أيها المقبل على ربه، ورمضان قد اقترب، أتدري لماذا يفرح الله بتوبتك؟
من فضلك، دقائق من وقتك تعرفك على سر شريف للانشغال عن الله بالدنيا ربما مات من مات وما سمع به، وأنت ما زلت حيا، فهيا تعرف على هذا السر لعله يغير مجرى حياتك!
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/225-226):
"وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ - اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ".
لك أن تتصور شدة فرح هذا الرجل لدرجة أنه حصل منه سبق لسان لو قاله في الحالة الطبيعية لكفر، فإذا استشعرت قوة فرحة الرجل والتي كانت سبب عذره في ما قال، كان عليك أن ترتقي من فرحة مخلوق يعروها ما يعروها لفرحة خالق لا يصيب الخالق المتصف بها ذهول أو سبق لسان، فرحة تليق بجلال الخالق، إلا أنها أشد من فرحة ذلك المخلوق، لكن، بمن؟ بعبده العائد إليه مع كون الرب جل وعلا غنيا عنه وعن الكون أجمع، لكنه رب تفوق فرحته بعبده وعودته إليه فرحة ذاك الذي من شدة الفرحة أخطأ وكانت له شدة فرحه عذرا فيما قال غير قاصد ولا ناو له.
اسمع بقية الكلام من ابن القيم ص226:
"وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ.
غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا، وَمَنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.
يبين لك قيمة هذه النعمة عند خاصة عباد الله، وقيمتها عندهم، فهل سيفتح الله قلبي وقلبك لها؟
فاسمع يا رعاك الله سر هذا الفرح, فرح الله بعبده في النقاط التالية:
--تكريم الله لبني آدم:
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج ص227:
"فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ - الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ - اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ، وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْخَوَاصَّ وَالْأَحْبَارَ، وَجَعَلَهُمْ مَعْدِنَ أَسْرَارِهِ، وَمَحَلَّ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ حُبِّهِ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَدَارُهُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَإِنَّهُ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
فَلِلْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ خَلَقَ أَبَاهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ قُرْبِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَاتَّخَذَهُ عَدُوًّا لَهُ".
فهذا تكريم الله لبني آدم عامة، فكيف كرامته للمؤمن؟
-- للمؤمن من بني آدم قدر أعظم:
قال في المصدر نفسه:
" فالمؤْمِن منْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، وَلِيَخُصَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ بِمَا لَمْ تَنَلْهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لِيَسْأَلَهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَحَبَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَاتَّخَذَهُ مَحْبُوبًا لَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ أَفْضَلَ مَا يُعِدُّهُ مُحِبٌّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ لِمَحْبُوبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِيهِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَعْلَمَهُ فِي عَهْدِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، وَمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِهِ".
--من تكريم بني آدم عامة والمؤمنين خاصة تعريفهم عدوهم وسبل الوقاية منه:
قال ابن القيم في المصدر نفسه:
" ولِلمَحْبُوبِ عَدُوٌّ، هُوَ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، قَدْ جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ، دُونَ وَلِيِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الْحَقِّ، وَاسْتَقْطَعَ عِبَادَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ حِزْبًا ظَاهَرُوهُ وَوَالَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ، يَدْعُونَ إِلَى سُخْطِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَيَسُبُّونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ، وَيَفْتِنُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَجْهَدُونَ عَلَى إِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ وَإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ لَهُمْ، وَمَحْوِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَبْدِيلِهِ بِكُلِّ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَعَرَّفَهُ بِهَذَا الْعَدُوِّ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَحَذَّرَهُ مُوَالَاتَهُمْ وَالدُّخُولَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَالْكَوْنَ مَعَهُمْ".
--إطماع بني آدم إن أصابتهم سهام العدو:
قال في المصدر نفسه ص227-228
"وَأَخْبَرَهُ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وَعَفْوُهُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ، وَأَنَّ الْفَضْلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَالْجُودَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ وَيُوسِعَهُمْ فَضْلًا، وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا، وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لَدَيْهِمْ مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ".
كل هذا كان من ابن القيم رحمه الله تمهيدا لتعرف السر.
--سر فرح الله بعباده كمال أوصافه,:
{يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، فالله لا يعطيك فحسب، بل يعطيك ويفرح أنه أعطاك، بل وتكون شدة فرحه بحسب مقدار العطية وشدة الحاجة.
قال ص128:
"فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَيَخْلُقُهُ أَبَدًا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى جُودِهِ، فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ، أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، إِذْ هَذَا شَأْنُ الْجَوَادِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ، هَذَا مَعَ كَمَالِ حَاجَتِهِ إِلَى مَا يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِاسْتِخْلَافِ مِثْلِهِ، وَخَوْفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَهَابِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الِاسْتِعَانَةِ بِنَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَفْسُهُ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ".
