الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله و بعد:
قال الإمام ابن القيّم - رحمه الله -
ـ قوله :(وتفيد مطالعة البدايات)
يحتمل كلامه أمرين :
أحدهما: أنّ ملاحظة عين الجمع تفيد صابحها مطالعة السّوابق التي ابتدأه الله بها ،فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أوّلية الربّ تعالى في كلّ شيء.
ويحتمل أن يريد بالبدايات: بدايات سلوكه وحدة طلبه فإنّه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه لشدة شغله بما بين يديه ،وغلبة أحكام الهمة عليه فلا يتفرغ لمطالعة بداياته .
فإذا لاحظ عين الجمع قطع السلوك الأول وبقى له سلوك ثان، فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته، ووجد اشتياقا منه إليها كما قال الجنيد:
(واشوقاه إلى أوقات البداية)
يعني لذة أوقات البداية، وجمع الهمة على الطلب، والسير إلى الله ،فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب، فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه ،وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته وأحكام طبيعته فتقاضت طباعه ما فيها ،فلزمته الكلف فارتاح إلى أوقات البدايات لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمة .
ومر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- على رجل وهو يبكي من خشية الله فقال:
(هكذا كنا حتى قست قلوبنا)
وقد أخبر النبي- صلّى الله عليه وسلّم-:
((إِنَّ لِكُلِّ عَامِل شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً))
فالطالب الجاد لا بدأن تعرض له فترة ،فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد
،ولما فتر الوحي عن النبي صلى اله عليه وسلم "كان يغدو إلى شواهق الجبال ،ليلقى نفسه فيبدو له جبريل عليه السلام فيقول له إنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسكن لذلك جأشه وتطمئن نفسه "
فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم رجى له أن يعود خيرا ممّا كان
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه :
إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله ،وبها يتبين الصّادق من الكاذب
فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه
والصّادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله، ويلقى نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ،ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ،لا بسبب من العبد ـ وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب ـ لكن ليس هو منك بل هو الذي منّ عليك به وجرّدك منك وأخلاك عنك، وهو الذي ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾.
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك، ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع، فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به ،ولقد أحسن القائل:
إذا ما وضعت القلب في غير موضع****بغـير إناء فهو قلب مضيع
مدارج السالكين – الجزء الثاني[ 318]
المصدر
ـ قوله :(وتفيد مطالعة البدايات)
يحتمل كلامه أمرين :
أحدهما: أنّ ملاحظة عين الجمع تفيد صابحها مطالعة السّوابق التي ابتدأه الله بها ،فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أوّلية الربّ تعالى في كلّ شيء.
ويحتمل أن يريد بالبدايات: بدايات سلوكه وحدة طلبه فإنّه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه لشدة شغله بما بين يديه ،وغلبة أحكام الهمة عليه فلا يتفرغ لمطالعة بداياته .
فإذا لاحظ عين الجمع قطع السلوك الأول وبقى له سلوك ثان، فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته، ووجد اشتياقا منه إليها كما قال الجنيد:
(واشوقاه إلى أوقات البداية)
يعني لذة أوقات البداية، وجمع الهمة على الطلب، والسير إلى الله ،فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب، فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه ،وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته وأحكام طبيعته فتقاضت طباعه ما فيها ،فلزمته الكلف فارتاح إلى أوقات البدايات لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمة .
ومر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- على رجل وهو يبكي من خشية الله فقال:
(هكذا كنا حتى قست قلوبنا)
وقد أخبر النبي- صلّى الله عليه وسلّم-:
((إِنَّ لِكُلِّ عَامِل شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً))
فالطالب الجاد لا بدأن تعرض له فترة ،فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد
،ولما فتر الوحي عن النبي صلى اله عليه وسلم "كان يغدو إلى شواهق الجبال ،ليلقى نفسه فيبدو له جبريل عليه السلام فيقول له إنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسكن لذلك جأشه وتطمئن نفسه "
فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم رجى له أن يعود خيرا ممّا كان
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه :
إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله ،وبها يتبين الصّادق من الكاذب
فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه
والصّادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله، ويلقى نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ،ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ،لا بسبب من العبد ـ وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب ـ لكن ليس هو منك بل هو الذي منّ عليك به وجرّدك منك وأخلاك عنك، وهو الذي ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾.
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك، ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع، فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به ،ولقد أحسن القائل:
إذا ما وضعت القلب في غير موضع****بغـير إناء فهو قلب مضيع
مدارج السالكين – الجزء الثاني[ 318]
المصدر
تعليق