خطبة الجمعة 21 من محرم 1433هـ الموافق 16-12-2012م بعنوان: (لا تحزن)...
وهي الخطبة الثالثة للشيخ حفظه الله تعالى بعد وفاة أمه رحمة الله عليها
للاستماع والتحميل:
عناصر الخطبة:
- أعجب الْأَشْيَاء (الفوائد)
- أساس كل خير (الفوائد)
- الْقلب لَا يسْتَقرّ وَلَا يطمئن و لا يسكن إِلَّا بالوصول إِلَى الله (الفوائد)
- العَبْد دَائِما متقلب بَين أَحْكَام الْأَوَامِر وَأَحْكَام النَّوَازِل (الفوائد)
- شرح الحديث الشريف "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"
- لله عزَّ و جلَّ على عَبده أَمر أمره بِهِ وَقَضَاء يَقْضِيه عَلَيْهِ ونعمة ينعم بهَا عَلَيْهِ وَله عَلَيْهِ عبودية فِي هَذِه الْمَرَاتِب كلهَا (الفوائد)
- الحزن (طريق الهجرتين وباب السعادتين)
- الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين
- ما يحمد في الحزن و ما يجب على المسلم إذا أصابه
- لا حزن مع الله أبدًا
- مثل من لا حزن عنده من شدة أنسه بالله : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
- أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ (زاد المعاد في هدي خير العباد)
- إذا أراد بعبد خيرًا (الوابل الصيب من الكلم الطيب)
- "كن كيف شئت فإن الله تعالى لك كما تكون أنت له ولعباده" (الوابل الصيب من الكلم الطيب)
التفريغ :
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عِمْرَان:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النِّسَاء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الْأَحْزَاب:٧٠-٧١].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
02:34
فمن أعجب الْأَشْيَاء أَن تعرفه ثمَّ لَا تحبه، وَأَن تسمع داعيه ثمَّ تتأخر عَن الْإِجَابَة، وَأَن تعرف قدر الرِّبْح فِي مُعَامَلَته ثمَّ تُعامل غَيره، وَأَن تعرف قدر غَضَبه ثمَّ تتعرّض لَهُ، وَأَن تذوق ألم الوحشة فِي مَعْصِيَته ثمَّ لَا تطلب الْأنس بِطَاعَتِهِ، وَأَن تذوق عصرة الْقلب عِنْد الْخَوْض فِي غير حَدِيثه والْحَدِيث عَنهُ ثمَّ لَا تشتاق إِلَى انْشِرَاح الصَّدْر بِذكرِهِ ومناجاته، وَأَن تذوق الْعَذَاب عِنْد تعلق الْقلب بِغَيْرِهِ وَلَا تهرب مِنْهُ إِلَى نعيم الإقبال عَلَيْهِ والإنابة إِلَيْهِ، وأعجب من هَذَا عِلمك أَنَّك لابد لَك مِنْهُ وَأَنَّك أحْوج شَيْء إِلَيْهِ وَأَنت عَنهُ مُعرض وَفِيمَا يُبعدك عَنهُ رَاغِب.
-الفوائد-
04:15
و أساس كل خير أَن تعلم أَن مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فتيقن حِينَئِذٍ أَن الْحَسَنَات من نعمه فتشكره عَلَيْهَا وتتضرّع إِلَيْهِ أَن لَا يقطعهَا عَنْك وَأَن السَّيِّئَات من خذلانه وعقوبته فتبتهل إِلَيْهِ أَن يحول بَيْنك وَبَينهَا وَلَا يكلك فِي فعل الْحَسَنَات وَترك السَّيِّئَات إِلَى نَفسك فإنّه لا حول و لا قوة إلّا به.
وَقد أجمع العارفون على أَن كلَّ خيرٍ فأصله بِتَوْفِيق الله للْعَبد وكل شَرّ فأصله خذلانه لعَبْدِهِ، وَأَجْمعُوا أَن التَّوْفِيق أَن لَا يكلك الله إلى نفسك وأن الخذلان أَن يُخلي بَيْنك وَبَين نَفسك فَإِذا كَانَ كل خير فأصله التَّوْفِيق وَهُوَ بيد الله لَا بيد العَبْد فمفتاحه الدُّعَاء والافتقار وَصدق اللَّجأ وَالرَّغْبَة والرهبة إِلَيْهِ فَمَتَى أعْطى العَبْد هَذَا الْمِفْتَاح فقد أَرَادَ أَن يفتح لَهُ وَمَتى أضلّه عَن الْمِفْتَاح بَقِي بَاب الْخَيْر مغلقًا دونه.
قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه: "إِنِّي لَا أحمل هم الْإِجَابَة وَلَكِن همَّ الدُّعَاء فَإِذا ألهمت الدُّعَاء فَإِنَّ الْإِجَابَة مَعَه"
[والتوفيق على قدر النيَّة] وعَلى قدر نيَّة العَبْد وهمته وَمرَاده ورغبته فِي ذَلِك يكون توفيقه سُبْحَانَهُ وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالَمين و العالِمين يَضَع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ و هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم وَمَا أُتِي من أُتِي إِلَّا من قِبَل إِضَاعَة الشُّكْر وإهمال الافتقار وَالدُّعَاء وَلَا ظفِر من ظفر بِمَشِيئَة الله وعونه إِلَّا بقيامه بالشكر وَصدق الافتقار وَالدُّعَاء
ومِلاك ذَلِك الصَّبْر فَإِنَّهُ من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَإِذا قُطع الرَّأْس فَلَا بَقَاء للجسد.
-الفوائد-
08:07
[أين يجد المرء راحة قلبه؟ و أين يجد المرء صلاح باله و انشراح صدره و راحة بدنه؟ كلُّ ذلك في طاعة الله ] وَتَحْت هَذَا سر عَظِيم من أسرار التَّوْحِيد وَهُوَ أَن الْقلب لَا يسْتَقرّ وَلَا يطمئن و لا يسكن إِلَّا بالوصول إِلَيْهِ وكل مَا سواهُ مِمَّا يحبُّ وَيُرَاد فمراد لغيره وَلَيْسَ المُرَاد المحبوب لذاته إِلَّا وَاحِدًا إِلَيْهِ الْمُنْتَهى ويستحيل أَن يكون الْمُنْتَهى إِلَى اثْنَيْنِ كَمَا يَسْتَحِيل أَن يكون ابْتِدَاء الْمَخْلُوقَات من اثْنَيْنِ فَمن كَانَ انْتِهَاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إِلَى غَيره بَطل عَلَيْهِ ذَلِك وَزَالَ عَنهُ وفارقه أحْوجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ وَمن كَانَ انْتِهَاء محبته ورغبته ورهبته وَطَلَبه هُوَ سُبْحَانَهُ ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أَبَد الآباد.
-الفوائد-
10:08
والعَبْد دَائِما متقلب بَين أَحْكَام الْأَوَامِر وَأَحْكَام النَّوَازِل [و المؤمن الحقُّ يقول عند الأمر سمعنا وأطعنا و عند الخبر سمعنا و صدقنا] فَهُوَ مُحْتَاج بل مُضْطَر إِلَى العون عِنْد الْأَوَامِر وَإِلَى اللطف عِنْد النَّوَازِل، وعَلى قدر قِيَامه بالأوامر يحصل لَهُ من اللطف عِنْد النَّوَازِل فَإِن كمَّل الْقيام بالأوامر ظَاهرا وَبَاطنا ناله اللطف ظَاهرا وَبَاطنا وَإِن قَامَ بصورها دون حقائقها وبواطنها نال اللطف فِي الظَّاهِر وَقل نصِيبه من اللطف فِي الْبَاطِن.
فَإِن قلت وَمَا اللطف الْبَاطِن؟ فَالجواب: هو مَا يحصل للقلب عِنْد النَّوَازِل من السكينَة والطمأنينة وَزَوَال القلق وَالِاضْطِرَاب والجزع فيستخذى بَين يَدي سيّده ذليلا لَهُ مستكينا نَاظرا إِلَيْهِ بِقَلْبِه سَاكِنا إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وسرِّه قد شغله مُشَاهدَة لطفه بِهِ عَن شدَّة مَا هُوَ فِيهِ من الْأَلَم وَقد غيّبه عَن شُهُود ذَلِك مَعْرفَته بِحسن اخْتِيَاره لَهُ وَأَنه عبد مَحْض يُجْرِي عَلَيْهِ سيّده أَحْكَامه رَضِي أَو سخط فَإِن رَضِي نَالَ الرِّضَا وَإِن سخط فحظه السخط فَهَذَا اللطف الْبَاطِن ثَمَرَة تِلْكَ الْمُعَامَلَة الْبَاطِنَة يزِيد بزيادتها وَينْقص بنقصانها.
