وحيد([1])
لم تكن تعني له الحياة شيئاً غير أمه وأبيه.
إذا فزع أو خاف من شيء رآه جرى بخطوات متعثرة، متأرجحة إلى أمه أوأبيه.
إذا ضحك أو فرح يبحث عن عيون أمه وأبيه.
إذا خلت بطنه وقرصه الجوع يبحث عن أمه.
إذا أراد النوم يبحث عن أمه.
إذا ألبسته أمه ثوباً جديداً هرع إلى أبيه ليريه إيّاه ويطريه ويعبر له عن إعجابه.
كانا كل شيء في حياته.
بل الحياة لا تعني له شيئاً غير أمه وأبيه!
وها هو الآن يفتح عينيه ليرى نفسه وحيداً فريداً غريباً، على سرير مستشفى. الممرضة تكلمه تضحكه، لكنه يشعر بخوف! يشعر برعب، بل يشعر بهلع ينخلع له قلبه، فصار يبكي .. ويبكي.. ويبكي.
"لعل أمه تسمعه.. لعل أباه يسمعه فيأتيان لينقذاه من هذه الحال الذي هو فيها"
ولكن لا مجيب!!
"لماذا لم تأت أمي؟"
"لماذا لم يأت أبي؟"
"أريد أمي.. أريد أمي .."
"أريد أمي .. أريد أبي.."
تحبس الممرضة اجهاشة بكاء، وتمسح عبرة عن خدّيها.. وتحاول أن تسكّنه .. أن تهديء عليه.. يغمرها فيض من الحنان والعطف، يغذيه اسى وحزن على حرمان هذا الطفل من والديه!!
¦ ¦ ¦
لقد ماتا سوياً في حادث مروِّع، لم ينج منه غير هذا الطفل!
عناية الله ساعدته ، وهاهو الآن في المستشفى، والممرضة تهدهده وترعاه.
إنها تشعر بعاطفة شديدة نحوه تضمه إلى صدرها، أحضرت له بعض الألعاب، حاولت تسليته.. حاولت أن تنسيه .. ولكن الطفل يريد أمه .. أمي .. أمي.
على صوت واحد .. يصحو ثم ينام .. ينشج .. ينهنه نفسه .. ثم يتذكر فيبكي .. ويبكي
"أريد أمي .. أريد أمي .. أريد أمي.."
لم يعد يسأل عن أبيه، فإنه كان يغيب عنه أحياناً أياماً ثم يعود، وكل يوم يغيب عنه ساعات ثم يعود ، لكن أمه لم تكن تغيب عنه ، كانت دوماً إلى جانبه.
"أريد أمي.. أريد أمي .. أريد أمي.."
لم تأت أمه إليه.. إنه يناديها ولكنها لا تجيبه.. "لعلها لم تسمعه.." فيرفع صوته ويجهش بالبكاء..
كان بكاؤه في أول الأمر خوفاً كله.. ثم صار بعد ذلك يبكي خوفاً .. ويبكي حسرة على نفسه، لِمَ لم تأت أمه إليه ؟
"لعلها في مكان بعيد.. لا يمكن أن تأتي إليه منه حتى ولو سمعت صوته، حتى ولو ناداها.."
الجوع يقرصه يأكل من يد الممرضة ما يسد به جوعه، يلعب يتذكر أمه يتذكر أباه، فينشج، ويكتم البكاء، ولكنه يرتمي في أحضان الممرضة التي تمد إليه يدها.. ويبكي.
اعتاد بعد ذلك أن يصحو على يد الممرضة، أن يفتح عينيه فيرى وجهها .. اعتاد عليها تؤكله تشرِّبه تلعب معه.
"إنها ليست أمي .. ولكنها ماما نعمه"، كما طلبت منه أن يناديها.
ولكه على كل حال يمكنه أن يقول كلمة "ماما" فهي "ماما نعمه"!
¦ ¦ ¦
عناية الله عزوجل ولطفه يسّرت لهذا الطفل من يكفله ويعتني به، فقد كان الحادث المروِّع الذي ذهب بأبيه وأمه، حديث تناقله الناس في اسى وحزن، وعاطفة حرّكت وجدان قلب كبير، ما أن بلغه الخبر حتى قام بكفالة هذا اليتيم..
نشأ الطفل في أحضان صاحب هذا القلب الكبير، وترعرع كزهرة، تتفتح ، وامتد كبرعم يكبر شيئاً فشيئاً.
شعر الطفل بالدفء والحنان، بعد أن كاد يذهب به برد الخوف والهلع.
سكن قلبه الصغير بعد أن تنازعه الخوف والحسرة.
وتألّق عقله بعد أن كاد يودي به التساؤل.
شعر بالهدؤ بعد أن تطايرت به ريح الغربة والوحدة، بعيداً عن أبيه وأمه.