وتأمل عبارة ابن القيم رحمه الله, " وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، ... وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ".
أي أن المخلوق يشتغل بفرحته بالعطية عن المعطي وهو ربه، ولو أنه كان أكثر تفطنا لكان فرحه بالمعطي أشد من العطية، ففرحه بالمعطي يفجر في قلبه لذات أعظم, لذة ذكر المعطي له بالعطية، لذة جبر كسره، لذة فرح المعطي بعطائه إياه وذاك من جوده وكرمه، ولذة أن المعطي أشد فرحا من الآخذ وذاك يزيد الآخذ فرحا أن حاجته كانت بيد من يعطي بل في منعه إن منع بعلمه وحكمته عطائ أكمل، ويفرح أن يعطي، وفرحته بالعطاء أعظم من فرحة من أخذ.
--حال العبد التائب بعد شروده ومعصيته لربه:
قال ص229:
" فَبَيْنَمَا هُوَ حَبِيبُهُ الْمُقَرَّبُ الْمَخْصُوصُ بِالْكَرَامَةِ، إِذِ انْقَلَبَ آبِقًا شَارِدًا، رَادًّا لِكَرَامَتِهِ، مَائِلًا عَنْهُ إِلَى عَدُوِّهِ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
فَبَيْنَمَا ذَلِكَ الْحَبِيبُ مَعَ الْعَدُوِّ فِي طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، نَاسِيًا لِسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكًا فِي مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ، قَدِ اسْتَدْعَى مِنْ سَيِّدِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَتَذَكَّرَ بِرَّ سَيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَفَرَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ بَلَدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ إِلَيْهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِهِ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أَعْتَابِهِ، مُتَذَلِّلًا مُتَضَرِّعًا، خَاشِعًا بَاكِيًا آسِفًا، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ وَيَسْتَرْحِمُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلَمَ لَهُ وَأَعْطَاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ زِمَامَهُ، فَعَلِمَ سَيِّدُهُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَعَادَ مَكَانَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ رِضًا عَنْهُ، وَمَكَانَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ رَحْمَةً بِهِ، وَأَبْدَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ عَفْوًا، وَبِالْمَنْعِ عَطَاءً، وَبِالْمُؤَاخَذَةِ حِلْمًا، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ سَيِّدِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بِهِ؟ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَرَاجَعَ مَا يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ؟ .
--الاستدلال في سر فرح الرب بعبده التائب بالأمور المشاهدة المحسوسة في الدنيا، ولله المثل الأعلى:
أم أغضبها سلوك ولدها لدرجة أنها طردته من البيت، كيف لو عاد إليها ولدها معتذرا؟
قال في المصدر السابق ص229-230:
" وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ السِّكَكِ بَابًا قَدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ مِنْهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وَأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَلَتْ، فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّرًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَأْوًى غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُئْوِيهِ غَيْرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مَكْسُورَ الْقَلْبِ حَزِينًا، فَوَجَدَ الْبَابَ مُرَتَّجًا، فَتَوَسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُئْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تُخَالِفْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِكَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَإِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأُمِّ: لَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟
فَإِذَا أَغْضَبَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا تَابَ إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ".
هذا كله والأم تضجر، والله لا يمل حتى تملوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والأم قد تجور في غضبها، والله حكم عدل، والأم قد لا تصبر على سلوك أولادها، والله عز وجل يمهل ويمهل، والأم رحمتها من ضعف، ورأفة الله ورحمته من كمال لطفه الذي هو كمال على كمال، فالفارق بين موقف الأم وابنها وبين موقف الله مع عبده، كالفارق بين اله وخلقه،{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وهكذا فرحة الله بعبده التائب مع غناى الرب عن خلقه أكمل وأعظم، لأمرين:
الأول: فرحة معط كريم.
الثاني: فرحة عودة محبوب لحبيبه.
قال ابن القيم بعد ذلك:
"فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ هَذَا الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا.
وَوَرَاءَ هَذَا مَا تَجْفُو عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَتَدِقُّ عَنْ إِدْرَاكِهِ الْأَذْهَانُ".
واختتم ابن القيم رحمه الله كلامه البديع بتنبيه مهم فقال ص230:
" وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَةَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ عَلَى عِلَّاتِهِ وَخِيمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هَذَا الْأَمْرِ وَنَفْسَهُ، لِأَنَّ زُكَامَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الشَّمِّ، كَمَا هُوَ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، فَلَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ، وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْغِنَى وَالْخَيْرُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".