-الفوائد-
12:36
[أخرج الترمذي و ابن ماجة بسنديهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط "
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم لأنه خلقهم ليمحصهم و أنشاهم و بَرَاهم ليختبرهم فمحسن و مسيئ و برٌّ و فاجر و مؤمن و كافر و مقبل عليه و مدبر عنه، فما خلقهم في الحياة لينعمَّهم و ما في الحياة من النعيم فإنه من جنس نعيم الآخرة فآل النّعيم كله إلى نعيم الآخرة فنعيم الدنيا في سكون القلب إلى الله و رضا الفؤاد عن الله و انطراح العبد بين يدي سيده و مولاه فمهما وجد من لذَة و رضا فذلك ليس من الحياة الدنيا و إنّما هو من نعيم الآخرة، إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم بنقص من الأموال و الأنفس و الثمرات يقضي بما يشاء و يحكم بما يريد لا رادَّ لقضائه و لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء و هو على كل شيء قدير، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. ]
15:15
لله عزَّ و جلَّ على عَبده أَمر أمره بِهِ وَقَضَاء يَقْضِيه عَلَيْهِ [فلا ينبغي أن ينشغل بما أريد به عمّا أريد منه] ونعمة ينعم بهَا عَلَيْهِ فَلَا يَنْفَكّ من هَذِه الثَّلَاثَة، وَالْقَضَاء نَوْعَانِ: إِمَّا مصائب وَإِمَّا معائب، وَله عَلَيْهِ عبودية فِي هَذِه الْمَرَاتِب كلهَا فَأحب الْخلق إِلَيْهِ من عرف عبوديته فِي هَذِه الْمَرَاتِب ووفاها حَقّهَا فَهَذَا أقرب الْخلق إِلَيْهِ وأبعدهم مِنْهُ من جهل عبوديته فِي هَذِه الْمَرَاتِب فعطَّلها علما وَعَملا.
- فعبوديته فِي الْأَمر امتثاله اخلاصا واقتداء برَسُول الله صلى الله عليه و على آله و سلم وَفِي النَّهْي عبوديته اجتنابه النهي خوفًا مِنْهُ وإجلالا له ومحبة له.
- وعبوديته فِي قَضَاء المصائب وما يقضيه عليه منها الصَّبْر عَلَيْهَا ثمَّ الرِّضَا بهَا وَهُوَ أَعلَى مِنْهُ ثمَّ الشُّكْر عَلَيْهَا وَهُوَ أَعلَى من الرِّضَا وَهَذَا إِنَّمَا يتَأتَّى مِنْهُ إِذا تمكن حُّبه من قلبه وَعلم حسن اخْتِيَاره لَهُ وبره بِهِ ولطفه بِهِ وإحسانه إِلَيْهِ بالمصيبة وَإِن كره الْمُصِيبَة.
[لأنّه الرحمــن الرحيم والعبد إذا سلّم قال: من أكون وما أكون ولكن عذت بحولك وعذت بطولك].
- وعبوديته تعالى فِي قَضَاء المعايب الْمُبَادرَة إِلَى التَّوْبَة مِنْهَا والتنصل وَالْوُقُوف فِي مقَام الِاعْتِذَار والانكسار عَالما بِأَنَّهُ لَا يرفعها عَنهُ إِلَّا هُوَ وَلَا يَقِيه شَرها سواهُ وَأَنَّهَا [يعني المعائب] إِن استمرت أبعدته من قربه وطردته من بَابه فيراها من الضّر الَّذِي لَا يكشفه سواه حَتَّى انه ليراها أعظم من ضرّ الْبدن فهو عَائِذ بِرِضَاهُ من سخطه وبعفوه من عُقُوبَته وَبِه مِنْهُ مستجير وملتجىء مِنْهُ اليه يعلم أَنه إِن تخلى عَنهُ وخلَّى بَينه وَبَين نَفسه فعنده أَمْثَالهَا وَشرٌّ مِنْهَا وَأَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الإقلاع وَالتَّوْبَة إِلَّا بتوفيقه تعالى وإعانته وَأَن ذَلِك بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ لَا بيد العَبْد فَالعبد أعجز وأضعف و أذلُّ وَأَقل من أَن يوفق نَفسه أَو يَأْتِي بمرضاة سَيّده بِدُونِ إِذْنه ومشيئته وإعانته. فَهُوَ ملتجىء إِلَيْهِ، متضرعٌ ذليل مِسْكين، مُلْقٍ نَفسه بَين يَدَيْهِ، طريحٌ بَابه، مستخذٍ له، أذلّ شَيْء وأكسره لَهُ، وأفقره وأحوجه إِلَيْهِ، وأرغبه فِيهِ وأحبه لَهُ، بدنه متصرف فِي أشغاله، وَقَلبه ساجد بَين يَدَيْهِ، يعلم يَقِينا انه لَا خبر فِيهِ وَلَا لَهُ وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ وَأَن الْخَيْر كُله لله وَفِي يَدَيْهِ وَبِه وَمِنْه فَهُوَ وليُّ نعْمَته ومبتدئه بهَا من غير اسْتِحْقَاق ومجريها عَلَيْهِ مَعَ تمقُّته إِلَيْهِ بإعراضه وغفلته ومعصيته فحظه سُبْحَانَهُ الْحَمد وَالشُّكْر وَالثنَاء وحظ العَبْد الذَّم وَالنَّقْص وَالْعَيْب قد اسْتَأْثر بالمحامد والمدح وَالثنَاء وَولَّى العَبْد الْمَلَامَة والنقائص ولعيوب فَالْحَمْد كُله لَهُ وَالْخَيْر كُله فِي يَدَيْهِ وَالْفضل كُله لَهُ وَالثنَاء كُله لَهُ والْمنَّة كلهَا لَهُ فَمِنْهُ الْإِحْسَان وَمن العَبْد الْإِسَاءَة وَمِنْه التودد إِلَى العَبْد بنعمه وَمن العَبْد التبغض إِلَيْهِ بمعاصيه وَمِنْه النصح العَبْدِهِ وَمن العَبْد الْغِشّ لَهُ فِي مُعَامَلَته [فهذه عبودية المعايب].
