عجائب النفوس
كتب:د. حمد بن ابراهيم العثمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
روح الإنسان ونفسه عالم كبير عجيب، وهذا امر تعرفه البشرية كلها، وبات اليوم علما لوحده، كتبت فيه المصنفات ، وصار مقررا دراسيا الزاميا في كثير من الجامعات.
والشريعة الاسلامية لاشك ان لها السبق في تأصيل هذا العلم. وتجارب الناس حقل كبير مهم في إثراء هذا العلم.
ومن المعلوم ان الروح هي الاصل في قيمة الانسان وتصنيفه باعتبار علم النفس، فترى الرجل السمين لا تستثقله لخفة روحه، وترى الرجل الضعيف النحيف تستثقله لثقل روحه، ولذلك قال ابومحمد ابن حزم رحمه الله:( انما تأنس بالنفس، فاما الجسد فمستثقل مبروم به، ودليل ذلك استعجاله بدفن حبيبه اذا فارقته نفسه، واسفه لذهاب النفس، وان كانت الجثة حاضرة بين يديه). مداواة النفوس ص.24
ومن الامر المشاهد والذي يلمسه كل واحد منا انه يلتقي احيانا مع أقوام لاول مرة، لا يعرف عنهم اي شيء اطلاقا، لا عن أخلاقهم ولا سيرتهم يجد في نفسه انقباضا وعدم ارتياح منهم ، وربما حاول البعض ارغام نفسه على خلطة هذا الشخص، فتأبى عليه روحه ذلك، والسر في ذلك معلوم وهو تنافر الارواح، فسبحان الله رب العالمين.
ومصداق ذلك ما جاء في الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
وأحوال ومقامات السلف في ذلك معلومة مشهورة، قال ابو العباس المروزي:»كنا يوما عند ابي خيثمة زهير بن حرب، فجاءه فتى أحول مجدور فجلس، ومدَّ رجليه بحضرة ابي خيثمة، وجعل يتأوّه، فقال له ابو خيثمة : يا بني انت ثقيل، فما شأنك، قال: فغضب وقام، فركب ومضى الى أبيه، فبلغني انه شكاه، فقال له أبوه: يا بني انت ثقيل كما قال، وقد علمت ذلك، ولكن احببت ان يكون بغضك باسناد«. الجامع لاخلاق الراوي(198/1).
وقال حفص بن غياث:»أتيت الأعمش،فقال:اذا كان غدا، فائتني اطعمك عصيدة وأحدثك بعشرة احاديث نخب، ولا تحمل معك ثقيلا« الجامع لأخلاق الراوي(307/1).
وتكلم علماء الاسلام في اسرار نصوص القرآن والسنة، وبيان ما اشتملت عليه من اسرار علم النفس والطباع، وما فيها من الاشارة الى موافقة طباع بعض الخلق لطباع البهائم، قال ابن عقيل الحنبلي في قوله تعالى( وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم أمثالكم) (الانعام: 37).
قال : »وكان ذلك ممتنعا من جهة الخلقة والصورة، وعدما من جهة المنطق والمعرفة، فوجب ان يكون منصرفا الى المماثلة في الطباع والاخلاق.« الآداب الشرعية (543/2).
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله :»ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فاذا قام الانسان عن رجيعه قمّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن اضعاف اضعاف المساوىء، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فاذا رأى سقطة او كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل احقد الحيوان، واغلظه كبداً، ومنهم من هو على طبيعة الدُبًّ أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد.
وأحمد طبائع الحيوانات: طبائع الخيل، التي هي اشرف الحيوانات نفوسا، واكرمها طبعا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فان تغذى بلحمه كان الشبه اقوى، فان الغاذي شبيه بالمغتذي، ولهذا حرّم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير، لما تورث أكلها من شبه نفوسها بها« مدارج السالكين(403/1).
والنفوس لها مكامن من الأخلاق الخطيرة التي اذا لم تلجم بلجام الشرع افسدت الدين والدنيا، بل وأحلت بالبلاد والعباد الخراب والدمار.