لم تعد تلك الأحلام تقض مضجعه، لم يعد يتفزز في السرير، لقد صار ينام هانئاً.
¦ ¦ ¦
نشأ وحيد نشأة متميزة، في ظلال هذا الرجل.
فتح عينيه على الحياة قريباً من الرجل الذي كفله يتيماً ورعاه صبياً ووجهه فتاً يافعاً .
أكمل التعليم الابتدائي .. والاعدادي . والثانوي، متفوقاً متميزاً على أنداده، وبرزت فيه علامات النجابة والذكاء.
أسعد أوقاته لمّا يجلس قريباً من هذا الرجل الذي أظله بعطفه ورحمته، وسكّن روعه، وأذهب ألمه.
إنه يحبه ويحترمه ويعظمه من أعماق قلبه.
إنها نعمة عظيمة من الله عزوجل عليه أن يسّر له هذا الرجل ليكون له مكان أبيه!
يراه في المجلس والناس يدخلون عليه ويسلمون ويعرضون ما لديهم.. يرى الزائرين .. ويسمع .. كان والد الجميع.. كل من حوله "وحيد" كان يشعر بأن هذا الرجل أبٌ له.
[يهنأ الجميع برعايته وعطفه الكبير، وحنانه الواسع الذي ليس له حدود.
كان يحب أن يراه مع إخوانه الصغار وبقية أهله يومياً، فيجتمعون بعد مغرب كل يوم في قصره، ويجلس لهم فيلاطفهم واحداً واحداً، ويقدِّم لهم الهدايا والحلوى.
كان يحب المباسطة على المائدة خلال تناول الطعام، يمازح أبناءه وجلساءه ويحادثهم أحاديث طلية، لا أثر للكلفة فيها.
كان في تربيته له يجمع بين الرّحمة والشدة، و لا يفرق بينه وبين أبنائه، فالكل سواء عنده، والكل أبناؤه]([2]).
كان هذا الرجل : عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية.
يقول أحد الكتاب ممن عاش قريباً منه: "ما رأيت أحداً يعني بتربية أبنائه بنفسه وتريبهم وتخريجهم في حال طفولتهم كالملك عبدالعزيز"اهـ([3]).
إذا فزع أو خاف من شيء رآه جرى بخطوات متعثرة، متأرجحة إلى أمه أوأبيه.
إذا ضحك أو فرح يبحث عن عيون أمه وأبيه.
إذا خلت بطنه وقرصه الجوع يبحث عن أمه.
إذا أراد النوم يبحث عن أمه.
إذا ألبسته أمه ثوباً جديداً هرع إلى أبيه ليريه إيّاه ويطريه ويعبر له عن إعجابه.
كانا كل شيء في حياته.
بل الحياة لا تعني له شيئاً غير أمه وأبيه!
وها هو الآن يفتح عينيه ليرى نفسه وحيداً فريداً غريباً، على سرير مستشفى. الممرضة تكلمه تضحكه، لكنه يشعر بخوف! يشعر برعب، بل يشعر بهلع ينخلع له قلبه، فصار يبكي .. ويبكي.. ويبكي.
"لعل أمه تسمعه.. لعل أباه يسمعه فيأتيان لينقذاه من هذه الحال الذي هو فيها"
ولكن لا مجيب!!
"لماذا لم تأت أمي؟"
"لماذا لم يأت أبي؟"
"أريد أمي.. أريد أمي .."
"أريد أمي .. أريد أبي.."
تحبس الممرضة اجهاشة بكاء، وتمسح عبرة عن خدّيها.. وتحاول أن تسكّنه .. أن تهديء عليه.. يغمرها فيض من الحنان والعطف، يغذيه اسى وحزن على حرمان هذا الطفل من والديه!!
¦ ¦ ¦
لقد ماتا سوياً في حادث مروِّع، لم ينج منه غير هذا الطفل!
عناية الله ساعدته ، وهاهو الآن في المستشفى، والممرضة تهدهده وترعاه.
إنها تشعر بعاطفة شديدة نحوه تضمه إلى صدرها، أحضرت له بعض الألعاب، حاولت تسليته.. حاولت أن تنسيه .. ولكن الطفل يريد أمه .. أمي .. أمي.
على صوت واحد .. يصحو ثم ينام .. ينشج .. ينهنه نفسه .. ثم يتذكر فيبكي .. ويبكي
"أريد أمي .. أريد أمي .. أريد أمي.."
لم يعد يسأل عن أبيه، فإنه كان يغيب عنه أحياناً أياماً ثم يعود، وكل يوم يغيب عنه ساعات ثم يعود ، لكن أمه لم تكن تغيب عنه ، كانت دوماً إلى جانبه.
"أريد أمي.. أريد أمي .. أريد أمي.."
