الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله. أضع بين يدي إخواني هذا المقال لأخينا الفاضل مصطفى قالية ، و أصل هذا المقال عبارة عن محاضرة ألقاها في ولاية تيارت دولة الجزائر في شهر أفريل عام 2011 و هي محاضرة مفيدة و ماتعة ، أسئل الله عز وجل أن ينفع بها.
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران: 102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء: 1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنَّ هذا الموضوع من الأهمية بمكان، لأنَّه يتعلَّقُ بالغاية العُظمى التِّي لأجلها خلق الله الإنسَ و الجانّ، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].
فنفى الله في هذه الآية الكريمة أنْ يكونَ قَدْ خلقَ الخلقَ: إنسَهم و جنَّهم إلاَّ لأَجلِ تحقيقِ هذِه الغايةِ العظيمةِ، ألَا وهي عبوديَّتُه -عزَّ وجل- و توحيدُه.
و عنوانُ المقال-كما هو مذكور- هو: [فَضْلُ العِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ]، وهَذا العُنوانُ جُزءٌ من حديثٍ نبويّ هو عمدة المتكلِّمين في هذا الباب، و عليه سنبني مقالنا -بإذن الله- فنقول مستعينين بالله العظيم:
روى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)).
هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه مسلم بن الحجاج في:
- كتابه: (الصحيح) الذي هو ثاني أصحِّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
- في كتاب: (الفتن و أشراط الساعة).
- في باب: (فضل العبادة في الهرج).
- برقم: (294.
و كلامُنا على هذا الحديث و فقهه سيكون -بإذن الله- عبْر عشرِ وقفات:
والْهَرْج -بفتح الْهَاء و سكون الرَّاء- لفظة تدلُّ في اللُّغة على: الفتنةِ، والاختلاطِ، والتباسِ الأمورِ ببعضها.
قال الجوهري: (الهرْج: الفتْنةُ والاختلاطُ) [الصِّحاح (1/373)]، ومن هذا قيل للذي يُضحِك النَّاسَ بِخلطِ كلامِه وأفعالِه: (مُهَرِّج)[1].
قال الحافظ ابن حجر: (وَأَصْلُ الْهَرْجِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الِاخْتِلَاطُ، يُقَالُ: "هَرَجَ النَّاسُ" اخْتَلَطُوا وَاخْتَلَفُوا، وَ"هَرَجَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ" إِذَا كَثَّرُوا وَخَلطُوا)
[فتح الباري(13/1].
أما في الشَّرع فالمراد بالهرْج: كثرةُ القتلِ و شدَّتُه بغيْرِ وجهِ حقٍّ، و قد فسَّرَه بهذا نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما سيأتينا في الأحاديث.
قال الفيروز آبادي: (هَرَجَ الناسُ يَهْرِجُونَ: وَقَعُوا في فِتْنَةٍ واخْتِلاطٍ وقَتْلٍ)
[القاموس المحيط(1/210)].
قال الملا علي القاري: (فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْجِ قَتْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمَمْزُوجُ بِالْفِتْنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ) [مرقاة المفاتيح (8/3387)].
- ما رواه البخاري(6037) ومسلم(157) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال النَّبي -صلَّى الله عليه و سلَّم-: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ» قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ».
- وما رواه البخاري(7064) ومسلم(2672) عن شقيق قال: جلس أبو عبد الله وأبو موسى فتحدثنا، فقال أبو موسى: قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا، يُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»وَالهَرْجُ: القَتْلُ، ثم ذكر البخاري بسنده إلى أبي موسى أنه قال: (وَالهَرْجُ: بِلِسَانِ الحَبَشَةِ القَتْلُ).
ووهَّم بعضُهم أبا موسى الأشعري[2] في قوله هذا على أساس أن اللَّفظة عربية، وأجاب أهل العلم أنَّ نقل أبي موسى صواب، فهذه اللَّفظة في أصل اللُّغة العربية لا تدلُّ على القتل بقدر ما تدلُّ على الاختلاط الذي يُفضي كثيرا مع الاختلاف إلى القتل، وكثيرا ما يُسمَّى الشَّيء باسم ما يؤُول إليه، أمَّا في لغة الحبشة فإنَّها تدلُّ على القتل حقيقة[3].
