا؟! كيف أنتظر والحالة هذه؟! لا بد أن أقتله وأقتلها معه، كيف أُبْقي هذا الأمر؟! قال: ما أنتظر بهذا شيئا؟! قال: ((فَرَجَعَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ سَيْفَهُ ذَكَرَهُ))، أي ذكر تلك الوصية: "اتق الله واصبر ولا تستعجل"، ((فَرَجَعَ إِلَيْهِ)) للمرة الثالثة، ((فَلَمَّا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ)) لأنه عرفه أنه مولاه الذي جهَّزه وزوَّجه، والنائمة إلى جنبه إما ابنته أو أخته أو إحدى محارمه لأنه هو الذي زوَّجه إيَّاها وله ولاية عليها، فالرِّيبة انتفت، والشيء الذي كان يريد أن يقتله من أجله انتفى.
قال: ((فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَسَاءَلَهُ)) يعني سأله عن أخباره وأحواله، قال: ((مَا أَصَبْتَ بَعْدِي؟ -المولى يسأل الغلام- قَالَ: أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ خَيْرًا كَثِيرًا، أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ: أَنِّي مَشَيْتُ اللَّيْلَةَ بَيْنَ السَّيْفِ وَبَيْنَ رَأْسِكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ))، هذه من فوائد ذهابي ورحلتي أنني ثلاث مرات وأنا بين السيف وبين رأسك، كل مرة أريد أن آخذ السيف لأقتلك وأرجع، الذي منعني منه هو الشيء الذي ذهبتُ إليه وهو العلم، وهذا فيه فضيلة العلم وفضيلة طلب العلم، لو مرّ هذا الموقف على إنسانٍ من أهل الجهل وأهل العجلة (جهل وعجلة) كان يقتل المرأة وربما يقتل الجيران أيضا من الانفعال الذي يصيبه، بعضهم في مثل هذه الحالة يمسك البارود ويرش على كل من أمامه، يقتل المرأة ويقتل الرجل..كل من يراه يقتله! يكون مُغْضَبا مُندفعًا لا يعي ما يقول ولا يدري ما يفعل.
فهنا يقول هذا الرجل متحدِّثًا بنعمة الله ((قَالَ: أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ خَيْرًا كَثِيرًا، أَصَبْتُ وَاللَّهِ بَعْدَكَ: أَنِّي مَشَيْتُ اللَّيْلَةَ بَيْنَ السَّيْفِ وَبَيْنَ رَأْسِكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَحَجَزَنِي مَا أَصَبْتُ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ قَتْلِكَ))، وهذا فيه فضيلة عظيمة جدًّا للعلم، وبيان مكانة العلم العليَّة وأنّ العلم يحجز الإنسان عن الرذائل ويحميه من القبائح ويدله على الفضائل وأمور الخير التي لا يمكن أن يعرفها ولا يمكن أن يصل إليها إلا بالعلم النافع.
فهذه قصة فيها فائدة واضحة وظاهرة، وساقها الإمام البخاري هنا لبيان ما فيها من العِظة والعبرة، لأنها:
1. من جهة: تدل على فضيلة التُّؤدة في الأمور.
2. ومن جهة أخرى: تدل على فضيلة العلم وطلب العلم والتَّعلم، وأنَّ من رحل في طلب العلم فإنه -بإذن الله تبارك وتعالى- يحصِّل خيرًا كثيرًا، كما حصَّل هذا الذي ورد خبره في هذه القصة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.