بسم الله الرحمان الرحيم
أسباب الحزن وعلاجه - خطبة الجمعة 27-06-1433هـ
للتحميل
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، إن الواجب على المسلم أن يرفض كل تصرفاته على وفق ما دلت عليه سنة محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعرض له من سرور وحزنٍ وحلمٍ أو غضبٍ من تعمله في حياته مما يعرض له في حياته، ومن تعامله مع الآخرين، ومن ذلكم الحزن، فإن الحزن يُبتلى به الإنسان بسبب أو بأخر، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق الأمثل للتعامل مع الحزن في كل ما يعرض الإنسان فيه، وبيان العلاج الشافي الذي يخلص المسلم من هذا الداء العضال.
أيُّها المسلم، وعندما يتأمل الحال تجد أن الحزن له أسباب متعددة، عندما تتفكر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أن للحزن أسباب متعددة فمن أسبابها: التناجي، لاسيما التناجي بين العدد القليل، وقد نهى الله المسلمين عن التناجي السيئ بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ*إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)، إرشاد من الله للمسلمين أن يكون تناجيهم بالخير لا بالشر، بالطاعة لا بالمعصية، بالبر والتقوى لا بالإثم والعدوان، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ ذلك أَنْه يُحْزِنَهُ".
أيُّها المسلم، وممن يحزن أيضا ويجلب الحزن على المسلم ما قد يراه في منامه من أحلام تقض مضجعه، وتقلق راحته، وتتوالى عليه الهم والغم والحزن والكآبة، يرى في منامه رؤيا تقلقه يظن وقعها عليه، ويظن تأثره بها ولكنها بتوفيق من الله بعيد البعد عن ذلك، يرى في منامه ما يقض مضاجعه ويكدر صف حياته وقد جاء بالسنة علاجٌ لذلك الحزن ليخففه عن المسلم أو يرفعه.
أيُّها المسلم، فإن هدي الإسلام في ذلك واضح قال أَبَا سَلَمَةَ رحمه الله كُنْتُ أَرَى في المنام رُّؤْيَا امْرِضُ منها حَتَّى سألت أَبَا قَتَادَةَ الأنصاري فقال: إني أَرَى رُّؤْيَا في منامي ما يمْرِضُنِي، حَتَّى سَألتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الرُّؤْيَا الْصالحةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَليُخبر بِهِ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فلينفث عن يساره ثلاث مرات َلْيَستَعَيَذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَلاَ يُخبر بِهَا أَحَدًا فَإِنَّ ذلك لا يضره"، وقد أغلق النبي صلى الله عليه وسلم باب التجاوب مع الموسوسين في مرائيهم فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان في منامه"، وأرشدنا أن تعامل مع من لا يعجبنا من الرؤيا الأمور التالية أولا: أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن يحول الإنسان من منامه من جنب إلى الجنب الآخر، ثالثاً: أن نصلي ركعتين لله، لعل الله يرفع بنا هذا الأحزان، وأن لا نخبر به أحدا، فبتلكم الأسباب الطيبة تزول عنا أحزان هذه المرايا الموحشة التي تخوفنا وتقل مضاجعنا وهيا أمور مما تلاعب الشيطان، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الأحلام على ثلاثة فمنها بشرى من الله، ومنها أحزان من الشيطان، ومنها ما يتأثر الإنسان في حديثه في نهاره، إذاً فكون العبد يتفل ثلاث مرات، ويحول منامه من جنب إلى آخر، ويكتم تلك الرؤى ويتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ولا يخبر به أحدا، أسباب تذهب عنه ذلك الحزن الذي أصابه بتلك المرايا المخوفة المزعجة.