- وَأما عبودية النعم فمعرفتها وَالِاعْتِرَاف بهَا أَولا ثمَّ العياذ بِهِ أَن يَقع فِي قلبه نِسبتها وإضافتها إِلَى سواهُ وَإِن كَانَ سَببًا من الْأَسْبَاب فَهُوَ مسبِّبه ومقيمه فالنعمة مِنْهُ وَحده بِكُل وَجهٍ وَاعْتِبَار ثمَّ الثَّنَاء بهَا عَلَيْهِ ومحبته عَلَيْهَا وشكره بِأَن يستعملها فِي طَاعَته وَمن لطائف التَّعَبُّد بِالنعَم أَن يستكثر قليلها عَلَيْهِ ويستقلَّ كثير شكره عَلَيْهَا ويعلم أَنَّهَا وصلت إِلَيْهِ من سَيّده من غير ثمن بذله فِيهَا وَلَا وَسِيلَة مِنْهُ توسَّل بهَا إِلَيْهِ وَمن غيرِ اسْتِحْقَاق مِنْهُ لَهَا وَأَنَّهَا لله فِي الْحَقِيقَة لَا للْعَبد فَلَا تزيده النِّعم إِلَّا انكسارا وذلا وتواضعا ومحبة للمنعم وَ وَكلما جدَّد لَهُ قبضًا أحدث لَهُ رضا و كلما أحدث ذنبا أحدث لَهُ تَوْبَة وانكسارا و جدّد له رجوعا واعتذارا فَهَذَا هُوَ العَبْد الكيّس وَالْعَاجِز بمعزل عَن ذَلِك.
-الفوائد-
[عبودية في الأمر و عبودية عند الوقوع في الإثم و الخطيئة و الذنب و عبودية في مقابلة النعم كما أنَّ العبودية في مقابلة النِّقم ممَّا ينبغي أن يُؤتى به حتَّى يصير العبد عبدًا كما يحب ربه و يرضى و حتّى لا يكون عبدًا من قوارير و الله جلَّ و علا من صفاته القبض و البسط يقبض و يبسط و إليه ترجعون فكم من حالة قبض تعتري القلب عصرًا و الكبد طحنًا و النَّفس حرقًا و لا مفرِّج لذلك إلّا الله بيده الخير و هو على كل شيء قدير يقبض و يبسط و إليه ترجعون]
24:57
[و الله رب العالمين جعل الحزن من عوارض الطريق في السير سير السّالك إلى خير رفيق فلا بدَّ منه فإنَّ الحزن من عوارض الطريق، و الحَزن و الـحُـزن نقيض الفرح و خلاف السرور و هو غمُّ يلحق من فوات نافع أو حصول ضار و هو الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أوفوات محبوب، و هو من من عوارض الطريق لا من مقامات الإيمان و لا من منازل السائرين فليس الـحَزن من منازل السائرين إلى ربِّ العالمين و لا هو من مقامات المؤمنين إنّما هو عارض يعرض في الطريق و ناشب ينشب أضفاره و أنيابه في القلوب و الأكباد ليعود النَّاس إلى ربِّهم فإنَّه لا يكشف الضرَّ إلّا هو و لا يفرِّج الكرب إلّا هو و لا يصل إلى العبد خير إلّا منه و لا يُدفع عنه شرٌّ إلّا بحوله و قوّته.]
فالحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأْمر الله به فى موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتَّب عليه جزاء ولا ثواباً، بل نهى عنه فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139]،
[فنهى الله عنه و لم يتعبّدنا به ولا رتَّب عليه في ذاته جزاء ولا ثواباً و لكن إن جاءت حالة قبض به فالثَّواب على الصبر عليه و الجزاء على مكابدته حتّى لا يقع العبد فيما يغضب ربَّه]
وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] ، وقال تعالى: {فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] ، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا} [التوبة: 40] ، فالحزن هو بلية من البلايا التى نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن} [فاطر: 34] ، فحمدوه على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجَّاهم منها.
وفى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه كان يستعيذ بالله تبارك و تعالى من الهمِّ و الحزن وكان يقول صلى الله عليه و آله و سلّم فى دعائه: "اللَّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضَلَع الدين وغلبة الرجال".
فاستعاذ صلى الله عليه و آله وسلم من ثمانية أشياء كل شيئين منها قرينان: فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم. فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضى أثَّر الحزن، وإن كان مصدره خوف الآتى أثَّر الهم. والعجز والكسل قرينان، فإن تخلَّف عن العبد مصلحته وبعدت عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل. والجبن والبخل قرينان، فإن الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم، وترك الإحسان يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه، فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال، وغلبة الدين و قهر الرجال قرينان، فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه وإما من غيره، وإن شئت قلت: إما بحق وإما بباطل من غيره.
والمقصود أن النبى صلى الله عليه و آله وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه. وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10]،
فالحَزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التى يُبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم والحرِّ و البرد ونحو ذلك، وأما أن يكون عبادة مأْموراً بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه العبد من البليات.
ولكن يُحمد فى الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يَحزن على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه فى مخالفته ومعصيه وضياع أيامه وأوقاته.
وهذا يدل على صحة الإيمان فى قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحسَّ بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدي عليه، فإنه يضعفه.
بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته فى السفر، فجلس فى الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدِّث نفسه باللحاق بالقوم. فكلما فتر وحزن حدَّث نفسه باللحاق برُفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع، فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين.
[فإذا ابتلى الله جلَّ و علا و هو من ابتلائه عبدًا بحزن و قبض و ضيق و غمٍّ و همٍّ فليعلم بدءًا أنّه لا كاشف لذلك إلّا الله و لا صرف عنه سواه فإذا أقبل عليه منطرحًا بين يديه مفوضًا أمره إليه متبرِّيا من حوله و قوّته ضارعًا مستكينًا مخبتًا خاشعًا منيباً فرّج عنه و أثابه على مابتلاه به و أجزل له العطيّة و أتمَّ عليه النعمة]
وأخص من هذا الحَزن حَزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجِدِّه فى سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما فى ابتداء أمره،
[فإنَّ القلب إذا تشتت إرادته و توزّعت همته و ضعفت نيّته و شغل بهذا و هذا و تلك و تلك و ما هنالك من أمر الدنيا و زينتها فأين يجد قوة على سيره إلى ربِّه و أوبته إلى خالقه عابدًا عبودية الأبرار مُخبةً إخباة المنيبين الّذين خالفوا طريق الأشرار و الفجَّار فسلّمهم الله من المعايب و أنعم عليهم جلَّ و علا بفضله و منِّه و نعمته فأكبر شيء يزاوله القلب بدءًا أن يتشتت متفرِّقا و أن يتناثر متبعثرًا فمهما حاول أن يجمع على ربِّه أَبَى، و إنَّما هو هائم بكلِّ سبيل طائر في كلِّ واد فلا يحصِّل خيرًا و لا يقع على معروف. على أنّ الإنسان إذا أصابه الحزن على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجِدِّه فى سلوكه فهذا من أخصِّ ما يكون، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما فى ابتداء أمره]،
فالأول حزن على التفريط فى الأعمال و الثّاني حزن على نقص حاله مع الله وتفرقه بقلبه وكيف صار ظرفاً لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده.
[إنَّ الحياة المعاصرة لا تكاد تدع لأحد وقتا يخلو فيه بربِّه و يقبل فيه على مولاه و إن وجد طرفا من ذلك فإنّما هو كحسو الطّائر أو لمعة البرق في أجواز الفضاء ثمَّ إنَّ المردود منه و النَّاتج عنه إنّما هو قبض الهباء و إنّما هو الفراغ و العدم، فجمع القلب على الله أوّل شيء يكون و محاربة تفرُّق القلب و تبعثره في أودية الدنيا هائمًا من أهمِّ المهمّات]
وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف فى غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل فى هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج.
