بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة في الحث على الحلم والصفح
لفضيلة الشيخ عمر بن محمد السبيل -رحمه الله تعالى-
خطبة في الحث على الحلم والصفح
لفضيلة الشيخ عمر بن محمد السبيل -رحمه الله تعالى-
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه متاب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أعظم الناس خلقا وأوسعهم حلما وأقواهم عزيمة وصبرا، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء ومن سلك سبيلهم واقتفى وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها الذخر الذي يبقى، والزاد الذي لا يفنى، فاتقوا الله تعالى في السر والنجوى، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
عباد الله عنوان رقي الأمم وتقدمها وسبيل عزها ومجدها إنما يكون بالحفاظ على القيم والآداب ومكارم الأخلاق، والأخذ بمعالي الفضائل وجميل الشمائل في مجتمعاتها وأفرادها، لذا فلا غرو أن يعنى الإسلام بأمر الأخلاق عناية عظمى، وأن يوليها رعاية كبرى، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) رواه الإمام أحمد وغيره.
وإن مما عني به الإسلام من محاسن الأخلاق وفضائل الآداب ووجه إلى التحلي به، الإتصاف بالحلم، فإن الحلم يا عباد الله من أرقى الآداب، وأنبل الأخلاق، وأجل الشمائل، وأسمى الفضائل، فقد وصف الله تعالى به نفسه، وجعله خلقا لأوليائه وحملة وحيه، ومبلغي رسالاته، فقال عز شأنه عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إن إبراهيم لأواه حليم)، وقال عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام: (وبشرناه بغلام حليم).
أما خاتم الأنبياء والمرسلين وهو الذي بلغ الغاية في الفضائل والنهاية في المكارم، فقد كان في الذروة بين البشر في الحلم، وسعة الصدر، وكظم الغيظ، وضبط النفس، والإستعلاء على الغضب. وكان حلمه صلوات الله وسلامه عليه مضرب المثل، فقد صبر على ما لا يصبر عليه غيره، وتحمل من الأذى ما لم يتحمله سواه، رغم قساوة ما لاقى، ومرارة ما عانى من جهل الجاهلين وتطاول المنافقين وأذى اليهود والمشركين، غير أنه عليه الصلاة والسلام وهو صاحب الخلق العظيم كان يقابل ذلك كله بحلم واسع، وصفح جميل، وصبر عظيم عز نظيره وقل مثيله مستوحيا ذلك من توجيه الحق سبحانه بقوله: (فاصفح الصفح الجميل) وقوله عز وجل: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وقوله عز شأنه: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون). فامتثل صلوات الله وسلامه عليه هذه التوجيهات الإلهية حتى ضرب بحلمه أسمى الأمثال وبصفحه أروع الفعال، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينتقم لنفسه من أحد قط إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله تعالى لا لنفسه، كما وصفته بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولقد بلغ من عظيم حلمه وجليل عفوه صلى الله عليه وسلم أنه حينما عاد إلى مكة فاتحا منتصرا لم يزد على أن قال لأهلها وهم الذين آذوه وأخرجوه منها: (لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مواقف كبرى ودروس عظمى في الحلم والصبر ما روى الشيخان عن ابن عمر مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء). وفي الصحيحين أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين: يا محمد اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويلك من يعدل إن لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي). وروى البخاري ومسلم أن رجلا قال يوم أن قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين: ما أريد بهذه القسمة وجه الله، فبلغ قوله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد على أن قال: (لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر). فأي حلم فوق هذا؟ وأي عفو وفضل أجل من هذا؟ إذ لم يعاقب النبي صلوات الله وسلامه عليه واحدا من أولئك على الرغم من شناعة ما قالوا وبشاعة ما اقترفوا في حقه صلى الله عليه وسلم، لكنه آثر العفو والصفح وتدرع بالحلم والصبر، وهكذا شأن الكمل من الرجال المصطفين الأخيار، وإن في هذا لأعظم أسوة، وأبلغ قدوة لأمته صلى الله عليه وسلم من بعده.
