الدرر السنية في الآداب الشرعية ...(13)
آفات اللسان
آفاته كثيرة ومتنوعة، ولها في القلب حلاوة، ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت، فلنذكر أولاً فضيلة الصمت، ثم نتبعه الآفات مفصلة إن شاء الله تعالى.
اعلم: أن الصمت يجمع الهمة ويفرغ الفكر
قال ابن مسعود: ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني.
وقال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم به.
وقال مخلد بن الحسين: ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها.
آفات الكلام:
الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعنى.
اعلم: أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعنى، لأنه من ترك الله تعالى واشتغل فيما لا يعنى، كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها مدرة، وهذا خسران العمر.
قيل للقمان الحكيم: ما بلغ من حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيته، ولا أتكلم بما لا يعنيني.
وقد روى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً، فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته حكمته فأمسك، فلما فرغ داود عليه السلام، قام ولبس الدرع ثم قال: نعم الدرع للحرب. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله.
الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق.وأنواع الباطل كثيرة.
وقريب من ذلك الجدال والمراء وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه،والباعث على ذلك الترفع.
فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب، فإن قبل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان الأمر معلقاً بالدين، فأما إذا كان في أمور الدنيا، فلا وجه للمجادلة فيه، وعلاج هذه الآفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل، وأعظم من المراء الخصومة، فإنها أمر زائد على المراء.وعن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". وهذه الخصومة نعنى بها الخصومة بالباطل أو بغير علم، فأما من له حق فالأولى أن يصدف عن الخصومة، مهما أمكن لأنها، توغر الصدر، وتهيج الغضب الغضب،وتورث الحقد، وتخرج إلى تناول العرض.
الآفة الثالثة: التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق وتكلف السجع.
الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء
اعلم: أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها.ومن الآفات: الغناء وقد سبق فيه كلام في غير هذا الموضوع.
الآفة الخامسة: المزاح، أما اليسير منه، فلا ينهى عنه إذا كان صدقاً.
فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، فإنه قال لرجل: "يا ذا الأذنين"، وقال لآخر: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، وقال للعجوز: "إنه لا يدخل الجنة عجوز" ثم قرأ: {إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكاراً} [الواقعة:35-36] ، وقال لأخرى: "زوجك الذى في عينيه بياض؟".فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشياء:
أحدها: كونه حقاً
والثاني: كونه مع النساء والصبيان، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.
والثالث: كونه نادراً، فلا ينبغي أن يحتج به من يريد الدوام عليه، فان حكم النادر ليس كحكم الدائم، ولو أن إنساناً دار مع الحبشة ليلاً ونهاراً ينظر إلي لعبهم واحتج بأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم وقف لعائشة وأذن لها أن تنظر إلى الحبشة، لكان غالطاً، لندور ذلك، فالإفراط بالمزاح والمداومة عليه منهي عنه، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، وأما اليسير كما تقدم، من نحو نوع مزاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه انبساطاً وطيب نفس.
الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء، ومعنى السخرية: الاحتقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالشارة والإيماء، وكله ممنوع منه في الشرع، ورد النهى عنه في الكتاب والسنة.
الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته، وفى الحرب فإن ذلك يباح وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود مباحاً.
وتباح المعاريض وإنما تصلح عند الحاجة إليها، فأما مع غير الحاجة،فمكروهة لأنها تشبه الكذب. فمن المعاريض ما روينا عن عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنه أصاب جارية له، فعلمت امرأته، فأخذت شفرة، ثم أتت فوافقته قد قام عنها، فقالت: أفعلتها؟ فقال: ما فعلت شيئاً، قالت، لتقرأن القرآن أو لأبعجنك بها، فقال رضى الله عنه:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري.
وكان النخعى إذا طلب قال للجارية: قولي لهم: اطلبوه في المسجد.
الآفة الثامنة: الغيبة، وقد ورد الكتاب العزيز بالنهى عنها، وشبه صاحبها بآكل الميتة.وفى الحديث: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". وقال على بن الحسين رضى الله عنهما: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة مشهورة.
ومعنى الغيبة: أن تذكر أخاك الغائب بما يكره إذا بلغه.
واعلم أن كل ما يفهم منه مقصود الذم، فهو داخل في الغيبة، سواء كان بكلام أو بغيره، كالغمز، والإشارة والكتابة بالقلم، فإن القلم أحد اللسانين.وأقبح أنواع الغيبة، غيبة المتزهدين المرائين، مثل أن يذكر عندهم إنسان فيقولون: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان، والتبذل في طلب الحطام، أو يقولون: نعوذ بالله من قلة الحياء، أو نسأل الله العافية، فإنهم يجمعون بين ذم المذكور ومدح أنفسهم. وربما قال أحدهم عند ذكر إنسان: ذاك المسكين قد بلى بآفة عظيمة، تاب الله علينا وعليه، فهو يظهر الدعاء ويخفى قصده.