وما رواه أحمد في مسنده(19636) بسند صحيح إلى أبي موسى الأشعري أنَّه قال: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَاهُ فَقُلْنَا: بَلَى يَرْحَمُكَ اللهُ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَا: "أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ". قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ". قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ. قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ". قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ ومَعَنَا عُقُولُنَا؟ قَالَ: "لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ"، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَنِي وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَاهَا، لَمْ نُحْدِثْ فِيهَا شَيْئًا).
فالفتنُ قدرٌ كونِي، قدَّر الله وشاء وقوعَها فِي هذه الأمَّة، و تكثرُ فِي آخرِ هذا الزَّمان، و إذا وقعت فلن ترفع إلى قيام الساعة، وفي حديث حذيفة[4]: أنَّ هناك بابٌ إذا كسِرَ بدأت الفتنةُ، والبابُ هو عمر- رضي الله عنه -.
يعني المسألةُ كونا لابدَّ من أن تقع، لكن شرعا؟ لا، هل للمسلم أن يسعى لإيقاع ما أخبر به النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- في آخر الزَّمان؟ لا يجوز له ذلك، لكنَّه لابدَّ من وقوعِها كوناً[5].
و الفتنُ مختلفةٌ و متنوعةٌ، لكن التِّي تهمُّنا في موضوعنا هي: (فتنةُ القتل).
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
و مفهومُ هذه الآية أنَّ من لم يؤمنْ أو أخلطَ إيمانَه بشركٍ فأولئكَ يُرفعُ عنهم الأمن، فالأمان في طاعة الله و الإيمان.
و يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النحل: 112].
و هذه الفتنةُ -أعني فتنةَ الهرْج- إنَّما تحدثُ و تكثرُ عند تضييعِ الْمُسلمينَ أو أكثرِهم لأصلٍ عظيمٍ من أصولِ أهلِ السُّنة و الْجَماعة، ألا وهو: وجوبُ السَّمع و الطَّاعة لِمَنْ ولَّاهُ الله أمْرَنا وَ إِنْ جارُوا وظَلَموا، فلمّا لمْ يُحافظ الْمُسلمونَ على هذا الأصل وضيَّعُوه، و صاروا أتباعَ كلِّ ناعِق، حلَّت عليهم الْمَصائبُ و الويلَاتُ، وضاع الأمنُ، واستُبْدِلَ بالْخَوفِ، و لذلك أرشدَنا النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- عندَ حدوثِ ذلك بلزومِ العبادةِ.
لابدَّ أنْ يُعلمَ بأنَّ العبادةَ لا تَختصُّ بوقتٍ دونَ آخر، بل هي مطلوبةٌ فِي كلِّ الأوقات، لأنَّ الله خلق الإنسانَ وأمرَهُ بعبادتِه، وكلَّفَهُ بطاعتِه قال-سبحانه و تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
و قال- سبحانه و تعالى- :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21].
و في حديث معاذ أنَّ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال له : ((يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) [البخاري(2856)،و مسلم(30)].
إلاَّ أنَّ لزومَ العبادةِ و الحرصَ عليها يتأكَّدُ زمنَ الفِتَنِ والْمَصائبِ، لأنَّها السبيلُ الوحيدُ حينَها للخروجِ من الفتَن، و قد جاء في كتاب الله عدَّةُ نصوصٍ تدلُّ على هذا منْهَا:
-قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
-وقال –سبحانه وتعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النّور: 55].
-وقال -عزّ وجل-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
-وقال -عزّ وجل-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
ويقول -سبحانه-: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[سورة قريش].
الذي يذكره أهل العلم أن هذا راجع لأمرين:
الأمرُ الأوَّل:العبادةُ فِي الْهَرْج عبادةٌ في أيامٍ يغفلُ النَّاس فيها عن الطَّاعات، حيث يَنْشَغِلُون بما يَحصل.
قال النَّووي -رحمة الله-: (وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ العِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَغْفُلُونَ عَنْهَا وَيَنْشَغِلُونَ وَلَا يَتَفَرَّغُ لَهَا إِلَّا أَفْرَادٌ) [شرح مسلم(18/8].
والاشتغالُ بالعبادةِ -عموماً- في أوقاتِ غفلةِ النَّاس عنها، لَهَا فضيلةٌ زائدةٌ عن الاشتغالِ بها في الأوقات التي ينتبه الناس فيها للطاعات لأمرين:
1. لِمَشقَّتِهَا بقلَّةِ الْمُعينِ عليها لأنَّ العملَ إِذَا كثُرَ الْمُشاركونَ فيه سهُل، و العكسُ بالعكس.