والله الموفق:
من فضلك، دقائق من وقتك تعرفك على سر شريف للانشغال عن الله بالدنيا ربما مات من مات وما سمع به، وأنت ما زلت حيا، فهيا تعرف على هذا السر لعله يغير مجرى حياتك!
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/225-226):
"وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ - اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ".
لك أن تتصور شدة فرح هذا الرجل لدرجة أنه حصل منه سبق لسان لو قاله في الحالة الطبيعية لكفر، فإذا استشعرت قوة فرحة الرجل والتي كانت سبب عذره في ما قال، كان عليك أن ترتقي من فرحة مخلوق يعروها ما يعروها لفرحة خالق لا يصيب الخالق المتصف بها ذهول أو سبق لسان، فرحة تليق بجلال الخالق، إلا أنها أشد من فرحة ذلك المخلوق، لكن، بمن؟ بعبده العائد إليه مع كون الرب جل وعلا غنيا عنه وعن الكون أجمع، لكنه رب تفوق فرحته بعبده وعودته إليه فرحة ذاك الذي من شدة الفرحة أخطأ وكانت له شدة فرحه عذرا فيما قال غير قاصد ولا ناو له.
اسمع بقية الكلام من ابن القيم ص226:
"وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ.
غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا، وَمَنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.
يبين لك قيمة هذه النعمة عند خاصة عباد الله، وقيمتها عندهم، فهل سيفتح الله قلبي وقلبك لها؟
فاسمع يا رعاك الله سر هذا الفرح, فرح الله بعبده في النقاط التالية:
--تكريم الله لبني آدم:
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج ص227:
"فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ - الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ - اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ، وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْخَوَاصَّ وَالْأَحْبَارَ، وَجَعَلَهُمْ مَعْدِنَ أَسْرَارِهِ، وَمَحَلَّ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ حُبِّهِ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَدَارُهُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَإِنَّهُ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
فَلِلْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ خَلَقَ أَبَاهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ قُرْبِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَاتَّخَذَهُ عَدُوًّا لَهُ".
فهذا تكريم الله لبني آدم عامة، فكيف كرامته للمؤمن؟
-- للمؤمن من بني آدم قدر أعظم:
قال في المصدر نفسه:
" فالمؤْمِن منْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، وَلِيَخُصَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ بِمَا لَمْ تَنَلْهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لِيَسْأَلَهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَحَبَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَاتَّخَذَهُ مَحْبُوبًا لَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ أَفْضَلَ مَا يُعِدُّهُ مُحِبٌّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ لِمَحْبُوبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِيهِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَعْلَمَهُ فِي عَهْدِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، وَمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِهِ".
--من تكريم بني آدم عامة والمؤمنين خاصة تعريفهم عدوهم وسبل الوقاية منه:
قال ابن القيم في المصدر نفسه:
" ولِلمَحْبُوبِ عَدُوٌّ، هُوَ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، قَدْ جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ، دُونَ وَلِيِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الْحَقِّ، وَاسْتَقْطَعَ عِبَادَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ حِزْبًا ظَاهَرُوهُ وَوَالَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ، يَدْعُونَ إِلَى سُخْطِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَيَسُبُّونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ، وَيَفْتِنُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَجْهَدُونَ عَلَى إِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ وَإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ لَهُمْ، وَمَحْوِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَبْدِيلِهِ بِكُلِّ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَعَرَّفَهُ بِهَذَا الْعَدُوِّ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَحَذَّرَهُ مُوَالَاتَهُمْ وَالدُّخُولَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَالْكَوْنَ مَعَهُمْ".
--إطماع بني آدم إن أصابتهم سهام العدو:
قال في المصدر نفسه ص227-228
"وَأَخْبَرَهُ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وَعَفْوُهُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ، وَأَنَّ الْفَضْلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَالْجُودَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ وَيُوسِعَهُمْ فَضْلًا، وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا، وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لَدَيْهِمْ مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ".
كل هذا كان من ابن القيم رحمه الله تمهيدا لتعرف السر.
--سر فرح الله بعباده كمال أوصافه,:
{يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، فالله لا يعطيك فحسب، بل يعطيك ويفرح أنه أعطاك، بل وتكون شدة فرحه بحسب مقدار العطية وشدة الحاجة.
قال ص128:
"فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَيَخْلُقُهُ أَبَدًا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى جُودِهِ، فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ، أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، إِذْ هَذَا شَأْنُ الْجَوَادِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ، هَذَا مَعَ كَمَالِ حَاجَتِهِ إِلَى مَا يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِاسْتِخْلَافِ مِثْلِهِ، وَخَوْفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَهَابِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الِاسْتِعَانَةِ بِنَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَفْسُهُ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ".