لم تأت أمه إليه.. إنه يناديها ولكنها لا تجيبه.. "لعلها لم تسمعه.." فيرفع صوته ويجهش بالبكاء..
كان بكاؤه في أول الأمر خوفاً كله.. ثم صار بعد ذلك يبكي خوفاً .. ويبكي حسرة على نفسه، لِمَ لم تأت أمه إليه ؟
"لعلها في مكان بعيد.. لا يمكن أن تأتي إليه منه حتى ولو سمعت صوته، حتى ولو ناداها.."
الجوع يقرصه يأكل من يد الممرضة ما يسد به جوعه، يلعب يتذكر أمه يتذكر أباه، فينشج، ويكتم البكاء، ولكنه يرتمي في أحضان الممرضة التي تمد إليه يدها.. ويبكي.
اعتاد بعد ذلك أن يصحو على يد الممرضة، أن يفتح عينيه فيرى وجهها .. اعتاد عليها تؤكله تشرِّبه تلعب معه.
"إنها ليست أمي .. ولكنها ماما نعمه"، كما طلبت منه أن يناديها.
ولكه على كل حال يمكنه أن يقول كلمة "ماما" فهي "ماما نعمه"!
¦ ¦ ¦
عناية الله عزوجل ولطفه يسّرت لهذا الطفل من يكفله ويعتني به، فقد كان الحادث المروِّع الذي ذهب بأبيه وأمه، حديث تناقله الناس في اسى وحزن، وعاطفة حرّكت وجدان قلب كبير، ما أن بلغه الخبر حتى قام بكفالة هذا اليتيم..
نشأ الطفل في أحضان صاحب هذا القلب الكبير، وترعرع كزهرة، تتفتح ، وامتد كبرعم يكبر شيئاً فشيئاً.
شعر الطفل بالدفء والحنان، بعد أن كاد يذهب به برد الخوف والهلع.
سكن قلبه الصغير بعد أن تنازعه الخوف والحسرة.
وتألّق عقله بعد أن كاد يودي به التساؤل.
شعر بالهدؤ بعد أن تطايرت به ريح الغربة والوحدة، بعيداً عن أبيه وأمه.
لم تعد تلك الأحلام تقض مضجعه، لم يعد يتفزز في السرير، لقد صار ينام هانئاً.
¦ ¦ ¦
نشأ وحيد نشأة متميزة، في ظلال هذا الرجل.
فتح عينيه على الحياة قريباً من الرجل الذي كفله يتيماً ورعاه صبياً ووجهه فتاً يافعاً .
أكمل التعليم الابتدائي .. والاعدادي . والثانوي، متفوقاً متميزاً على أنداده، وبرزت فيه علامات النجابة والذكاء.
أسعد أوقاته لمّا يجلس قريباً من هذا الرجل الذي أظله بعطفه ورحمته، وسكّن روعه، وأذهب ألمه.
إنه يحبه ويحترمه ويعظمه من أعماق قلبه.
إنها نعمة عظيمة من الله عزوجل عليه أن يسّر له هذا الرجل ليكون له مكان أبيه!
يراه في المجلس والناس يدخلون عليه ويسلمون ويعرضون ما لديهم.. يرى الزائرين .. ويسمع .. كان والد الجميع.. كل من حوله "وحيد" كان يشعر بأن هذا الرجل أبٌ له.
[يهنأ الجميع برعايته وعطفه الكبير، وحنانه الواسع الذي ليس له حدود.
كان يحب أن يراه مع إخوانه الصغار وبقية أهله يومياً، فيجتمعون بعد مغرب كل يوم في قصره، ويجلس لهم فيلاطفهم واحداً واحداً، ويقدِّم لهم الهدايا والحلوى.
كان يحب المباسطة على المائدة خلال تناول الطعام، يمازح أبناءه وجلساءه ويحادثهم أحاديث طلية، لا أثر للكلفة فيها.
كان في تربيته له يجمع بين الرّحمة والشدة، و لا يفرق بينه وبين أبنائه، فالكل سواء عنده، والكل أبناؤه]([2]).
كان هذا الرجل : عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية.
يقول أحد الكتاب ممن عاش قريباً منه: "ما رأيت أحداً يعني بتربية أبنائه بنفسه وتريبهم وتخريجهم في حال طفولتهم كالملك عبدالعزيز"اهـ([3]).
[1]) قصة قصيرة، عن الملك عبدالعزيز يرحمه الله!
([2]) ما بين معقوفتين من كلام للملك فيصل يرحمه الله، في وصف والده يرحمه الله مع أسرته، في مقال له، نقله الزركلي في كتابه "شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز" (1/23-24)، بتصرف يسير جداً.
([3]) شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز (1/29)
مصدر المقال :
موقع الشيخ محمد بازمول في موقع جامعة أم القرى
موقع الشيخ محمد بازمول في موقع جامعة أم القرى
تعليق