2. و لبُعدِهَا عنِ الرِّياء.
و في الشرَّع أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على هذا الأصلِ منها:
-إكثارُ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- من الصِّيام في شعبان، ولَمَّا سأَله أسامةُ بنُ زيدٍ-رضي الله عنه- عن سبب ذلك قال: ((ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) [أحمد(21753)، والنسائي(2357). وهو في الصحيحة (189].
-وعن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ))[أحمد (23784) الترمذي(2485)، وابن ماجة(1334). وهو في صحيح التَّرغيب برقم(616)].
-وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ))[الترمذي(342 و غيره و هو في صحيح الترغيب(1694)].
وهذا فيه فضيلة ذكر الله تعالى في الأسواق، حيث ينشغل الناس بطلب الرزق و يغفلون عن الذكر.
الأمرُ الثَّاني: كثرةُ الطَّاعةِ وسيلةٌ لرفعِ الظُّلمِ وعذابِ القتلِ عن المظلومينَ:
فالعابدُ الطائع يدفع عن غيره العذاب ببركة طاعتِه، والأمَّة عموماً في مأمنٍ ما دام فيها أناسٌ صالِحونَ مصلِحون.
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة: 251].
و مما فسرت به هذه الآية: أنَّ الله تعالى يدفع العذابَ عن العاصين بطاعةِ الطائعين[6].
وقال -سبحانه-:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فالله -سبحانه- منع عن مشركي مكَّة العذابَ لوجودِ خيْرِ العبَّادِ وأفضْلِهم-صلَّى الله عليه وسلَّم- بينَهم، وكذَا لوجودِ طائفةٍ من الْمُؤمنينَ يستغفرُون اللهَ وَ يعبُدونَه[7].
يتبع.
فَضْلُ العِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران: 102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء: 1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنَّ هذا الموضوع من الأهمية بمكان، لأنَّه يتعلَّقُ بالغاية العُظمى التِّي لأجلها خلق الله الإنسَ و الجانّ، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].
فنفى الله في هذه الآية الكريمة أنْ يكونَ قَدْ خلقَ الخلقَ: إنسَهم و جنَّهم إلاَّ لأَجلِ تحقيقِ هذِه الغايةِ العظيمةِ، ألَا وهي عبوديَّتُه -عزَّ وجل- و توحيدُه.
و عنوانُ المقال-كما هو مذكور- هو: [فَضْلُ العِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ]، وهَذا العُنوانُ جُزءٌ من حديثٍ نبويّ هو عمدة المتكلِّمين في هذا الباب، و عليه سنبني مقالنا -بإذن الله- فنقول مستعينين بالله العظيم:
روى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)).
هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه مسلم بن الحجاج في:
- كتابه: (الصحيح) الذي هو ثاني أصحِّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
- في كتاب: (الفتن و أشراط الساعة).
- في باب: (فضل العبادة في الهرج).
- برقم: (294.
و كلامُنا على هذا الحديث و فقهه سيكون -بإذن الله- عبْر عشرِ وقفات:
أولاً : في هذا الحديث ترغيبٌ و حثٌ على التَّمسك والاشتغالِ بالعبادة في أوقات الْهَرْج
والْهَرْج -بفتح الْهَاء و سكون الرَّاء- لفظة تدلُّ في اللُّغة على: الفتنةِ، والاختلاطِ، والتباسِ الأمورِ ببعضها.
قال الجوهري: (الهرْج: الفتْنةُ والاختلاطُ) [الصِّحاح (1/373)]، ومن هذا قيل للذي يُضحِك النَّاسَ بِخلطِ كلامِه وأفعالِه: (مُهَرِّج)[1].
قال الحافظ ابن حجر: (وَأَصْلُ الْهَرْجِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الِاخْتِلَاطُ، يُقَالُ: "هَرَجَ النَّاسُ" اخْتَلَطُوا وَاخْتَلَفُوا، وَ"هَرَجَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ" إِذَا كَثَّرُوا وَخَلطُوا)
[فتح الباري(13/1].
أما في الشَّرع فالمراد بالهرْج: كثرةُ القتلِ و شدَّتُه بغيْرِ وجهِ حقٍّ، و قد فسَّرَه بهذا نبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما سيأتينا في الأحاديث.