وهذا واقع حقا وصدقا. ولا مجازفة فيه ابداً، وبرهان ذلك في القصة التي سأوردها لنتبين حقيقة ما قد تفسده النفوس اذا اطلق لها أصحابها العنان، فتخيل وتصور عزيزي القارىء ان الصليبيين استولوا على عكا وسفكوا الدماء وهتكوا الاعراض وجاسوا خلال الديار، وكتب صلاح الدين الى ملك المغرب يستنصره ، فأبى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن ان ينصره لان خطاب صلاح الدين لملك الغرب خلا من وصف ملك المغرب بـ »امير المؤمنين« مع انه نعته بالقاب عظيمة، فاختار ملك المغرب ان تهتك اعراض المسلمين، وتسفك دماؤهم وتحتل ديارهم، فقط لتحقيق غرور نفسه عافانا الله.
قال ابو شامة المقدسي رحمه الله:» لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النّجدة، وبلغني انه عزَّ عليهم كونه لم يخاطب بامير المؤمنين على جاري عادتهم«. الروضتين في اخبار الدولتين(205/4).
وهذا والله من عجائب النفوس المريضة مع ان صلاح الدين خاطبه بقوله:»الامير الأجَلّ، الاسفهسلار ـ يعني العمدةـ الاصيل ، العالم المحترم، جمال الأنام، تاج الدولة، امين الحلة ، صفوة الملوك والسلاطين، شرف الامراء، مُقَدّم الخواص، ادام الله توفيقه، ويَسّر طريقه، وانجح مقصده، واعذب مورده، وحرس مغيبه ومشهده، واسعد يومه وغده«الروضتين(191/4).
فمعرفة هذه الحقيقة لرعونات بعض النفوس، والوقوف على الآثار والمآسي التي خلفتها في فساد الديار، موجب لتأمل حقائق كثير من المواقف، والله اسأل ان يعصم نفوسنا من شرورها ومن الشيطان.
والحمدلله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ النشر: الاثنين 19/6/2006
جريدة الوطن الكويتية
المصدر :http://www.al-sunna.net/articles/file.php?id=78
كتب:د. حمد بن ابراهيم العثمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
روح الإنسان ونفسه عالم كبير عجيب، وهذا امر تعرفه البشرية كلها، وبات اليوم علما لوحده، كتبت فيه المصنفات ، وصار مقررا دراسيا الزاميا في كثير من الجامعات.
والشريعة الاسلامية لاشك ان لها السبق في تأصيل هذا العلم. وتجارب الناس حقل كبير مهم في إثراء هذا العلم.
ومن المعلوم ان الروح هي الاصل في قيمة الانسان وتصنيفه باعتبار علم النفس، فترى الرجل السمين لا تستثقله لخفة روحه، وترى الرجل الضعيف النحيف تستثقله لثقل روحه، ولذلك قال ابومحمد ابن حزم رحمه الله:( انما تأنس بالنفس، فاما الجسد فمستثقل مبروم به، ودليل ذلك استعجاله بدفن حبيبه اذا فارقته نفسه، واسفه لذهاب النفس، وان كانت الجثة حاضرة بين يديه). مداواة النفوس ص.24
ومن الامر المشاهد والذي يلمسه كل واحد منا انه يلتقي احيانا مع أقوام لاول مرة، لا يعرف عنهم اي شيء اطلاقا، لا عن أخلاقهم ولا سيرتهم يجد في نفسه انقباضا وعدم ارتياح منهم ، وربما حاول البعض ارغام نفسه على خلطة هذا الشخص، فتأبى عليه روحه ذلك، والسر في ذلك معلوم وهو تنافر الارواح، فسبحان الله رب العالمين.
ومصداق ذلك ما جاء في الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
وأحوال ومقامات السلف في ذلك معلومة مشهورة، قال ابو العباس المروزي:»كنا يوما عند ابي خيثمة زهير بن حرب، فجاءه فتى أحول مجدور فجلس، ومدَّ رجليه بحضرة ابي خيثمة، وجعل يتأوّه، فقال له ابو خيثمة : يا بني انت ثقيل، فما شأنك، قال: فغضب وقام، فركب ومضى الى أبيه، فبلغني انه شكاه، فقال له أبوه: يا بني انت ثقيل كما قال، وقد علمت ذلك، ولكن احببت ان يكون بغضك باسناد«. الجامع لاخلاق الراوي(198/1).