واعلم: أن المستمع للغيبة شريك فيها، ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام، أو قطع الكلام بكلام آخر، لزمه ذلك.
بيان الأعذار المرخصة في الغيبة وكفارة الغيبة
وهي أمور:
أحدها التظلم، فإن للمظلوم أن يذكر الظالم إذا استدعاه إلى من يستوفى حقه.
الثانى: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد الظالم إلى منهاج الصلاح.
الثالث: الاستفتاء، مثل أن يقول للمفتى ظلمني فلان، أو أخذ حقى، فكيف طريقي في الخلاص، فالتعيين مباح، والأولى التعريض، وهو أن يقول: ما تقول في رجل ظلمه أبوه أو أخوه ونحو ذلك؟والدليل على إباحة التعيين حديث هند حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح ولم ينكر عليها النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
الأمر الرابع: تحذير المسلمين، مثل أن ترى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وتخاف أن يتعدى إليه ذلك، فلك أن تكشف له الحال.وكذلك إذا عرفت من عبدك السرقة أو الفسق، فتذكر ذلك للمشترى.وكذلك المستشار في التزويج أو إيداع الأمانة، له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير، لا على قصد الوقيعة، إذا علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح.
الخامس: أن يكون معروفاً بلقب، كالأعرج، والأعمش، فلا إثم على من يذكره به، وإن وجد عن ذلك معدلاً كان أولى.
السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق، ولا يستنكف أن يذكر به.
قيل للحسن: الفاجر المعلن بفجوره، ذكري له بما فيه غيبة: قال: لا، ولا كرامة.
وأما كفارة الغيبة، فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين:
إحداهما: على حق الله تعالى، إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والجناية الثانية: على محارم المخلوق، فان كانت الغيبة قد بلغت الرجل، جاء إليه واستحله واظهر له الندم على فعله
وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، جعل مكان استحلاله الاستغفار له، لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيوغر صدره.
الآفة التاسعة: من آفات اللسان النميمة، وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يدخل الجنة قتات" وهو النمام .
واعلم: أن النميمة تطلق في الغالب على نقل قول إنسان في إنسان.
قال يحيى بن أبى كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر.وقد حكى أن رجلا ساوم بعبد، فقال مولاه: إني أبرأ منك من النميمة والكذب، فقال: نعم، أنت برئ منهما، فاشتراه. فجعل يقول لمولاه إن امرأتك تبغي وتفعل، وإنها تريد أن تقتلك، ويقول للمرأة: إن زوجك يريد أن يتزوج عليك ويتسرى، فان أردت أن أعطفه عليك، فلا يتزوج ولا يتسرى، فخذي الموسى واحلقي شعرة من حلقه إذا نام ، وقال للزوج: إنها تريد أن تقتلك إذا نمت. قال فذهب فتناوم لها، فجاءت بموسى لتحلق شعرة من حلقه، فأخذ بيدها فقتلها، فجاء أهلها فاستعدوا عليه فقتلوه.
الآفة العاشرة: كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين، وينقل كلام كل واحد إلى الآخر، ويكلم كل واحد بكلام يوافقه، أو يعده أنه ينصره، او يثنى على الواحد في وجهه ويذمه عند الأخر.وفى الحديث: "إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".
الآفة الحادية عشرة: المدح، وله آفات:
منها: ما يتعلق بالمادح، ومنها: ما يتعلق بالممدوح.
فأما آفات المادح، فقد يقول مالا يتحققه، ولا سبيل للاطلاع عليه، مثل أن يقول: إنه ورع وزاهد، وقد يفرط في المدح فينتهي إلى الكذب، وقد يمدح من ينبغي أن يذم.
قال الحسن: من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله.
وأما الممدوح، فإنه يحدث فيه كبراً أو إعجاباً، وهما مهلكان
عن الحسن قال كان عمر رضى الله عنه قاعداً ومعه الدرة والناس حوله، إذ أقبل الجارود ، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر رضى الله عنه ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه
بالدرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: مالي ولك، أما سمعتها؟ قال: سمعتها، فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ منك.
ولأن الإنسان إذا أثنى عليه بالخير رضى عن نفسه، وظن أنه قد بلغ المقصود، فيفتر عن العمل، أما إذا سلم المدح من هذه الآفات لم يكن به بأس، فقد أثنى النبى صلى الله عليه وآله وسلم على أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضى الله عنهم.
وعلى الممدوح أن يكون شديد الاحتراز من آفة الكبر والعجب والفتور عن العمل، ولا ينجو من هذه الآفات إلا أن يعرف نفسه، ويتفكر في أن المادح لو عرف منه ما يعرف من نفسه ما مدحه.
انتهى ملخصا من مختصر منهاج القاصدين
بقلم
أبي أسامة سمير الجزائري
تعليق