أيُّها المسلم، ومن أسباب الحزن أيضا ما يرمى به البريء من الأمور الخطيرة ظلماً وعدوانا، فما يرمى به الأبرياء ظلماً وعدوانا لا شك أنه يحزن من رمي بذلك، ويقلق بما رمي به، إذا كان بريئا فيما يعلم الله منه، فما يرمى به من قول أو فعل وهو عدوان وكذب عليه يؤلمه ويحزنه ولا يسره هكذا طبيعة الإنسان؛ ولكن لهذا علاج واضح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وزوجته عائشة وأبواها الصديق وزوجته وصفوان بن معطر رضي الله عنه رميت عائشة بما رميت به من الإفك والعدوان والظلم والكذب والافتراء، وقد جاءت برأتها من فوق سبع سماوات بتبرأة الله لها مما نسب إليها المنافقون وضعفاء البصائر، ولنا في هذه القصة أمور فأولا: أن المصائب ظلما وعدوانا لابد من يسليه في مصيبته ويشارك أحزانه وألامه،تقول عائشة رضي الله عنهابينما أنا أبكي عند الأبوين إذا استأذنت امرأة من الأنصار فجعلت تبكي مع بكائي تسليني بذلك، قالوا ومنها أيضاً تهوين أمر المصيبة على المصاب، وتذكيره بالصبر والاحتساب، فإن عائشة رضي الله عنها أخبرت أنها سألت رسول الله أن تبقى عند أبويها أثناء تلك المصيبة العظيمة قالت رضي الله عنها وأرضاها فقالت: لأمها هوني على نفسك يا بني إنها ما من امرأة مطيعة لزوج يحبها ولها ضراة إلا أكثرنا عليها، ومنها أن هذه البلية قد تكسب المظلوم خيرا في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ومنها أن يعلم العبد أن هذا الظلم والعدوان لابد أن ينجلي تظهر الحقائق، ولابد أن يعلم أن في هذا صبراً وتكفيراً للسيئات والأخطاء، ومن أسباب ما يسبب الحزن للمسلم أيضا: فوات مصالحه المادية أو حدوث أضرار في بدنه ونحو ذلك، وهذا الحزن أيضا يعالجه الشرع بالأمور التالية: أولا أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، كل شيء بقضاء الله وقدره، والله أرحم بعبده من رحمة أميه وأبيه به، فإذا أصابته المصيبة في ماله خسر تجارته قلة موارده، خسر صفقته فليتفكر قول الله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، ومنها أن يعلم المسلم أنه في ضراءه وسراءه هو على خير ضراءه وسراءه فإنه في الضراء صابرا فله أجر، وفي السراء شاكرا فله أجر، يقول صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا للْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ عجب إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ أو أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ".
أيُّها المسلم، ومما يسبب الحزن على المسلم أصابت قريب له، ومحب له بما يصيبه من مرض أو نحو ذلك، فيسليه ويعوده، فإن عيادة المريض تسليةً له وتهويلا لآلامه وأحزانه، مرض سعد بن أبو عبادة رضي الله عنه فخرج النبي يعوده ومعه عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعو،د فلما أتى سعد إلا بغشيه فقال أقضاء، قالوا: لا، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى الحضور ببكائه ثم قال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلاَ بِدَمْعِة الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا يعني: اللسان أَوْ يَرْحَمُ"، فزيارة المريض وتسليته وإظهار التألم بألامه وتضميد جراحه كل ذلك مما يخفف أحزانه وألامه، وممن يحزن العبد أيضا: ذهاب بعض أولاده أو من زوجه أو من بعض أحبابه من زوجة أو أولاد ونحو ذلك ولاشك أن هذا يحزن المسلم، ولاشك أن هذا يؤلمه ويحزنه؛ ولكن إذا تدرع بالصبر والثبات، وذكر الله، واطمأن لقائه، هانت مصيبته فأولا: عالجه الشرع بأنه لم يحارب الحزن الكل؛ بل إن تعلم الإنسان وحزنه أمر طبعي فلا يمكن أن ينهى عنه؛ بل يفرج همه من بكاء ونحو ذلك الذي لم يخرج عن حدود المعقول، ويروض نفسه بالصبر والاحتساب وتحمل المصائب، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق إيماناً بالله ورضاً بقضاء الله وقدره، ومع هذا حذرنا من المصيبة حزن الكرام فلما دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه بكاء فقيل له، فقال: "الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَخشع، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى الرب، وَإِنَّا لفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"، وقال:"هذه رحمة بقلب من شاء من عباده"، ولما توفيت أحد بناته وحضر عند قبرها قال: "ما منكم من يقارب الليلة"، فقال طلحة بن عبيد: أنا، قال: "أنزلها في لحدها"، قال: فأنزلتها فرأيت عينياه تذرفان من الدموع صلوات الله وسلامه عليه، فرأيت عينياه تذرفان بالدموع رحمةً لهذا الميت وحزن عليه صلى الله عليه وسلم، فإن التأثر بالبكاء، ودمع العين وحزن القلب إنما ينهى عن النياحةِ وشق الجيب وضرب الخد يقول صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"، قال أبو هريرة دعوة أمي للإسلام فأبت فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبكي فقالت يا رسول الله: دعوة أمي للإسلام فأسمعتني فيك ما أكره فأدعو الله أن يهديها، فقال: "اللهم أهدي أم أبي هريرة"، فقالت:فذهبت لها وجدت الباب مجفيا فدخلت، فسمعت خشخشة نعليه رجلي وسمعت خرير الماء فقال:انتظر أبا هريرة، فإذا تغتسل ثم تجرها فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، ففرحت بذلك ورجعة لرسول الله أبكي فقلت يا رسول الله: إن أمي أسلمت وأجاب الله دعوتك فيها، فيا رسول الله أدعو الله أن يحببني وأمي للمؤمنين، وأن يحبب المؤمنين لي ولأمي، فقال: "اللهم حبب عبيدك أبو هريرة وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم لعبادك المؤمنين"صلوات الله وسلامه عليه، هكذا أيها الأخوة يعالج الإسلام داء الحزن لا ما يعالجه ضعفاء البصائر الذين إذا أحاط بهم الكربات وحلت بهم المشاكل اضطروا إلى الانتحار، والتخلص من الدنيا لأنهم لا يرجون حسابا، ولا يُمنون ثوابا، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أما المسلم فأمام المصائب وإن عظمت وتكاثرت فالصبر والاحتساب والأخذ بأسباب الخير والنجاة من الكربات هو المطلوب من المسلم دائما وأبدا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله،المسلم يكون واقعيا في تعامله مع الأحداث والمصائب، تجرى المصائب والدنيا لا تخلوا من مصائب وبلايا في النفس والمال والولد لا تخلوا من ذلك ، ولله في ذلك حكمة عظيمة: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، الأخذ بالأسباب النافعة مطلوب وتوقي الشرور والحذر مطلوب؛ ولكن الصبر والاحتساب عند وقوع المكروه مطلوب والرضا عن الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة من علامة الإيمان، إن المسلم قد تتبع في حياته نكبات وبلايا؛ لكن عليه أن يصبر ولا يتسلم لهذه الأحزان والغموم والهموم؛ بل يكافح ويعمل ويجد ويجتهد، إن خسرت تجارته في هذه العام لا ييئس فربا ربح بالمستقبل، عن أصابته مصيبة أو حوادث صبر واحتسب، ورضي عن الله فإما أن يشفى من مرضه أو يكتب له الدرجات العليا، فإن العبد لا يدري فعل تلك المصيبة ترفعه درجات في دار كرامة الله، لا يزال البلاء في المؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أيُّها الأخوة، ومما يؤثر على المجتمع المسلم ما يتعامل به بعض معبرِ الرؤى الذين نصبوا أنفسهم معبرِ الرؤى ومفسر الأحلام تأتيهم الأسئلة من هنا وهناك وينصبون معبرين بالأحلام كاشفين لأسرارها؛ لكن وللآسف الشديد أن كثيراً من هؤلاء لا علم عندهم بالتأويل، لاشك أن الرؤيا حق، وأن تأويل الرؤيا حق، وعلم كما قال عن يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، لاشك أن علم التعبير علم؛ ولكن كثير من هؤلاء يعبرون عن جهل فتحوا للناس باب الوساوس والأوهام كل يسأل رأيت ورأيت ورأيت وإذا هذا المجيب يقول كذا وكذا يجيب عن أمور قد تكون غير واقعيه، وإنما هي أحاديث النهار يراها بالليل، يجيبه بأجوبة قد تدخل الحزن عليه وعلى بيته، وقد يقول له أنت مسحور، أنت مصاب بالعين، سحرك فلان وفلانة، أصابك فلان بعينه، سحرتك قريبتك جارك أخيك أختك فلان فلان إلى آخر ذلك، فيدخل عليه من الحزن والكآبة وتسد الدنيا في وجههم من آثر هؤلاء المعبرين الدجالين الذين لا يتقون الله فيما يقولون، وإنما ينصبون أنفسهم فيما ليسوا له، المعبر حقاً، والمؤول حق؛ لكن بأسلوب حكيم، بأسلوب شرعي لا فتح الباب على مصراعيه بهذا الرؤى المتعددة المتنوعة التي يتعبر بها هؤلاء على أهوائهم وأرائهم، ومما يأسف أيضا ما يسلكه بعض من يتولوا رقية المريض هؤلاء يرقون المريض ويزعمون أنهم يرقون المرضى بكتاب الله وسنة رسوله يدخلون على المريض الأوهام ويأتهم المرض مرضا يسيرا فما يخرج من عندهم حتى يزداد مرضه مرضا، وهمه هما، لماذا؟ لأن هذا الراقي هدانا الله وإياه يقول له أنت مصاب بمس، أنت مصاب بالسحر، أنت مصاب بالعين، أنت وأنت، أنت علاجك يحتاج إلى أشهر عديدة لابد أن تواصل معنا المسيرة ستة أشهر سبعة أشهر، لماذا؟ لأنه يبتز منه مالاً كثيرا ويظلمه ويحزنه ويجعله متعلق به، يظن أن الشفاء عند هذا الراقي الذي يجذب الأكاذيب والأباطيل جاءني فلان وجاءتني فلانة شفي على يدي العدد كبير، خلصته من السحر قضيته على العين وعلى ذلك، يجذب من الأكاذيب والأباطيل ما يخدع به الجاهل ويغوي به الإنسان، وحتى أنهم يسلكون في تعابير رؤيتهم أمورا تخالف الشرع عند التدقيق عليها والنظر فيها ترى كثير من هؤلاء سلكوا طرقاً غير مشروعة وأساءوا الرقي الشرعية، القرآن حق ودواء وشفاء (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) فاتحته شفاء المعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والكرسي شفاء، المسلم ينبغي أن يرقي نفسه دون أن يلجأ إلى هؤلاء، يرقي نفسه بفاتحة الكتاب وبآية الكرسي وبالمعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) دون أن يلجأ إلى أولئك الذين يحزنونه ويمرضونه ويبتزون ماله يبيعونه المال المطلوب فيه بأضعاف أضعاف قيمته بل بعشرات أضعافها ويجذبونه على الأوهام والكذب والأراجيف ما يحزنه ويؤلمه، فليكن ثقتنا بربنا وتعلقنا بربنا، وأخذنا بالأسباب المشروعة، وبعدنا عن هؤلاء لا المعبرون ولا الرقاة المرجفون أن يكون على حذر من وساوسهم وخرافاتهم وأباطيلهم، وفق الله الجميع بما يحبه ويرضى، وحفظنا وإياكم بالإيمان.
أيُّها الأخوة، إن الإيمان حقاً، إذا وقع في القلب أنار القلب، وانشرح الصدر، وقرة العين، واطمأنت النفس، دين الله إذا استقر في قلب المسلم أذهب عنه الأحزان والترهات وجعله على الطريق المستقيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، فحياة المؤمن طيبة في صحته ومرضه، في فرحه وحزنه، إنما الإيمان الحق هو الذي يسلي المسلم ويؤنسه ويفرحه ويسليه في كل مصائبه، أما هؤلاء فدجالون كذابون أخذوا أموال بغير حق، ردنا الله وإياهم على الصواب إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رحمكم الله على محمد صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، وجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العلمين،اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللَّهمَّ وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لما تحبه وترضه، سدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، وأعنه على مسئوليته، ووفقه للصواب فيما يقول ويعمل، اللَّهمَّ وفق ولاة أمور المسلمين عموما، وأصلح ولاتهم عموما ودله على كل خير، وأعذهم من مظلات الفتن إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عبادَ الله،(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
أسباب الحزن وعلاجه - خطبة الجمعة 27-06-1433هـ
للتحميل
أسباب الحزن وعلاجه
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، إن الواجب على المسلم أن يرفض كل تصرفاته على وفق ما دلت عليه سنة محمد صلى الله عليه وسلم، مما يعرض له من سرور وحزنٍ وحلمٍ أو غضبٍ من تعمله في حياته مما يعرض له في حياته، ومن تعامله مع الآخرين، ومن ذلكم الحزن، فإن الحزن يُبتلى به الإنسان بسبب أو بأخر، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق الأمثل للتعامل مع الحزن في كل ما يعرض الإنسان فيه، وبيان العلاج الشافي الذي يخلص المسلم من هذا الداء العضال.
أيُّها المسلم، وعندما يتأمل الحال تجد أن الحزن له أسباب متعددة، عندما تتفكر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أن للحزن أسباب متعددة فمن أسبابها: التناجي، لاسيما التناجي بين العدد القليل، وقد نهى الله المسلمين عن التناجي السيئ بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ*إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)، إرشاد من الله للمسلمين أن يكون تناجيهم بالخير لا بالشر، بالطاعة لا بالمعصية، بالبر والتقوى لا بالإثم والعدوان، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ ذلك أَنْه يُحْزِنَهُ".
أيُّها المسلم، وممن يحزن أيضا ويجلب الحزن على المسلم ما قد يراه في منامه من أحلام تقض مضجعه، وتقلق راحته، وتتوالى عليه الهم والغم والحزن والكآبة، يرى في منامه رؤيا تقلقه يظن وقعها عليه، ويظن تأثره بها ولكنها بتوفيق من الله بعيد البعد عن ذلك، يرى في منامه ما يقض مضاجعه ويكدر صف حياته وقد جاء بالسنة علاجٌ لذلك الحزن ليخففه عن المسلم أو يرفعه.
أيُّها المسلم، فإن هدي الإسلام في ذلك واضح قال أَبَا سَلَمَةَ رحمه الله كُنْتُ أَرَى في المنام رُّؤْيَا امْرِضُ منها حَتَّى سألت أَبَا قَتَادَةَ الأنصاري فقال: إني أَرَى رُّؤْيَا في منامي ما يمْرِضُنِي، حَتَّى سَألتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الرُّؤْيَا الْصالحةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَليُخبر بِهِ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فلينفث عن يساره ثلاث مرات َلْيَستَعَيَذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَلاَ يُخبر بِهَا أَحَدًا فَإِنَّ ذلك لا يضره"، وقد أغلق النبي صلى الله عليه وسلم باب التجاوب مع الموسوسين في مرائيهم فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان في منامه"، وأرشدنا أن تعامل مع من لا يعجبنا من الرؤيا الأمور التالية أولا: أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن يحول الإنسان من منامه من جنب إلى الجنب الآخر، ثالثاً: أن نصلي ركعتين لله، لعل الله يرفع بنا هذا الأحزان، وأن لا نخبر به أحدا، فبتلكم الأسباب الطيبة تزول عنا أحزان هذه المرايا الموحشة التي تخوفنا وتقل مضاجعنا وهيا أمور مما تلاعب الشيطان، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الأحلام على ثلاثة فمنها بشرى من الله، ومنها أحزان من الشيطان، ومنها ما يتأثر الإنسان في حديثه في نهاره، إذاً فكون العبد يتفل ثلاث مرات، ويحول منامه من جنب إلى آخر، ويكتم تلك الرؤى ويتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ولا يخبر به أحدا، أسباب تذهب عنه ذلك الحزن الذي أصابه بتلك المرايا المخوفة المزعجة.