فهذه المراتب من الحزن لا بد منها فى الطريق
[فالحزن من عوارضه و لا بد من أن ينشب بأنيابه و أضفاره في السَّالك إلى ربِّه و هو من الإبتلاء يحتاج الصبر عليه و الإنابة إلى الله جلَّ و علا لكشفه و الاستكانة بالانطراح بين يديه حتَّى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا هذه المراتب من الحزن لا بد منها فى الطريق]
ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النَّفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفى حصوله عن الفكرة فى الأسباب التى يدفعها به فأَورثها ذلك الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة عفيفة نبيلة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجاً فكَّرت فى طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت فى عبودية الله فيه. وكان ذلك عوضاً لها من الحزن.
وعلى كل حال لا فائدة لها فى الحزن أصلاً.
[و هو من العوارض لا من مقامات السالكين و لا من منازل الأبرار المتقين و النَّفس الشريفة إن ألمَّ بها شيء منه و إن كان طاحنًا و نزل بها طرف منه و إن كان ثقيلا يؤود الجبال فعليها أن تفزع إلى العبودية لله في تلك الحال
رأى عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى شابًا قد استرخى إزاره و كان ذلك في أثناء دفن عبد الملك ابن عمر ابن عبد العزيز و كان عمر يعرف قدر عبد الملك و يعلم أن الله تبارك و تعالى قد سخَّر له الهداية عن طريقه كما صرّح بذلك في كلامه رحمهما الله تعالى فلمَّا قضى عليه الله بالّذي لابد منه فأودعه حفرته نظر حوله فرأى شابًّا قد استرخى إزاره فقال يابن أخي إرفع إزارك فقال يا أمير المؤمنين في مثل هذه الحال قال يابن أخي ماستأثر الله به فاله عنه، ماستأثر الله به فاله عنه. على أن العارض من الحزن ما يزال يلح على العبد لأنَّه لا حيلة له فيه فهو من قدر الرحمــــن الرحيم يرحم به نازلًا و يرحم به زائلًا و يرحم به ما بين ذلك و هو الرحمان الرحيم، وماستأثر الله به فاله عنه و لا تذهب نفسك عليه حسرات فإنَّ الأمر لله ربِّ الأرض و السماوات من لدنه تتنزَّل الرحمات من جهته تأتي البركات و هو فعَّال لما يريد].
ليست الخاصة من الحزن فى شيء.
معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة.
فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعَمُر قلبه بالسرور والأفراح وأقبلت إليه وفود التهانى والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبداً، ولهذا قال جلّ و علا حكاية عن صفيِّه و نجيِّه وصفوته من خلقه و خليله صلى الله عليه وآلى و سلم أنه قال لصاحبه أبى بكر رضي الله عنه:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
[فلا حزن مع الله أبدا، غير أنَّ العبد إذا أخطأته أسباب تحصيل المعية الخاصة فلم يكن معه ربه بنصرته و تأييده حلَّ الحزن بساحته و نزلت سحائب الأتراح هتَّانةً على واديه فإذا آب أخذ بيده و صرف عنه و كشف الله ما به :{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} فلا حزن مع الله أبدا]
فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أى شيء يحزن؟
[وإنّما هي أعراض زائلة و خيالات عابرة و إنّما هو برق خلّب و إنّما هي سحائب صيف لا تمطر و إنَّها لمنقضية و الله الموعد ]
ومن فاته الله فبأَى شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] ، فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه.
فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك. يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها فى قلبه ونضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسروراً.
فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العَلَم الذى شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
تلك المكارم لا قَعبانِ من لبن ... شيباً بماءٍ فعادا بعد أبوالا
-طريق الهجرتين وباب السعادتين-
47:52
[قال الإمام العلّامة ابن القيم رحمه الله في وصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و علم الله لقد كان من أشرح النَّاس صدرًا و أنعم النَّاس عيشًا و أقرِّ النَّاس عينًا مع قلَّة ذات اليد بل خلوِّها: "و كنَّا إذا ضاقت بنا الدّنيا و ساءت منَّا الظنون فما هو إلّا أن نذهب إليه فننظر إليه حتّى يكشف الله جلَّ و علا ذلك عنَّا"، من شدَّة أنسه بربه آنس به خلقه من شدّة إقباله على سيِّده و مولاه أقبل عليه بقلوب خلقه وأنعم عليهم به. "و كنّا إذا ضاقت لنا الدنيا و ساءت منَّا الظمون ماهو إلّا أن نذهب إليه و ننظر في وجهه حتّى يكشف الله ما بما"، من شدَّة أنسه بربه و لجوئه إلى مولاه و إدمان ذكره في الأصباح و الأمساء و ما بين ذلك مُعلَّقًا القلب بساق العرش.