قال الفيروز آبادي: (هَرَجَ الناسُ يَهْرِجُونَ: وَقَعُوا في فِتْنَةٍ واخْتِلاطٍ وقَتْلٍ)
[القاموس المحيط(1/210)].
قال الملا علي القاري: (فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْجِ قَتْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمَمْزُوجُ بِالْفِتْنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ) [مرقاة المفاتيح (8/3387)].
ثانياً : قد وردتْ لفظةُ: (الْهَرْج) مفسرةً فِي عدَّة أحاديثَ منها:
- ما رواه البخاري(6037) ومسلم(157) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال النَّبي -صلَّى الله عليه و سلَّم-: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ» قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ».
- وما رواه البخاري(7064) ومسلم(2672) عن شقيق قال: جلس أبو عبد الله وأبو موسى فتحدثنا، فقال أبو موسى: قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-:«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا، يُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»وَالهَرْجُ: القَتْلُ، ثم ذكر البخاري بسنده إلى أبي موسى أنه قال: (وَالهَرْجُ: بِلِسَانِ الحَبَشَةِ القَتْلُ).
ووهَّم بعضُهم أبا موسى الأشعري[2] في قوله هذا على أساس أن اللَّفظة عربية، وأجاب أهل العلم أنَّ نقل أبي موسى صواب، فهذه اللَّفظة في أصل اللُّغة العربية لا تدلُّ على القتل بقدر ما تدلُّ على الاختلاط الذي يُفضي كثيرا مع الاختلاف إلى القتل، وكثيرا ما يُسمَّى الشَّيء باسم ما يؤُول إليه، أمَّا في لغة الحبشة فإنَّها تدلُّ على القتل حقيقة[3].
وما رواه أحمد في مسنده(19636) بسند صحيح إلى أبي موسى الأشعري أنَّه قال: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَاهُ فَقُلْنَا: بَلَى يَرْحَمُكَ اللهُ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَا: "أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ". قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ". قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ. قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ". قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ ومَعَنَا عُقُولُنَا؟ قَالَ: "لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ"، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُدْرِكَنِي وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَاهَا، لَمْ نُحْدِثْ فِيهَا شَيْئًا).
ثالثا : فِي هذِه الأحاديثِ علمٌ منْ أعلامِ نبوَّتِه- صلَّى الله عليه وسلَّم- وَ هُو إخبارُه عن وقوعِ الفِتَنِ فِي أمَّتِه
فالفتنُ قدرٌ كونِي، قدَّر الله وشاء وقوعَها فِي هذه الأمَّة، و تكثرُ فِي آخرِ هذا الزَّمان، و إذا وقعت فلن ترفع إلى قيام الساعة، وفي حديث حذيفة[4]: أنَّ هناك بابٌ إذا كسِرَ بدأت الفتنةُ، والبابُ هو عمر- رضي الله عنه -.
يعني المسألةُ كونا لابدَّ من أن تقع، لكن شرعا؟ لا، هل للمسلم أن يسعى لإيقاع ما أخبر به النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- في آخر الزَّمان؟ لا يجوز له ذلك، لكنَّه لابدَّ من وقوعِها كوناً[5].
و الفتنُ مختلفةٌ و متنوعةٌ، لكن التِّي تهمُّنا في موضوعنا هي: (فتنةُ القتل).
رابعاً :و قوعُ الْمَصائِبِ عمومًا وَ الفتنِ خصوصًا إنَّما هو بما كسبتْ أيدِي النَّاس
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
و مفهومُ هذه الآية أنَّ من لم يؤمنْ أو أخلطَ إيمانَه بشركٍ فأولئكَ يُرفعُ عنهم الأمن، فالأمان في طاعة الله و الإيمان.
و يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[النحل: 112].
و هذه الفتنةُ -أعني فتنةَ الهرْج- إنَّما تحدثُ و تكثرُ عند تضييعِ الْمُسلمينَ أو أكثرِهم لأصلٍ عظيمٍ من أصولِ أهلِ السُّنة و الْجَماعة، ألا وهو: وجوبُ السَّمع و الطَّاعة لِمَنْ ولَّاهُ الله أمْرَنا وَ إِنْ جارُوا وظَلَموا، فلمّا لمْ يُحافظ الْمُسلمونَ على هذا الأصل وضيَّعُوه، و صاروا أتباعَ كلِّ ناعِق، حلَّت عليهم الْمَصائبُ و الويلَاتُ، وضاع الأمنُ، واستُبْدِلَ بالْخَوفِ، و لذلك أرشدَنا النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- عندَ حدوثِ ذلك بلزومِ العبادةِ.
