::: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :::
وهذا نقل طيب يتحدث عن تعريف الحياء وأقسامه نسأل الجبار جلت قدرته أن ينفعنا به ويجعلنا من المستحيين منه -إنه على ذلك قادر-
تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ وَأَقْسَامُه: / ابن القيم رحمه الله:
وَالْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ.
قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: (الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ. وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ. وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ. وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ).
وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: ((أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ: بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ. فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ)).
وَقَالَ ذُو النُّونِ: ((الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ، وَالْحُبُّ يُنْطِقُ وَالْحَيَاءُ يُسْكِتُ. وَالْخَوْفُ يُقْلِقُ)).
وَقَالَ السَّرِيُّ: ((إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْأُنْسَ يَطْرُقَانِ الْقَلْبَ فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ وَإِلَّا رَحَلَا)).
وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ. إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ. وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ. وَمَحَوْتُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ زَلَّاتِكَ. وَإِلَّا نَاقَشْتُكَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عِظْ نَفْسَكَ. فَإِنِ اتَّعَظَتْ، وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي أَنْ تَعِظَ النَّاسَ» .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "خَمْسٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّقْوَةِ: الْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ. وَجُمُودُ الْعَيْنِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ. وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَطُولُ الْأَمَلِ."
وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي. يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ. وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي» .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: "مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ مُذْنِبٌ".
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَمَعْنَاهُ:
"أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالِ طَاعَتِهِ فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِطْرَاقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ: فَإِنَّهُ إِذَا وَاقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَرَى مِنْ وَلِيِّهِ وَمَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: مَا يَشِينُهُ عِنْدَهُ وَفِي الشَّاهِدِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَخَصِّ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ - مِنْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ مَنْ يُحِبُّهُ - وَهُوَ يَخُونُهُ. فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ حَيَاءٌ عَجِيبٌ. حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ".
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَيَاءِ أَنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ فِي حَالِ طَاعَتِهِ كَأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خَائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الْحَيَاءُ. كَمَا إِذَا شَاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، أَوْ مَنْ قَدْ أُحْصِرَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَخْجَلُ أَيْضًا. تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ.
وَهَذَا قَدْ يَقَعُ وَلَكِنَّ حَيَاءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فَارِغُ الْبَالِ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْحَيَاءُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وَسُقُوطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَإِنَّمَا سَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِهِ. فَيُنْزِلُ الْوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ هُوَ. وَلَا سِيَّمَا إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ الْمُكَاشَفَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَهِيجُ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْهُ تَكَرُّمًا. فَعِنْدَ تَقْدِيرِهَا يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الْحَيَاءُ. هَذَا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ:فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ. وَلَا تَكَيَّفُهُ الْعُقُولُ. فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَبِرٍّ وُجُودٍ وَجَلَالٍ. فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ شَابَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: "سُبْحَانَ مَنْ يُذْنِبُ عَبْدُهُ وَيَسْتَحْيِي هُوَ". وَفِي أَثَرٍ: «مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ» .
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَيَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ:حَيَاءُ جِنَايَةٍ. وَحَيَاءُ تَقْصِيرٍ. وَحَيَاءُ إِجْلَالٍ. وَحَيَاءُ كَرَمٍ. وَحَيَاءُ حِشْمَةٍ. وَحَيَاءُ اسْتِصْغَارٍ لِلنَّفْسِ وَاحْتِقَارٍ لَهَا. وَحَيَاءُ مَحَبَّةٍ. وَحَيَاءُ عُبُودِيَّةٍ. وَحَيَاءُ شَرَفٍ وَعِزَّةٍ. وَحَيَاءُ الْمُسْتَحْيِي مِنْ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا حَيَاءُ الْجِنَايَةِ: فَمِنْهُ حَيَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. بَلْ حَيَاءً مِنْكَ» .
وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ: كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ: هُوَ حَيَاءُ الْمَعْرِفَةِ وَعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ.
وَحَيَاءُ الْكَرَمِ: كَحَيَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا.
وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ: كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَذْيِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ.
وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ: كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ، احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكَ هِيَ يَا رَبِّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ. وَعَلَفَ شَاتِكَ» .
وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ سَبَبَانِ.
أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَارُ السَّائِلِ نَفْسَهُ وَاسْتِعْظَامُ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ.
الثَّانِي: اسْتِعْظَامُ مَسْئُولِهِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ: فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ. وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَالٌ رَائِعٌ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ. فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. وَرَآهُ بَغْتَةً: أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ.
وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ. فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ - كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ - فَسَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ: فَظَاهِرٌ. لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ: فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ.
وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا هَذَا.
وَالثَّانِي: اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذُ ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَر.