وتأمل عبارة ابن القيم رحمه الله, " وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، ... وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ".
أي أن المخلوق يشتغل بفرحته بالعطية عن المعطي وهو ربه، ولو أنه كان أكثر تفطنا لكان فرحه بالمعطي أشد من العطية، ففرحه بالمعطي يفجر في قلبه لذات أعظم, لذة ذكر المعطي له بالعطية، لذة جبر كسره، لذة فرح المعطي بعطائه إياه وذاك من جوده وكرمه، ولذة أن المعطي أشد فرحا من الآخذ وذاك يزيد الآخذ فرحا أن حاجته كانت بيد من يعطي بل في منعه إن منع بعلمه وحكمته عطائ أكمل، ويفرح أن يعطي، وفرحته بالعطاء أعظم من فرحة من أخذ.
--حال العبد التائب بعد شروده ومعصيته لربه:
قال ص229:
" فَبَيْنَمَا هُوَ حَبِيبُهُ الْمُقَرَّبُ الْمَخْصُوصُ بِالْكَرَامَةِ، إِذِ انْقَلَبَ آبِقًا شَارِدًا، رَادًّا لِكَرَامَتِهِ، مَائِلًا عَنْهُ إِلَى عَدُوِّهِ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
فَبَيْنَمَا ذَلِكَ الْحَبِيبُ مَعَ الْعَدُوِّ فِي طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، نَاسِيًا لِسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكًا فِي مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ، قَدِ اسْتَدْعَى مِنْ سَيِّدِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَتَذَكَّرَ بِرَّ سَيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَفَرَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ بَلَدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ إِلَيْهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِهِ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أَعْتَابِهِ، مُتَذَلِّلًا مُتَضَرِّعًا، خَاشِعًا بَاكِيًا آسِفًا، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ وَيَسْتَرْحِمُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلَمَ لَهُ وَأَعْطَاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ زِمَامَهُ، فَعَلِمَ سَيِّدُهُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَعَادَ مَكَانَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ رِضًا عَنْهُ، وَمَكَانَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ رَحْمَةً بِهِ، وَأَبْدَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ عَفْوًا، وَبِالْمَنْعِ عَطَاءً، وَبِالْمُؤَاخَذَةِ حِلْمًا، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ سَيِّدِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بِهِ؟ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَرَاجَعَ مَا يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ؟ .
--الاستدلال في سر فرح الرب بعبده التائب بالأمور المشاهدة المحسوسة في الدنيا، ولله المثل الأعلى:
أم أغضبها سلوك ولدها لدرجة أنها طردته من البيت، كيف لو عاد إليها ولدها معتذرا؟
قال في المصدر السابق ص229-230:
" وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ السِّكَكِ بَابًا قَدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ مِنْهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وَأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَلَتْ، فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّرًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَأْوًى غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُئْوِيهِ غَيْرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مَكْسُورَ الْقَلْبِ حَزِينًا، فَوَجَدَ الْبَابَ مُرَتَّجًا، فَتَوَسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُئْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تُخَالِفْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِكَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَإِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأُمِّ: لَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟
فَإِذَا أَغْضَبَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا تَابَ إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ".
هذا كله والأم تضجر، والله لا يمل حتى تملوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والأم قد تجور في غضبها، والله حكم عدل، والأم قد لا تصبر على سلوك أولادها، والله عز وجل يمهل ويمهل، والأم رحمتها من ضعف، ورأفة الله ورحمته من كمال لطفه الذي هو كمال على كمال، فالفارق بين موقف الأم وابنها وبين موقف الله مع عبده، كالفارق بين اله وخلقه،{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وهكذا فرحة الله بعبده التائب مع غناى الرب عن خلقه أكمل وأعظم، لأمرين:
الأول: فرحة معط كريم.
الثاني: فرحة عودة محبوب لحبيبه.
قال ابن القيم بعد ذلك:
"فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ هَذَا الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا.
وَوَرَاءَ هَذَا مَا تَجْفُو عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَتَدِقُّ عَنْ إِدْرَاكِهِ الْأَذْهَانُ".
واختتم ابن القيم رحمه الله كلامه البديع بتنبيه مهم فقال ص230:
" وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَةَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ عَلَى عِلَّاتِهِ وَخِيمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هَذَا الْأَمْرِ وَنَفْسَهُ، لِأَنَّ زُكَامَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الشَّمِّ، كَمَا هُوَ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، فَلَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ، وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْغِنَى وَالْخَيْرُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".
والله الموفق: