مصطلحات للمسلمين وفيها نظر للشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله تعالى
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَـهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
ولكن العاطفة الدينية قد تنقُل الجاهلين من الاتباع إلى الابتداع أو على الأقل من الأَولى إلى الأدنى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، ومن ذلك:
أ) اختار ابن عربي ومن اقتدى به من المتصوفة ومن حذا حذوهم مِن غيرهم الاستدلال على دعواهم (خطأً أو صواباً) بقولهم: (قال الحق، ويقول الحق)، ولا شك ولا ريب {أن الله هو الحق المبين} [النور: 25]، ولكن أخص أسماء الله تعالى وأولاها به: {الله}، ولا أعرف لابن عربي سلفاً في اختياره والتزامه قبل ظهور قرن التصوف المبتدع.
ب) واختار كثير من المتصوفة (عشق الله وعشق رسوله) على شرع الله: (محبته ومحبة رسوله) المثبتة بطاعة الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ج) واختار الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بأمر ربه تعالى: الصلاة عليه بما صح عنه: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد…» [متفق عليه]؛ فاختار المبتدعة (الصلاة النارية) وفيها وصفه بأنه: (الذي تُنال به الرغائب وتُقضى به الحوائج) و(صلاة الفاتح) وفيها وصفه بأنه: (الفاتح لما أُغلق)، واختار غيرهم ما وافق البدعة وخالف السنة.
د) واختار الله ورسوله وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة فلم يكف المبتدعة قضاء الله ورسوله فاختاروا وصفاً يلائم (العشق): (خده التفاح شامي)، وخشي بعض أهل السنة الصحيحة أن يُتّهموا بالتقصير في حق نبيهم عما شرعه المتصوفة فوصفوه بأنه: (صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر) فضلاً عن إضافتهم للوصف الشرعي المختار (عبد الله ورسوله): (الحبيب وقرة العين وسيد الأولين والآخرين) حتى انزلق بعضهم إلى منتهى الغُلُوِّ بوصفه صلى الله عليه وسلم: (سيد الكائنات) تجاوز الله عنه.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم «سيد ولد آدم يوم القيامة»، وأنه خليل الرحمن وقرة أعين متبعيه، ولكن الأولى أن نصف الله ورسوله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولا نقدم عليهما ما تهواه الأنفس الأمارة بالسوء (إلاما رحم ربي)، وبعضه يوصف به الصالح والطالح.
هـ) ومن الأوصاف المحدثة المرجوحة وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: الرحمة المهداة والمصطفى (ومثلها كثير يُخشى أن تنسي الناس ما هو خير منها وأولى)، وكل رسل الله أرسلهم الله رحمة لعباده هداة مهديين وقال الله تعالى عن عيسى عليه السلام {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21]، وإنما ميز الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أرسله: {كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، وقد اصطفى الله كافة رسله؛ فقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، واصطفى الله من هو دونهم؛ فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32].
و) ويردّد بعض الدعاة على مناهج الفكر أن (الإسلام ناسخ للأديان قبله) مطلقاً، والحق {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] مِنْ قَبْل ومِنْ بَعْد، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال تعالى عن فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف: 101]، وقال تعالى عن الحواريين: {آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أولاد علات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [متفق عليه].
فدين الله واحد في كل رسالاته لم يتغير ولم يتبدل ولم يُنسخ في أهم أمور الدين وهو الاعتقاد، و: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فيما دون ذلك من أحكام شرعه وقدره لحكمةٍ يعلمها لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه.
ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقة لما قبلها ومهيمنة عليه وخاتمة له، وفضّل الله متبعيها على المبتدعين مِنْ قَبْل ومِنْ بَعْد: بالإيمان بجميع الرسالات والرسل والكتب من عند الله تعالى، وبحب الصحب والآل جميعاً.
ز) وفيما دون ذلك أولع المسلمون (بعد القرون المفضلة) بتخصيص بعض الصالحين وبعض الطالحين بأوصاف وألقاب عظيمة لا تخصهم وحدهم وقد لا يكون بعضهم أهلاً لها ولا لما دونها:
1 – فَخصِّص الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه بأنه (كان وقّافاً عند كتاب الله أو عند حدود الله)، وهو حريٌ بذلك وأهلٌ له، ولكن يشاركه في هذا الوصف بقية الخلفاء الراشدين والصحابة وأولاهم به وأسبقهم إليه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتميّز عمر رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه لو سلك فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجه، وأنه لو كان في الأمة مُحَدَّثٌ لكان عمر رضي الله عنه، وتميز بنزول الوحي من الله موافقاً له في بضعة أمور أولها أسرى بدر، وآخرها الحجاب، ووُصِف عمر رضي الله عنه بالعدل وكل الخلفاء والصحابة عدول وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنهم.