أيُّها المسلم، ومن أسباب الحزن أيضا ما يرمى به البريء من الأمور الخطيرة ظلماً وعدوانا، فما يرمى به الأبرياء ظلماً وعدوانا لا شك أنه يحزن من رمي بذلك، ويقلق بما رمي به، إذا كان بريئا فيما يعلم الله منه، فما يرمى به من قول أو فعل وهو عدوان وكذب عليه يؤلمه ويحزنه ولا يسره هكذا طبيعة الإنسان؛ ولكن لهذا علاج واضح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وزوجته عائشة وأبواها الصديق وزوجته وصفوان بن معطر رضي الله عنه رميت عائشة بما رميت به من الإفك والعدوان والظلم والكذب والافتراء، وقد جاءت برأتها من فوق سبع سماوات بتبرأة الله لها مما نسب إليها المنافقون وضعفاء البصائر، ولنا في هذه القصة أمور فأولا: أن المصائب ظلما وعدوانا لابد من يسليه في مصيبته ويشارك أحزانه وألامه،تقول عائشة رضي الله عنهابينما أنا أبكي عند الأبوين إذا استأذنت امرأة من الأنصار فجعلت تبكي مع بكائي تسليني بذلك، قالوا ومنها أيضاً تهوين أمر المصيبة على المصاب، وتذكيره بالصبر والاحتساب، فإن عائشة رضي الله عنها أخبرت أنها سألت رسول الله أن تبقى عند أبويها أثناء تلك المصيبة العظيمة قالت رضي الله عنها وأرضاها فقالت: لأمها هوني على نفسك يا بني إنها ما من امرأة مطيعة لزوج يحبها ولها ضراة إلا أكثرنا عليها، ومنها أن هذه البلية قد تكسب المظلوم خيرا في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ومنها أن يعلم العبد أن هذا الظلم والعدوان لابد أن ينجلي تظهر الحقائق، ولابد أن يعلم أن في هذا صبراً وتكفيراً للسيئات والأخطاء، ومن أسباب ما يسبب الحزن للمسلم أيضا: فوات مصالحه المادية أو حدوث أضرار في بدنه ونحو ذلك، وهذا الحزن أيضا يعالجه الشرع بالأمور التالية: أولا أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، كل شيء بقضاء الله وقدره، والله أرحم بعبده من رحمة أميه وأبيه به، فإذا أصابته المصيبة في ماله خسر تجارته قلة موارده، خسر صفقته فليتفكر قول الله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، ومنها أن يعلم المسلم أنه في ضراءه وسراءه هو على خير ضراءه وسراءه فإنه في الضراء صابرا فله أجر، وفي السراء شاكرا فله أجر، يقول صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا للْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ عجب إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ أو أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ".
أيُّها المسلم، ومما يسبب الحزن على المسلم أصابت قريب له، ومحب له بما يصيبه من مرض أو نحو ذلك، فيسليه ويعوده، فإن عيادة المريض تسليةً له وتهويلا لآلامه وأحزانه، مرض سعد بن أبو عبادة رضي الله عنه فخرج النبي يعوده ومعه عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعو،د فلما أتى سعد إلا بغشيه فقال أقضاء، قالوا: لا، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى الحضور ببكائه ثم قال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلاَ بِدَمْعِة الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا يعني: اللسان أَوْ يَرْحَمُ"، فزيارة المريض وتسليته وإظهار التألم بألامه وتضميد جراحه كل ذلك مما يخفف أحزانه وألامه، وممن يحزن العبد أيضا: ذهاب بعض أولاده أو من زوجه أو من بعض أحبابه من زوجة أو أولاد ونحو ذلك ولاشك أن هذا يحزن المسلم، ولاشك أن هذا يؤلمه ويحزنه؛ ولكن إذا تدرع بالصبر والثبات، وذكر الله، واطمأن لقائه، هانت مصيبته فأولا: عالجه الشرع بأنه لم يحارب الحزن الكل؛ بل إن تعلم الإنسان وحزنه أمر طبعي فلا يمكن أن ينهى عنه؛ بل يفرج همه من بكاء ونحو ذلك الذي لم يخرج عن حدود المعقول، ويروض نفسه بالصبر والاحتساب وتحمل المصائب، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق إيماناً بالله ورضاً بقضاء الله وقدره، ومع