وهذا نقل طيب يتحدث عن تعريف الحياء وأقسامه نسأل الجبار جلت قدرته أن ينفعنا به ويجعلنا من المستحيين منه -إنه على ذلك قادر-
تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ وَأَقْسَامُه: / ابن القيم رحمه الله:
وَالْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ.
قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: (الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ. وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ. وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ. وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ).
وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: ((أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ: بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ. فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ)).
وَقَالَ ذُو النُّونِ: ((الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ، وَالْحُبُّ يُنْطِقُ وَالْحَيَاءُ يُسْكِتُ. وَالْخَوْفُ يُقْلِقُ)).
وَقَالَ السَّرِيُّ: ((إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْأُنْسَ يَطْرُقَانِ الْقَلْبَ فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ وَإِلَّا رَحَلَا)).
وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ. إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ. وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ. وَمَحَوْتُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ زَلَّاتِكَ. وَإِلَّا نَاقَشْتُكَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عِظْ نَفْسَكَ. فَإِنِ اتَّعَظَتْ، وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي أَنْ تَعِظَ النَّاسَ» .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "خَمْسٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّقْوَةِ: الْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ. وَجُمُودُ الْعَيْنِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ. وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَطُولُ الْأَمَلِ."
وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي. يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ. وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي» .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: "مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ مُذْنِبٌ".
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَمَعْنَاهُ:
"أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالِ طَاعَتِهِ فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِطْرَاقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ: فَإِنَّهُ إِذَا وَاقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَرَى مِنْ وَلِيِّهِ وَمَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: مَا يَشِينُهُ عِنْدَهُ وَفِي الشَّاهِدِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَخَصِّ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ - مِنْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ مَنْ يُحِبُّهُ - وَهُوَ يَخُونُهُ. فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ حَيَاءٌ عَجِيبٌ. حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ".
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَيَاءِ أَنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ فِي حَالِ طَاعَتِهِ كَأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خَائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الْحَيَاءُ. كَمَا إِذَا شَاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، أَوْ مَنْ قَدْ أُحْصِرَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَخْجَلُ أَيْضًا. تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ.
وَهَذَا قَدْ يَقَعُ وَلَكِنَّ حَيَاءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فَارِغُ الْبَالِ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْحَيَاءُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وَسُقُوطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَإِنَّمَا سَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِهِ. فَيُنْزِلُ الْوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ هُوَ. وَلَا سِيَّمَا إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ الْمُكَاشَفَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَهِيجُ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْهُ تَكَرُّمًا. فَعِنْدَ تَقْدِيرِهَا يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الْحَيَاءُ. هَذَا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ:فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ. وَلَا تَكَيَّفُهُ الْعُقُولُ. فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَبِرٍّ وُجُودٍ وَجَلَالٍ. فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ شَابَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: "سُبْحَانَ مَنْ يُذْنِبُ عَبْدُهُ وَيَسْتَحْيِي هُوَ". وَفِي أَثَرٍ: «مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ» .
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَيَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ:حَيَاءُ جِنَايَةٍ. وَحَيَاءُ تَقْصِيرٍ. وَحَيَاءُ إِجْلَالٍ. وَحَيَاءُ كَرَمٍ. وَحَيَاءُ حِشْمَةٍ. وَحَيَاءُ اسْتِصْغَارٍ لِلنَّفْسِ وَاحْتِقَارٍ لَهَا. وَحَيَاءُ مَحَبَّةٍ. وَحَيَاءُ عُبُودِيَّةٍ. وَحَيَاءُ شَرَفٍ وَعِزَّةٍ. وَحَيَاءُ الْمُسْتَحْيِي مِنْ نَفْسِهِ.
فَأَمَّا حَيَاءُ الْجِنَايَةِ: فَمِنْهُ حَيَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. بَلْ حَيَاءً مِنْكَ» .
وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ: كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ: هُوَ حَيَاءُ الْمَعْرِفَةِ وَعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ.
وَحَيَاءُ الْكَرَمِ: كَحَيَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا.
وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ: كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَذْيِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ.
وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ: كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ، احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكَ هِيَ يَا رَبِّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ. وَعَلَفَ شَاتِكَ» .
وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ سَبَبَانِ.
أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَارُ السَّائِلِ نَفْسَهُ وَاسْتِعْظَامُ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ.
الثَّانِي: اسْتِعْظَامُ مَسْئُولِهِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ: فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ. وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَالٌ رَائِعٌ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ. فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. وَرَآهُ بَغْتَةً: أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ.
وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ. فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ - كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ - فَسَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ: فَظَاهِرٌ. لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ: فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ.
وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا هَذَا.
وَالثَّانِي: اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذُ ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ.
وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَر.
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.