وقال حفص بن غياث:»أتيت الأعمش،فقال:اذا كان غدا، فائتني اطعمك عصيدة وأحدثك بعشرة احاديث نخب، ولا تحمل معك ثقيلا« الجامع لأخلاق الراوي(307/1).
وتكلم علماء الاسلام في اسرار نصوص القرآن والسنة، وبيان ما اشتملت عليه من اسرار علم النفس والطباع، وما فيها من الاشارة الى موافقة طباع بعض الخلق لطباع البهائم، قال ابن عقيل الحنبلي في قوله تعالى( وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم أمثالكم) (الانعام: 37).
قال : »وكان ذلك ممتنعا من جهة الخلقة والصورة، وعدما من جهة المنطق والمعرفة، فوجب ان يكون منصرفا الى المماثلة في الطباع والاخلاق.« الآداب الشرعية (543/2).
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله :»ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فاذا قام الانسان عن رجيعه قمّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن اضعاف اضعاف المساوىء، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فاذا رأى سقطة او كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل احقد الحيوان، واغلظه كبداً، ومنهم من هو على طبيعة الدُبًّ أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد.
وأحمد طبائع الحيوانات: طبائع الخيل، التي هي اشرف الحيوانات نفوسا، واكرمها طبعا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فان تغذى بلحمه كان الشبه اقوى، فان الغاذي شبيه بالمغتذي، ولهذا حرّم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير، لما تورث أكلها من شبه نفوسها بها« مدارج السالكين(403/1).
والنفوس لها مكامن من الأخلاق الخطيرة التي اذا لم تلجم بلجام الشرع افسدت الدين والدنيا، بل وأحلت بالبلاد والعباد الخراب والدمار.
وهذا واقع حقا وصدقا. ولا مجازفة فيه ابداً، وبرهان ذلك في القصة التي سأوردها لنتبين حقيقة ما قد تفسده النفوس اذا اطلق لها أصحابها العنان، فتخيل وتصور عزيزي القارىء ان الصليبيين استولوا على عكا وسفكوا الدماء وهتكوا الاعراض وجاسوا خلال الديار، وكتب صلاح الدين الى ملك المغرب يستنصره ، فأبى ملك المغرب يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن ان ينصره لان خطاب صلاح الدين لملك الغرب خلا من وصف ملك المغرب بـ »امير المؤمنين« مع انه نعته بالقاب عظيمة، فاختار ملك المغرب ان تهتك اعراض المسلمين، وتسفك دماؤهم وتحتل ديارهم، فقط لتحقيق غرور نفسه عافانا الله.
قال ابو شامة المقدسي رحمه الله:» لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النّجدة، وبلغني انه عزَّ عليهم كونه لم يخاطب بامير المؤمنين على جاري عادتهم«. الروضتين في اخبار الدولتين(205/4).
وهذا والله من عجائب النفوس المريضة مع ان صلاح الدين خاطبه بقوله:»الامير الأجَلّ، الاسفهسلار ـ يعني العمدةـ الاصيل ، العالم المحترم، جمال الأنام، تاج الدولة، امين الحلة ، صفوة الملوك والسلاطين، شرف الامراء، مُقَدّم الخواص، ادام الله توفيقه، ويَسّر طريقه، وانجح مقصده، واعذب مورده، وحرس مغيبه ومشهده، واسعد يومه وغده«الروضتين(191/4).
فمعرفة هذه الحقيقة لرعونات بعض النفوس، والوقوف على الآثار والمآسي التي خلفتها في فساد الديار، موجب لتأمل حقائق كثير من المواقف، والله اسأل ان يعصم نفوسنا من شرورها ومن الشيطان.
والحمدلله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ النشر: الاثنين 19/6/2006
جريدة الوطن الكويتية
المصدر :http://www.al-sunna.net/articles/file.php?id=78