خامسًا : النَّجاةُ من الفتنِ بلزومِ العبادةِ
لابدَّ أنْ يُعلمَ بأنَّ العبادةَ لا تَختصُّ بوقتٍ دونَ آخر، بل هي مطلوبةٌ فِي كلِّ الأوقات، لأنَّ الله خلق الإنسانَ وأمرَهُ بعبادتِه، وكلَّفَهُ بطاعتِه قال-سبحانه و تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
و قال- سبحانه و تعالى- :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21].
و في حديث معاذ أنَّ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال له : ((يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) [البخاري(2856)،و مسلم(30)].
إلاَّ أنَّ لزومَ العبادةِ و الحرصَ عليها يتأكَّدُ زمنَ الفِتَنِ والْمَصائبِ، لأنَّها السبيلُ الوحيدُ حينَها للخروجِ من الفتَن، و قد جاء في كتاب الله عدَّةُ نصوصٍ تدلُّ على هذا منْهَا:
-قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
-وقال –سبحانه وتعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النّور: 55].
-وقال -عزّ وجل-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
-وقال -عزّ وجل-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
ويقول -سبحانه-: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[سورة قريش].
سادساً / ما هو سَبَبُ فضيلةِ العبادَةِ فِي أوقاتِ الفِتَنِ؟
الذي يذكره أهل العلم أن هذا راجع لأمرين:
الأمرُ الأوَّل:العبادةُ فِي الْهَرْج عبادةٌ في أيامٍ يغفلُ النَّاس فيها عن الطَّاعات، حيث يَنْشَغِلُون بما يَحصل.
قال النَّووي -رحمة الله-: (وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ العِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَغْفُلُونَ عَنْهَا وَيَنْشَغِلُونَ وَلَا يَتَفَرَّغُ لَهَا إِلَّا أَفْرَادٌ) [شرح مسلم(18/8].
والاشتغالُ بالعبادةِ -عموماً- في أوقاتِ غفلةِ النَّاس عنها، لَهَا فضيلةٌ زائدةٌ عن الاشتغالِ بها في الأوقات التي ينتبه الناس فيها للطاعات لأمرين:
1. لِمَشقَّتِهَا بقلَّةِ الْمُعينِ عليها لأنَّ العملَ إِذَا كثُرَ الْمُشاركونَ فيه سهُل، و العكسُ بالعكس.
2. و لبُعدِهَا عنِ الرِّياء.
و في الشرَّع أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على هذا الأصلِ منها:
-إكثارُ النَّبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- من الصِّيام في شعبان، ولَمَّا سأَله أسامةُ بنُ زيدٍ-رضي الله عنه- عن سبب ذلك قال: ((ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) [أحمد(21753)، والنسائي(2357). وهو في الصحيحة (189].
-وعن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ))[أحمد (23784) الترمذي(2485)، وابن ماجة(1334). وهو في صحيح التَّرغيب برقم(616)].
-وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أن النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ))[الترمذي(342 و غيره و هو في صحيح الترغيب(1694)].
وهذا فيه فضيلة ذكر الله تعالى في الأسواق، حيث ينشغل الناس بطلب الرزق و يغفلون عن الذكر.
الأمرُ الثَّاني: كثرةُ الطَّاعةِ وسيلةٌ لرفعِ الظُّلمِ وعذابِ القتلِ عن المظلومينَ:
فالعابدُ الطائع يدفع عن غيره العذاب ببركة طاعتِه، والأمَّة عموماً في مأمنٍ ما دام فيها أناسٌ صالِحونَ مصلِحون.
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة: 251].
و مما فسرت به هذه الآية: أنَّ الله تعالى يدفع العذابَ عن العاصين بطاعةِ الطائعين[6].
وقال -سبحانه-:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فالله -سبحانه- منع عن مشركي مكَّة العذابَ لوجودِ خيْرِ العبَّادِ وأفضْلِهم-صلَّى الله عليه وسلَّم- بينَهم، وكذَا لوجودِ طائفةٍ من الْمُؤمنينَ يستغفرُون اللهَ وَ يعبُدونَه[7].
يتبع.
تعليق