قال عنه و كنت ربَّما صلّيت الصبح بجواره فإذا انفتل من الصلاة أقبل على ربِّه ذاكرا فما يزال يذكر ربَّه إلى قريب من منتصف النَّهار ثمَّ ياتفت إليَّ فيقول أي ولدي هذه غدوتي و لو لم أتغدى الغداء لسقطت قوَّتي.
كان يقول له "لا يكن قلبك كالإسفنجة وليكن قلبك كالمصباح" فالإسفنجة تتشرب ما تلقى فيه بولًا كان أو دمًا طاهرًا كان أم نجسًا فمهما كانت في مكان تأثَّرت به، "لا يكن قلبك كالإسفنجة وليكن قلبك كالمصباح" تنعكس عمه الشبهات و تقف عند حدوده الإيرادات، قال ابن القيم رحمه الله ما نفعني الله جلَّ و علا بوصية مثل ما نفعني بهذه الوصية، "لا يكن قلبك كالإسفنجة وليكن قلبك كالمصباح" إذا كنت بين أهل الدنا كنت من أهل الدنيا أو بين أهل المعاصي كنت من أهل المعاصي أو بين أهل الغفلة كنت من أهل الغفلة، "وليكن قلبك كالمصباح" في كلِّ حين و حال يتألَّق بنوره و يزهو بضوئه تنعكس عنه الشبهات و ترتدُّ عنه الإيرادات.
نسأل الله أن يثبت قلوبنا و أن يشرح صدورنا و أن يصلح بالنا و أن يثبت أقدامنا و أن يحسن ختامنا إنّه هو البرُّ الكريم و صلَّى الله و سلّم على نبيِّنا محمد و على آله و أصحابه أجمعين]
الخطبة الثانية
52:10[الحمد لله رب العالمين و أشهد أن لا إله إلَّا الله لا شريك له هو يتولَّى الصالحين و أشهد أن محمّدًا عبه و رسوله صلى الله عليه وآله و سلَّم صلاة و سلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أمَّا بعد
فحريُّ بالعبد المنيب أن يسلأل ربَّه متى يجد قلبي مستقرَّه و متى يلصه من ضيقه و ينعم بشرحه و متى يأتي الإطمئنان و الإستقرار و الهدوء و النَّضار و متى يخلص العبد من الحزن و الهمِّ و الغمِّ و الكرب و ما يسوء.]
إنَّ من َأَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: التَّوْحِيدُ، وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. وَقَالَ تَعَالَى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
فَالْهُدَى وَالتَّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ، وَالشِّرْكُ وَالضَّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ،
وَمِنْ أسباب شرح الصدر: النُّورُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ. فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النُّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ وَأصابه الحَرَجُ، وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ.
وَمِنْ أسباب شرح الصدر: الْعِلْمُ، فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُوَسِّعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ يُورِثُ الصدر الضِّيقَ وَالْحَصْرَ وَالْحَبْسَ، فَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتَّسَعَ، وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلْمٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، فَأَهْلُ العلم النَّفع أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا، و أنعمهم معيشة و أقرُّهم عينًا .
وَمِنْ أسباب شرح الصدر: الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتَّنَعُّمُ بِعِبَادَتِهِ، فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ. حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا: "إِنْ كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنِّي إِذًا فِي عَيْشٍ طَيِّبٍ".
وَلِلْمَحَبَّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَطِيبِ النَّفْسِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ أحسَّ بِهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ أَقْوَى وَأَشَدَّ كَانَ الصَّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ، وَلَا يَضِيقُ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطَّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ، وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمَّى رُوحِهِ.
[قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم: "كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حفالة أو قال حثالة و هما بمعنى من الناس مرجت عهودهم و خفّت أماناتهم و كانوا هكذا و شبك بين أصابعه" هم قذى عينه و مخالطتهم حمَّى روحه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "خذ ما تعرف و دع ماتنكر وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر عامتهم " و قد قال الصالحون: إنَّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما تنكر و أن تنكر ما تعرف، إنَّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر و أن تنكر ما كنت تعرف فقد انعكس الأمر عليك، سنون خدَّاعات يصدَّق فيها الكاذب و يكذَّب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة: الرجل التافه يتكمل في أمر العامة ]
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عذَّبه الله به لا محالة، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الَّذي أحبّه مع الله، فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا.