هذا حذرنا من المصيبة حزن الكرام فلما دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه بكاء فقيل له، فقال: "الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَخشع، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى الرب، وَإِنَّا لفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"، وقال:"هذه رحمة بقلب من شاء من عباده"، ولما توفيت أحد بناته وحضر عند قبرها قال: "ما منكم من يقارب الليلة"، فقال طلحة بن عبيد: أنا، قال: "أنزلها في لحدها"، قال: فأنزلتها فرأيت عينياه تذرفان من الدموع صلوات الله وسلامه عليه، فرأيت عينياه تذرفان بالدموع رحمةً لهذا الميت وحزن عليه صلى الله عليه وسلم، فإن التأثر بالبكاء، ودمع العين وحزن القلب إنما ينهى عن النياحةِ وشق الجيب وضرب الخد يقول صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"، قال أبو هريرة دعوة أمي للإسلام فأبت فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبكي فقالت يا رسول الله: دعوة أمي للإسلام فأسمعتني فيك ما أكره فأدعو الله أن يهديها، فقال: "اللهم أهدي أم أبي هريرة"، فقالت:فذهبت لها وجدت الباب مجفيا فدخلت، فسمعت خشخشة نعليه رجلي وسمعت خرير الماء فقال:انتظر أبا هريرة، فإذا تغتسل ثم تجرها فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، ففرحت بذلك ورجعة لرسول الله أبكي فقلت يا رسول الله: إن أمي أسلمت وأجاب الله دعوتك فيها، فيا رسول الله أدعو الله أن يحببني وأمي للمؤمنين، وأن يحبب المؤمنين لي ولأمي، فقال: "اللهم حبب عبيدك أبو هريرة وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم لعبادك المؤمنين"صلوات الله وسلامه عليه، هكذا أيها الأخوة يعالج الإسلام داء الحزن لا ما يعالجه ضعفاء البصائر الذين إذا أحاط بهم الكربات وحلت بهم المشاكل اضطروا إلى الانتحار، والتخلص من الدنيا لأنهم لا يرجون حسابا، ولا يُمنون ثوابا، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أما المسلم فأمام المصائب وإن عظمت وتكاثرت فالصبر والاحتساب والأخذ بأسباب الخير والنجاة من الكربات هو المطلوب من المسلم دائما وأبدا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولٌ قولي هذا واستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله،المسلم يكون واقعيا في تعامله مع الأحداث والمصائب، تجرى المصائب والدنيا لا تخلوا من مصائب وبلايا في النفس والمال والولد لا تخلوا من ذلك ، ولله في ذلك حكمة عظيمة: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، الأخذ بالأسباب النافعة مطلوب وتوقي الشرور والحذر مطلوب؛ ولكن الصبر والاحتساب عند وقوع المكروه مطلوب والرضا عن الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة من علامة الإيمان، إن المسلم قد تتبع في حياته نكبات وبلايا؛ لكن عليه أن يصبر ولا يتسلم لهذه الأحزان والغموم والهموم؛ بل يكافح ويعمل ويجد ويجتهد، إن خسرت تجارته في هذه العام لا ييئس فربا ربح بالمستقبل، عن أصابته مصيبة أو حوادث صبر واحتسب، ورضي عن الله فإما أن يشفى من مرضه أو يكتب له الدرجات العليا، فإن العبد لا يدري فعل تلك المصيبة ترفعه درجات في دار كرامة الله، لا يزال البلاء في المؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أيُّها الأخوة، ومما يؤثر على المجتمع المسلم ما يتعامل به بعض معبرِ الرؤى الذين نصبوا أنفسهم معبرِ الرؤى ومفسر الأحلام تأتيهم الأسئلة من هنا وهناك وينصبون معبرين بالأحلام كاشفين لأسرارها؛ لكن وللآسف الشديد أن كثيراً من هؤلاء لا علم عندهم بالتأويل، لاشك أن الرؤيا حق، وأن تأويل الرؤيا حق، وعلم كما قال عن يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، لاشك أن علم التعبير علم؛ ولكن كثير من هؤلاء يعبرون عن جهل فتحوا للناس باب الوساوس والأوهام كل