الحمد لله الذي أنعم على عباده المتقين بالتوفيق إلى الطاعات ، وأنعم عليهم بقبولها منهم بعد التوفيق ، وأنعم عليهم بمجازاتهم عليها يوم العرض عليه .
فالحمد لله الذي تفضل وأنعم وتكرّم ، وأعطى بغير حساب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا رب لنا سواه ، ولا معبود لنا غيره ، وأشهد أنّ محمدًا عبد الله ورسوله ، وصفيه وخليله ، نشهد أنه بلغ الرسالة, وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق الجهاد ، فلا خير إلا دلها عليه ، ولا شر إلا حذرها منه ، فتركها بعده – صلى الله عليه وسلم – على طريق واضح نَهْج بيّن ، لا يزيغ عنه بعده – صلى الله عليه وسلم – إلا هالك .
اللهم صلّ على محمد كِفَاء ما أرشد وعلّم ، اللهم صلّ على محمد ، وعلى آل نبينا محمد ، وعلى زوجاته ، وعلى صحابة محمد ، صلّى الله عليه وسلِّم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :
أهمية كلام سلف الأمة
فإن من القصور الذي يعانيه الناس اليوم ، أنهم يعلمون كلام أهل العصر ، أو أهل العصور التي يعيشونها ، ويقصّرون في تتبع ومعرفة وتدبر كلام سلفنا الصالح ، وكلام السلف قليل كثير الفائدة ، وكلام الخلف كثير قليل الفائدة كماقال ذلك ابن رجب عبد الرحمن بن أحمد الحنبليّ – رحمه الله تعالى – في كتابه العظيم ” فضل علم السلف على علم الخلف ”
وأساس ذلك : أن السلف كانوا إذا تكلموا اقتفوا في كلامهم أثر النبي – صلى الله عليه وسلم – ، والنبي – عليه الصلاة والسلام – كان يوجِز كلامه ، وقد أوتي جوامع الكلم ، وهي الكلمات القليلة التي تحوي المعانيَ الكثيرة ، فتجد صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهم من الكلمات و لهم من الوصايا و لهم من الخطب ولهم من الرّسائل التي يوصي فيها بعضهم بعضًا ، ما هو قليل الكلمات ، قليل الحروف ، ولكن مَن تدبَّره وجد تحت كُل جملة العَجَب العُجاب ، مِن تفرُّع المعاني وكثرتها وقوتها .
وصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طبقات ، ومنهم المهاجرون الذين أسلموا قديمًا ، وصحبوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة ، ومن هؤلاء خاصَّةُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحِب نعليه ، وصاحب طَهُوره ، عبد الله بن مسعود الهذلي ، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة .
فضائل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
عبد الله بن مسعود ، أو ابن أُمّ عبدٍ – كما كان – عليه الصلاة والسلام – يناديه ، كان ممن أسلم في مكّة ، وصحب الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مكّة ، وسمع القرآن أوّل ما أنزل ، وحفظ القرآن ، حتى إنه كان يقول :"لو أنّي أعلم أنّ على الأرض أحد يعلم في كتاب الله جلّ وعلا أكثر ممّا أعلم تبلغه المطيّ لرحلت إليه "
وكان يحفظ القرآن ، وكان أقرأ الصحابة – رضوان الله عليهم – وقد قال فيه – عليه الصلاة والسلام – : « مَنْ سرّه أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طريًّا كَمَا أُنْزِلَ ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ». يعني عبد الله بن مسعود .
قَالَ له عليه الصلاة والسّلام مرّة : « يا عبد الله اقْرَأْ عَلَيَّ القرآن » . قال : أَقْرَأُ عَلَيْكَ يا رسول الله ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ، قَالَ : « إنِّي أحبُّ أن أسمَعه من غيري » . فَافتح عبد الله رضي الله عنه سُورَةَ النِّسَاءِ ، فمرّ حَتَّى أَتَى قوله جلّ وعلا ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يومئذٍ يوَدُّ الذين كفروا وعصوا الرّسول لوْ تُسوّى بهم الأرْض ولا يَكْتُمون الله حديثا ﴾ [ النساء : 41 ] ، فقَالَ له النبي عليه الصلاة والسلام : « حَسْبُكَ الآنَ » يعني يكفي فقال عبد الله بن مسعود :". فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ."
ابن مسعود وصّى به النبي – عليه الصلاة والسلام – ,وصّى الأمّة أن تأخذ بعهده ، وأن تقتفي أثره ، فقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أمّ عبد ».
يعني إذا عهد إليكم عهدا فتمسكوا به .
وصح أيضًا عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : « رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد ».و صحّ عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنّه قال : "قد رضيت لكم ما رضي لكم ابن أمّ عبد "
ولهذا كان ابن مسعود صاحب وصايا ، يوصي ووصاياه – كما أسلفت – جمعت بين الكلام القليل ، والمعاني الكثيرة ، وسيأتينا ما يدلّ على ذلك .
كان وَرِعًا خاشعًا ، كان تلّاء للقرآن ، عاملًا به ، آمرًا به ناهيًا ، فهو الذي يقول إذا سمعت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فَأرْعهَا سَمْعَكَ ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُأمرُ به ، أَوْ شَرٌّ تُنهى عَنْهُ.
وهو الذي يقول في أهل القرآن : يَنْبَغِي لصاحبِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ ، وَبِنَهَارِهِ إِذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ .
وهو الذي أوصى في القرآن بقوله : لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ولَا تَهُذُّوه هَذِّ الشِّعْرِ ، ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ.
كان – رضي الله عنه – له أصحاب ، كان يوصيهم بوصايا حُفظت لنا ، وكان أصحابه على هيئته ، يترسمون خطاه ، ويهتدون بهديه ، وكان – رضي الله عنه – أشبه الناس هديًا وسمتا ودَلًّا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – يعني أنه كان حريصًا على السنة ، ولهذا كان أشبه الناس بالنبي – عليه الصلاة والسلام – .
تعليق