فَهُمَا مَحَبَّتَانِ:
مَحَبَّةٌ هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَنَعِيمُ الرُّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا، بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرَّةُ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةُ كُلُّهَا إِلَيْهِ.
وَمَحَبَّةٌ هِيَ عَذَابُ الرُّوحِ، وَغَمُّ النَّفْسِ، وَسِجْنُ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنَّكَدِ وَالْعَنَاءِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ مَا سِوَى الله سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَلِلذِّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ، وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا. وَ لذلك قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و آله وَسَلَّمَ ضاربًا المثل لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كما فِي الصَّحِيحِين "كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ" فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ.
وَمِن َأَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: إِخْرَاجُ دَغَلِ الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضِيقَهُ وَعَذَابَهُ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُصُولِ الْبُرْءِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَشْرَحُ صَدْرَهُ، وَلَمْ يُخْرِجْ تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْمَذْمُومَةَ مِنْ قَلْبِهِ، لَمْ يَحْظَ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِطَائِلٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَادَّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ لِلْمَادَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا.
وَمِن أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: تَرْكُ فُضُولِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَتستحيل هُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيِّقُهُ وَيَتَعَذَّبُ بِهَا، بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمٍ، وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ، وَمَا أَسْوَأَ حَالَهُ، وَمَا أَشَدَّ حَصَرِ قَلْبِهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا، حَائِمَةً حَوْلَهَا، فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الِانْفِطَارِ 13] ، وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الِانْفِطَارِ 14] ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
-زاد المعاد في هدي خير العباد-
01:02:50
إنَّ الله إذا أراد بعبد خيرًا فتح له من أبواب التوبة والنَّدم والانكسار والذلِّ والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرُّع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيِّئة الَّتي وقع فيها و الَّتي اقترفها سبب رحمته، حتى يقول عدوُّ الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار"، قالوا: كيف؟ قال: "يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقاً وَجِلاً باكياً نادماً مستعبرًا مستحياً من ربه جلَّ و علا ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما يترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبَّر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه".
فإذا أراد الله جلَّ و علا بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسَره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلَّاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخِذلان الموجب لهلاكه.
وقد أجمع العارفون كلّهم على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
-الوابل الصيب من الكلم الطيب-
01:05:15
إنَّ الله جلَّ و علا يحب الرحماء و هو الرحمان الرحيم و إنَّما يرحم من عباده الرحماء و هو ستِّير يحب من يستر على عباده و ععفوٌّ يحب من يعفو عنهم و غفور يحب من يغفر لهم و لطيف يحب اللطف من عباده ويبغض الفظَّ الغليظ القاسيَ الجعظريَّ الجوَّاظ و رفيق يحب الرِّفق و حليم يحبُّ الحلم و برٌّ يحبُّ البِرَّ و أهله و عدل يحبُّ العدل و قابل للمعاذير يحب من يقبل معاذير عباده و يجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه و جودًا و عدمًا فمن عفى عفى عنه، ومن غفر غفر له، و من سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، و من رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبَّع عورتهم تتبَّع عورته، و من هتكهم هتكه و فضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاقَّ شاقَّ الله به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة عينها في الدنا و الآخرة. فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، ولذلك جاء في الحديث "من ستر مسلماً ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله تعالى عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله تعالى حسابه، ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظلَّه الله تعالى في ظلِّ عرشه".
وَ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آله و سَلَّمَ- :"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته، فكما تدين تدان، وكن كيف شئت فإن الله تعالى لك كما تكون أنت له ولعباده" .
-الوابل الصيب من الكلم الطيب-
01:08:22
[نسأل الله جلَّت قدرته وتقدَّست أسماؤه أن لا يشغلنا بالمخلوقات عن الخالق و لا بالمحدثات عن المحدث و لا بالمدبَّرات عم المدبِّر و أن يجعل إلى رضوانه لقلوبنا سبيلًا و إلى رحمته قبضًا و تحصيلًا و نسأل الله ربَّ العالمين إذا أراد بالنَّاس فتنة أن يقبضنا إليه غير فاتنين و لا مفتونين و لا خزايا و لا محزونين و لا مغيِّرين و لا مبدِّلين إنَّه هو تعالى أرحم الرَّاحمين و أكرم الأكرمين و صلَّى الله و سلَّم على نبيِّنا محمد و على آله و أصحابه أجمعين.]
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "إني لآتي عَلَى الآية من كتاب الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ، فلودِدت أن جميع الناس علموا منها مثل الذي أعلم"
تعليق