2 – وَوُصِف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأنه: (خامس الخلفاء) وهذا لا يصحّ أبداً؛ فلو كان للخلفاء الراشدين المهديين خامس لكان معاوية رضي الله عنه أولى المسلمين بهذا الوصف؛ فهو أول الخلفاء من قريش بعد الخلفاء الراشدين وهو الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لكتابة الوحي واختاره أكثر الخلفاء الراشدين للقيادة والإمارة.
3 – ووُصف العزّ بن عبد السلام رحمه الله بأنه (سلطان العلماء) وقد سبقه ولحقه من علماء الأمة وفقهائها ومحدِّثيها ودعاتها من هو خير منه علماً وعملاً وجهاداً (باليد واللسان) واعتقاداً وسلوكاً فيما يظهر من صفة حاله في كتب التراجم والأعلام.
4 – وَوُصف أبو حامد الغزالي تجاوز الله عنا وعنه بأنه (حجة الإسلام). وحجة الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بفهم فقهاء الصحابة والتابعين وتابعيهم في القرون المفضلة المشهود لهم بالثبات على منهاج النبوة، أما أبو حامد تجاوز الله عنه فوقع في هوة الفلسفة ولما تبين له شرها حاول الخروج منها فوقع في هوة التصوف، وكلاهما خروج عن الإسلام لا حجةً له ولا عليه.
5 – وَوُصف ابن عربي بأنه (الشيخ الأكبر) ولا أعلم أنه تميز عمن سبقه أو لحقه إلا بشطحاته الفكرية الصوفية، وأكثر ما اشتهر به فكرة وحدة الوجود الوثنية، وكفّره بها كثير من فقهاء الأمة، ولعل أشهر من رد باطله بعد ابن تيمية: عبد الرحمن الوكيل بنشره مؤلَّف سابقٍ له وهو البقاعي رحمهم الله في كتابٍ بعنوان: (تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي)، أو (مصرع التّصوّف).
واشتهر بتفسيره الإشاري الذي لا أعلم أحداً افتراه قبله، وقد انتهى فيه
ـ مثلاً ـ إلى أن الكافرين والظالمين والضالين هم أولياء لله تعالى، وأن قوم عاد أحسنوا الظن بالله فأحسن لهم الجزاء، ومثله كثير.
6 – وخُص علي رضي الله عنه من بين الخلفاء والصحابة وآل البيت رضي الله عنهم جميعاً بلفظ: (كرم الله وجهه) بدلاً من الترضي عنه والترحم عليه؛ بحجة أنه لم يسجد لصنم، وكثير من الصحابة لم يسجدوا لصنم يقيناً ـ إما لصغر سنهم مثله أو لأنهم ولدوا بعد البعثة، ولا شك أن أبا بكر وعمر وعثمان أفضل منهم جميعاً، والإسلام يجبّ ما قبله.
ح) الحكم بما أنزل الله؛ خصه الفكريون والحركيون والحزبيون بالحاكم (من حيث العامل) وبالمعاملات الشرعية (من حيث العمل)، والحق أن الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة بحسب التكليف والاستطاعة، وأعظم وأولى ما يكون: في الاعتقاد ثم في العبادات ثم في المعاملات.
قال الله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114]، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 – 36].
ط) الدعوة إلى الله؛ أخرجها الفكريون والحركيون والحزبيون من عموم الدين، وأولـه وأهمه: الاعتقاد ثم العبادات ثم المعاملات إلى خصوص أهدافهم: سياسية (غير شرعية) مثل الشيعة، وجماعة الإخوان، وحزب التحرير، وحزب الجهاد ومن نحا نحوهم، وقدّموا المعاملات وأخروا أحكام العبادات وأهملوا أحكام الاعتقاد مخالفةً لشرع الله، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات…» [متفق عليه].
بل هم لجهلهم وتعصبهم وتشيعهم لسبلهم يلمزون الدعاة على منهاج النبوة بأنهم دعاة الحيض والنفاس والوضوء والغسل، ولم يدركوا أنهم بذلك يستهزئون بشرع الله تعالى وآياته وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويشارك هؤلاء (المنحرفين عن سبيل الله الداعين إليه على غير بصيرة): دعاة القصص والرقائق وأبرزهم وأكثرهم عدداً جماعة التبليغ؛ فهم مثلهم دعاة الجهل والفكر والظن والبُعْد عن اليقين والوحي والفقه.