يسأل رأيت ورأيت ورأيت وإذا هذا المجيب يقول كذا وكذا يجيب عن أمور قد تكون غير واقعيه، وإنما هي أحاديث النهار يراها بالليل، يجيبه بأجوبة قد تدخل الحزن عليه وعلى بيته، وقد يقول له أنت مسحور، أنت مصاب بالعين، سحرك فلان وفلانة، أصابك فلان بعينه، سحرتك قريبتك جارك أخيك أختك فلان فلان إلى آخر ذلك، فيدخل عليه من الحزن والكآبة وتسد الدنيا في وجههم من آثر هؤلاء المعبرين الدجالين الذين لا يتقون الله فيما يقولون، وإنما ينصبون أنفسهم فيما ليسوا له، المعبر حقاً، والمؤول حق؛ لكن بأسلوب حكيم، بأسلوب شرعي لا فتح الباب على مصراعيه بهذا الرؤى المتعددة المتنوعة التي يتعبر بها هؤلاء على أهوائهم وأرائهم، ومما يأسف أيضا ما يسلكه بعض من يتولوا رقية المريض هؤلاء يرقون المريض ويزعمون أنهم يرقون المرضى بكتاب الله وسنة رسوله يدخلون على المريض الأوهام ويأتهم المرض مرضا يسيرا فما يخرج من عندهم حتى يزداد مرضه مرضا، وهمه هما، لماذا؟ لأن هذا الراقي هدانا الله وإياه يقول له أنت مصاب بمس، أنت مصاب بالسحر، أنت مصاب بالعين، أنت وأنت، أنت علاجك يحتاج إلى أشهر عديدة لابد أن تواصل معنا المسيرة ستة أشهر سبعة أشهر، لماذا؟ لأنه يبتز منه مالاً كثيرا ويظلمه ويحزنه ويجعله متعلق به، يظن أن الشفاء عند هذا الراقي الذي يجذب الأكاذيب والأباطيل جاءني فلان وجاءتني فلانة شفي على يدي العدد كبير، خلصته من السحر قضيته على العين وعلى ذلك، يجذب من الأكاذيب والأباطيل ما يخدع به الجاهل ويغوي به الإنسان، وحتى أنهم يسلكون في تعابير رؤيتهم أمورا تخالف الشرع عند التدقيق عليها والنظر فيها ترى كثير من هؤلاء سلكوا طرقاً غير مشروعة وأساءوا الرقي الشرعية، القرآن حق ودواء وشفاء (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) فاتحته شفاء المعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والكرسي شفاء، المسلم ينبغي أن يرقي نفسه دون أن يلجأ إلى هؤلاء، يرقي نفسه بفاتحة الكتاب وبآية الكرسي وبالمعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) دون أن يلجأ إلى أولئك الذين يحزنونه ويمرضونه ويبتزون ماله يبيعونه المال المطلوب فيه بأضعاف أضعاف قيمته بل بعشرات أضعافها ويجذبونه على الأوهام والكذب والأراجيف ما يحزنه ويؤلمه، فليكن ثقتنا بربنا وتعلقنا بربنا، وأخذنا بالأسباب المشروعة، وبعدنا عن هؤلاء لا المعبرون ولا الرقاة المرجفون أن يكون على حذر من وساوسهم وخرافاتهم وأباطيلهم، وفق الله الجميع بما يحبه ويرضى، وحفظنا وإياكم بالإيمان.
أيُّها الأخوة، إن الإيمان حقاً، إذا وقع في القلب أنار القلب، وانشرح الصدر، وقرة العين، واطمأنت النفس، دين الله إذا استقر في قلب المسلم أذهب عنه الأحزان والترهات وجعله على الطريق المستقيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، فحياة المؤمن طيبة في صحته ومرضه، في فرحه وحزنه، إنما الإيمان الحق هو الذي يسلي المسلم ويؤنسه ويفرحه ويسليه في كل مصائبه، أما هؤلاء فدجالون كذابون أخذوا أموال بغير حق، ردنا الله وإياهم على الصواب إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رحمكم الله على محمد صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، وجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العلمين،اللَّهمَّ أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللَّهمَّ وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لما تحبه وترضه، سدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، وأعنه على مسئوليته، ووفقه للصواب فيما يقول ويعمل، اللَّهمَّ وفق ولاة أمور المسلمين عموما، وأصلح ولاتهم عموما ودله على كل خير، وأعذهم من مظلات الفتن إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عبادَ الله،(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.