عباد الله كم يمر على المرء في هذه الحياة من مواقف تؤلمه وتضجره وتثير كوامن نفسه، وقد تخرجه عن حدود الإعتدال، وتؤدي به إلى الغضب والإنفعال، ثم قد يتبع ذلك تصرفات قولية أو فعلية لا يحمدها في عاقبة أمره، حين تهدأ نفسه، ويذهب غيظه، ويعود إلى رشده، بل قد يأس أسى بالغا على بعض تصرفاته، ويندم ندما شديدا على بعض أقواله، ولو اتصف بالحلم وتدرع بالصبر وضبط النفس لما ندم على شيء من ذلك ولكن ولات ساعة مندم. ولذا فإن من رسوخ الإيمان، ورجاحة العقل، وقوة العزيمة أن يملك المرء نفسه عند الغضب، ويحفظها عما لا يحمد، ويكبح جماحها، ويحد من ثورتها، وألا يسترسل وراء الإنفعال، وينقاد لهوى النفس حين يستنار من جاهل يتطاول عليه، أو يبتلى بأحمق يسيء إليه، بل يقابل ذلك بحلم واسع وصبر جميل، ويعرض إعراض من لم يسمع ولم ير، ليعظم بذلك أجره، وتزكو به نفسه، ويرتفع به قدره، وتلك فضيلة عظمى، ومنقبة كبرى لا يقوى عليها إلا الأفذاذ من الناس الأقوياء في إيمانهم، الأشداء في عزائمهم، كما قال عز وجل: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، وكما قال عليه الصلاة والسلام في معرض معرض التوجيه للأمة (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) أخرجاه في الصحيحين. فقد أبان صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن القوة الحقيقية في نظر الإسلام ليست بقوة الأجسام والأبدان، وإنما هي القوة في العزيمة والإرادة، والقدرة على ضبط النفس والتحكم بها عند الغضب وحفظها عن ارتكاب المآخذ أو الوقوع في المآثم.
فبالحلم يا عباد الله تستجلب كثير من المصالح والخيرات، وتندفع كثير من الشرور والآفات، كما قيل في منثور الحكم: الحلم حجاب الآفات، وقال بعض الحكماء: ما ذب عن الأعراض كالصفح والإعراض، وقال حكيم آخر: من أرسل حلمه على سقطات الجاهل أمن الغوائل وفاز بالسداد الكامل. وكان الأحنف بن قيس رحمه الله يضرب به المثل في الحلم، وإذا تعجب الناس من حلمه قال: إني لأجد ما تجدون ولكني صبور، وكان يقول أيضا: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: (إن كان فوقي عرفت له فضله وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه).
وكفى بالحلم فضلا وشرفا أنه خلق يحبه الله وبه يقرب المرء من ربه ومولاه، كما قال عليه الصلاة والسلام للأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة) أخرجاه في الصحيحين.
وإن من الحزم والرشاد أن يعوّد المرء نفسه على التخلق بالحلم والإتصاف به. فقد روي في الأثر: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه). وقال الإمام الليث بن سعد رحمه الله: (تعلموا الحلم قبل العلم فما جمع شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم).
فاتقوا الله عباد الله ولتتصفوا بالحلم وتتحلوا بالعفو والصفح يكتب الله تعالى لكم الخير والسداد والتوفيق والرشاد (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين ومعين الصابرين أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وهدى للناس أجمعين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى واتصفوا بصفات أهل البر والتقوى، وتحلوا بالحلم والصفح عند جهل الجهلاء، أو تعدي السفهاء، واحذروا أسباب الغضب ودوافعه، واجتنبوا مثيراته ومهيجاته، فذلك دليل العقل والرشاد وقوة الإيمان، فإن من ضعف العزيمة وقلة البصيرة أن يكون المرء غضوبا عجولا يثور لأتفه الأسباب، وينفعل عندما يمسه أحد بأدنى سوء أو أذى، ويظل يرتعش كالمحموم ينطق بالبذاء، ويتكلم بالفحش وربما تجاوز ذلك إلى الضرب والإعتداء فيجلب على نفسه بسبب حمقه وطيشه العداوة والبغضاء، وربما خسر بسبب ذلك صديقه وأليفه، وألحق الضرر بنفسه وأهله، وشتت شمل أسرته بسبب تلفظه بطلاق ونحوه، ولو اتصف بخلق الإسلام، وتأدب بأدب أهل الإيمان، ونهج هدى سيد الأنام في حلمه وأناته، وصبره وتحمله، لسلم من ذلك العناء، ولاستراح من ذلك الشقاء.
ولتعلموا عباد الله أنه كلما ازداد إيمان العبد وقوي يقينه عظم حلمه وتجلت سماحته وظهرت مروءته وابتعد عن مواطن الغضب المؤدي إلى الزلل في الأقوال والأفعال. وبذلك تنطفئ كثير من العداوات والبغضاء وتتآلف القلوب، وتتصافى النفوس، وتقوى أخوة الإيمان، ورابطة الإسلام بين أبناء المجتمع وأفراد الأمة، وبذلك يستجلب رضوان الله تعالى ومغفرته كما قال عز شأنه: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)، وقال عز وجل: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
من كتاب النسيم العليل من أقوال الشيخ الجليل عمر بن محمد السبيل -رحمه الله تعالى-
تعليق