ي) اتهام الدعاة باغتياب الدعاة؛ شبهة تَقْطع طريق الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الفرق بين الدعوة والدعاة على منهاج النبوة وبين الدعوة و«الدعاة على أبواب جهنم مَن أجابهم قذفوه فيها»، وهم الخارجون على جماعة المسلمين وولاة أمرهم (ولو جاروا ولو فسقوا)، وهم أهل الفرق والسبل الضالة عن صراط الله المستقيم في الدين أو في الدعوة إليه أو فيهما معاً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجنب هذه الفرق كلها «ولو لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام» كما ثبت في حديث حذيفة المتفق على صحته.
وقريب من هذه شبهة الموازنة بين الحسنات والسيئات.
ك) الفكر الإسلامي؛ مصطلح مُحْدَث جاء به الشيطان (والهوى) لِيَلْبِسَ على المسلمين دينهم ولِيُبْعِدهم عن يقين الوحي في الكتاب والسّنة وفقه أئمة الدين في القرون المفضلة، وتفرّعتْ عنه مصطلحات مُحْدَثة خاطئة: الفن الإسلامي، العمارة الإسلامية، الحضارة الإسلامية، والفكر الإسلامي، ثم صار مصطلح (الإسلامي والإسلامية) سلعة للتجارة الدنيوية: الحزب الإسلامي، المدرسة الإسلامية، المستشفى والنادي والبنك الإسلامي، والفرقة الفنية الإسلامية.
ولا يجوز أن يُنْسب إلى الإسلام إلا ما أوحى الله تعالى به إلى رسله، ولا يجوز أن يُجعل دين الله الحق عَرَضاً من عروض التجارة الدنيوية.
ل) الأَوْلى: نِسْبة كلام الله إلى قائله تعالى لا إلى القرآن ولو أعْجَب المُحْدثين كُلُّ مُحْدَث؛ فالقرآن قول، وقائله منزِّله تعالى وكان أستاذي العلامة عبد الرزّاق عفيفي رحمه الله ينكر نسبة كلام الله إلى غير الله تعالى مما تعوّده المتأخّرون وبعض المتقدّمين، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَـهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
ولكن العاطفة الدينية قد تنقُل الجاهلين من الاتباع إلى الابتداع أو على الأقل من الأَولى إلى الأدنى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، ومن ذلك:
أ) اختار ابن عربي ومن اقتدى به من المتصوفة ومن حذا حذوهم مِن غيرهم الاستدلال على دعواهم (خطأً أو صواباً) بقولهم: (قال الحق، ويقول الحق)، ولا شك ولا ريب {أن الله هو الحق المبين} [النور: 25]، ولكن أخص أسماء الله تعالى وأولاها به: {الله}، ولا أعرف لابن عربي سلفاً في اختياره والتزامه قبل ظهور قرن التصوف المبتدع.
ب) واختار كثير من المتصوفة (عشق الله وعشق رسوله) على شرع الله: (محبته ومحبة رسوله) المثبتة بطاعة الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ج) واختار الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بأمر ربه تعالى: الصلاة عليه بما صح عنه: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد…» [متفق عليه]؛ فاختار المبتدعة (الصلاة النارية) وفيها وصفه بأنه: (الذي تُنال به الرغائب وتُقضى به الحوائج) و(صلاة الفاتح) وفيها وصفه بأنه: (الفاتح لما أُغلق)، واختار غيرهم ما وافق البدعة وخالف السنة.
د) واختار الله ورسوله وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة فلم يكف المبتدعة قضاء الله ورسوله فاختاروا وصفاً يلائم (العشق): (خده التفاح شامي)، وخشي بعض أهل السنة الصحيحة أن يُتّهموا بالتقصير في حق نبيهم عما شرعه المتصوفة فوصفوه بأنه: (صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر) فضلاً عن إضافتهم للوصف الشرعي المختار (عبد الله ورسوله): (الحبيب وقرة العين وسيد الأولين والآخرين) حتى انزلق بعضهم إلى منتهى الغُلُوِّ بوصفه صلى الله عليه وسلم: (سيد الكائنات) تجاوز الله عنه.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم «سيد ولد آدم يوم القيامة»، وأنه خليل الرحمن وقرة أعين متبعيه، ولكن الأولى أن نصف الله ورسوله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولا نقدم عليهما ما تهواه الأنفس الأمارة بالسوء (إلاما رحم ربي)، وبعضه يوصف به الصالح والطالح.
هـ) ومن الأوصاف المحدثة المرجوحة وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: الرحمة المهداة والمصطفى (ومثلها كثير يُخشى أن تنسي الناس ما هو خير منها وأولى)، وكل رسل الله أرسلهم الله رحمة لعباده هداة مهديين وقال الله تعالى عن عيسى عليه السلام {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} [مريم: 21]، وإنما ميز الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أرسله: {كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، وقد اصطفى الله كافة رسله؛ فقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، واصطفى الله من هو دونهم؛ فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32].
و) ويردّد بعض الدعاة على مناهج الفكر أن (الإسلام ناسخ للأديان قبله) مطلقاً، والحق {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] مِنْ قَبْل ومِنْ بَعْد، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال تعالى عن فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف: 101]، وقال تعالى عن الحواريين: {آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أولاد علات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [متفق عليه].
فدين الله واحد في كل رسالاته لم يتغير ولم يتبدل ولم يُنسخ في أهم أمور الدين وهو الاعتقاد، و: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فيما دون ذلك من أحكام شرعه وقدره لحكمةٍ يعلمها لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه.
ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقة لما قبلها ومهيمنة عليه وخاتمة له، وفضّل الله متبعيها على المبتدعين مِنْ قَبْل ومِنْ بَعْد: بالإيمان بجميع الرسالات والرسل والكتب من عند الله تعالى، وبحب الصحب والآل جميعاً.
ز) وفيما دون ذلك أولع المسلمون (بعد القرون المفضلة) بتخصيص بعض الصالحين وبعض الطالحين بأوصاف وألقاب عظيمة لا تخصهم وحدهم وقد لا يكون بعضهم أهلاً لها ولا لما دونها:
1 – فَخصِّص الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه بأنه (كان وقّافاً عند كتاب الله أو عند حدود الله)، وهو حريٌ بذلك وأهلٌ له، ولكن يشاركه في هذا الوصف بقية الخلفاء الراشدين والصحابة وأولاهم به وأسبقهم إليه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتميّز عمر رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه لو سلك فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجه، وأنه لو كان في الأمة مُحَدَّثٌ لكان عمر رضي الله عنه، وتميز بنزول الوحي من الله موافقاً له في بضعة أمور أولها أسرى بدر، وآخرها الحجاب، ووُصِف عمر رضي الله عنه بالعدل وكل الخلفاء والصحابة عدول وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنهم.
2 – وَوُصِف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأنه: (خامس الخلفاء) وهذا لا يصحّ أبداً؛ فلو كان للخلفاء الراشدين المهديين خامس لكان معاوية رضي الله عنه أولى المسلمين بهذا الوصف؛ فهو أول الخلفاء من قريش بعد الخلفاء الراشدين وهو الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لكتابة الوحي واختاره أكثر الخلفاء الراشدين للقيادة والإمارة.
3 – ووُصف العزّ بن عبد السلام رحمه الله بأنه (سلطان العلماء) وقد سبقه ولحقه من علماء الأمة وفقهائها ومحدِّثيها ودعاتها من هو خير منه علماً وعملاً وجهاداً (باليد واللسان) واعتقاداً وسلوكاً فيما يظهر من صفة حاله في كتب التراجم والأعلام.
4 – وَوُصف أبو حامد الغزالي تجاوز الله عنا وعنه بأنه (حجة الإسلام). وحجة الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بفهم فقهاء الصحابة والتابعين وتابعيهم في القرون المفضلة المشهود لهم بالثبات على منهاج النبوة، أما أبو حامد تجاوز الله عنه فوقع في هوة الفلسفة ولما تبين له شرها حاول الخروج منها فوقع في هوة التصوف، وكلاهما خروج عن الإسلام لا حجةً له ولا عليه.
5 – وَوُصف ابن عربي بأنه (الشيخ الأكبر) ولا أعلم أنه تميز عمن سبقه أو لحقه إلا بشطحاته الفكرية الصوفية، وأكثر ما اشتهر به فكرة وحدة الوجود الوثنية، وكفّره بها كثير من فقهاء الأمة، ولعل أشهر من رد باطله بعد ابن تيمية: عبد الرحمن الوكيل بنشره مؤلَّف سابقٍ له وهو البقاعي رحمهم الله في كتابٍ بعنوان: (تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي)، أو (مصرع التّصوّف).
واشتهر بتفسيره الإشاري الذي لا أعلم أحداً افتراه قبله، وقد انتهى فيه
ـ مثلاً ـ إلى أن الكافرين والظالمين والضالين هم أولياء لله تعالى، وأن قوم عاد أحسنوا الظن بالله فأحسن لهم الجزاء، ومثله كثير.
6 – وخُص علي رضي الله عنه من بين الخلفاء والصحابة وآل البيت رضي الله عنهم جميعاً بلفظ: (كرم الله وجهه) بدلاً من الترضي عنه والترحم عليه؛ بحجة أنه لم يسجد لصنم، وكثير من الصحابة لم يسجدوا لصنم يقيناً ـ إما لصغر سنهم مثله أو لأنهم ولدوا بعد البعثة، ولا شك أن أبا بكر وعمر وعثمان أفضل منهم جميعاً، والإسلام يجبّ ما قبله.
ح) الحكم بما أنزل الله؛ خصه الفكريون والحركيون والحزبيون بالحاكم (من حيث العامل) وبالمعاملات الشرعية (من حيث العمل)، والحق أن الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة بحسب التكليف والاستطاعة، وأعظم وأولى ما يكون: في الاعتقاد ثم في العبادات ثم في المعاملات.
قال الله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114]، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 – 36].
ط) الدعوة إلى الله؛ أخرجها الفكريون والحركيون والحزبيون من عموم الدين، وأولـه وأهمه: الاعتقاد ثم العبادات ثم المعاملات إلى خصوص أهدافهم: سياسية (غير شرعية) مثل الشيعة، وجماعة الإخوان، وحزب التحرير، وحزب الجهاد ومن نحا نحوهم، وقدّموا المعاملات وأخروا أحكام العبادات وأهملوا أحكام الاعتقاد مخالفةً لشرع الله، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات…» [متفق عليه].
بل هم لجهلهم وتعصبهم وتشيعهم لسبلهم يلمزون الدعاة على منهاج النبوة بأنهم دعاة الحيض والنفاس والوضوء والغسل، ولم يدركوا أنهم بذلك يستهزئون بشرع الله تعالى وآياته وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويشارك هؤلاء (المنحرفين عن سبيل الله الداعين إليه على غير بصيرة): دعاة القصص والرقائق وأبرزهم وأكثرهم عدداً جماعة التبليغ؛ فهم مثلهم دعاة الجهل والفكر والظن والبُعْد عن اليقين والوحي والفقه.
ي) اتهام الدعاة باغتياب الدعاة؛ شبهة تَقْطع طريق الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الفرق بين الدعوة والدعاة على منهاج النبوة وبين الدعوة و«الدعاة على أبواب جهنم مَن أجابهم قذفوه فيها»، وهم الخارجون على جماعة المسلمين وولاة أمرهم (ولو جاروا ولو فسقوا)، وهم أهل الفرق والسبل الضالة عن صراط الله المستقيم في الدين أو في الدعوة إليه أو فيهما معاً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجنب هذه الفرق كلها «ولو لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام» كما ثبت في حديث حذيفة المتفق على صحته.
وقريب من هذه شبهة الموازنة بين الحسنات والسيئات.
ك) الفكر الإسلامي؛ مصطلح مُحْدَث جاء به الشيطان (والهوى) لِيَلْبِسَ على المسلمين دينهم ولِيُبْعِدهم عن يقين الوحي في الكتاب والسّنة وفقه أئمة الدين في القرون المفضلة، وتفرّعتْ عنه مصطلحات مُحْدَثة خاطئة: الفن الإسلامي، العمارة الإسلامية، الحضارة الإسلامية، والفكر الإسلامي، ثم صار مصطلح (الإسلامي والإسلامية) سلعة للتجارة الدنيوية: الحزب الإسلامي، المدرسة الإسلامية، المستشفى والنادي والبنك الإسلامي، والفرقة الفنية الإسلامية.
ولا يجوز أن يُنْسب إلى الإسلام إلا ما أوحى الله تعالى به إلى رسله، ولا يجوز أن يُجعل دين الله الحق عَرَضاً من عروض التجارة الدنيوية.
ل) الأَوْلى: نِسْبة كلام الله إلى قائله تعالى لا إلى القرآن ولو أعْجَب المُحْدثين كُلُّ مُحْدَث؛ فالقرآن قول، وقائله منزِّله تعالى وكان أستاذي العلامة عبد الرزّاق عفيفي رحمه الله ينكر نسبة كلام الله إلى غير الله تعالى مما تعوّده المتأخّرون وبعض المتقدّمين، والله أعلم.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصين عفا الله عنه، تعاونا على البر والتقوى.
1420هـ.
1420هـ.