فضل ذكر الله تعالى
فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
تفريغ الخطبة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله : إن أزكى الأعمال وخير الخصال وأحبَّها إلى الله ذي الجلال ذكر الله تعالى ، روى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى )) .
الذّاكرون الله تعالى هم السباقون في ميدان السير إلى الله والدار الآخرة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ ، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ )) وهؤلاء - عباد الله - هم الذين أعدّ الله لهم النُّزُل الكريمة والثواب العظيم ، ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35] .
ذِكر الله - عباد الله - هو حياة القلوب فلا حياة لها إلا به ، روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) . وليس للقلوب قرار ولا طمأنينة ولا هناءة ولا لذة ولا سعادة إلا بذكر الله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28] .
ذكر الله تعالى هو الفرج بعد الشدَّة ، واليسر بعد العسر ، والفرح بعد الغم والهم ، وهو تفريج الكربات ، وتيسُّر الأمور ، وتحقق الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة ، وما عولج كربٌ ولا أزيلت شدَّةٌ بمثل ذكر الله تبارك وتعالى ، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول في الكرب : ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: (( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ )) .
ذكر الله - عباد الله- جالبٌ للنعم المفقودة وحافظٌ للنعم الموجودة ، فما استُجلبت نعمة وما حُفظت نعمة بمثل ذكر الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7] .
ذكر الله جلَّ وعلا محطُّ الأوزار وتكفير السيِّئات ورفعة الدرجات وعلو المنازل عند الله تبارك وتعالى ؛ فما حُطَّت الأوزار بمثل ذكره سبحانه ، روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ - تبارك وتعالى - )) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ )) ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وذكر الله تعالى غراس الجنة ؛ فما غرست الجنة بمثل ذكره ، يقول عليه الصلاة والسلام : ((مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ )) رواه الترمذي ، وروى الترمذي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ )) .
ذكر الله - عباد الله - كلماتٌ خفيفةٌ على اللسان لا تكلِّف العبد جهدا ، ولا يناله منها مشقة ، إلا أن لها ثوابٌ عظيم وأجرٌ جزيل وهي حبيبة إلى الله عزَّ وجلّ ، روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)) .
عباد الله : وذكر الله جلَّ وعلا هو الطارد للشياطين والمخلِّص من وساوسها وشرورها وكيدها وحبائلها ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت:36]، ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون:97-98]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف:201] ، ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف:36] .
عباد الله : إن ثمار الذكر على أهله وفوائده على أصحابه المحافظين عليه لا تعدُّ ولا تُحصى ، وهذه نصيحة أقدِّمها لنفسي ولإخواني أن نقرأ كتاب " الوابل الصيب في الكلم الطيب " للعلامة ابن القيم رحمه الله ؛ فقد عدَّد فيه رحمه الله فوائد عظيمة تزيد على السبعين فائدة لذكر الله تبارك وتعالى ، وعندما تقف على هذه الفوائد العظيمة يزداد حرصك وتعظم رغبتك في المحافظة على ذكر الله . جعلنا الله أجمعين من الذاكرين لله حقّا ، والمحافظين على طاعته وعبادته صدقا ، وهدانا أجمعين لأقرب من هذا رشدا ، إنه تبارك وتعالى سميع وهو أهل الرجاء وحسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد - عباد الله - اتقوا الله تعالى .
عباد الله : لقد تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة وتضافرت الدلائل فيهما في الحث على ذكر الله والأمر بذكره سبحانه بالكثرة وبيان ثواب المكثرين من ذكر الله في آيٍ كثيرة وأحاديث عديدة صحَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب:41-43] . يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "فإذا فعلتم ذلك - أي: أكثرتم من ذكر الله تعالى - صلى الله عليكم وملائكته" . ويقول الله تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ، ويقول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45] ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي فيها الحث على الإكثار من ذكر الله والأمر بذكره سبحانه بالكثرة .
وهاهنا عباد الله يقول العلماء في كتب التفسير وشروحات الحديث : إن المسلم إذا واظب على أذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وأذكار النوم والأذكار التي تقال في الدخول والخروج وعند الركوب وعند الطعام وعند الشراب وبعد الفراغ منه إلى غيرها من الأذكار الموظفة للمسلم في أيامه ولياليه مع عنايةٍ منه بالذكر المطلق كُتِب بذلك من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيماً .
والكيس - عباد الله - من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وصلوا وسلموا - رعاكم الله- على إمام الذاكرين وقدوة الموحدين ؛ محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا))
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتَّقاك واتَّبع رضاك يا ربَّ العالمين. اللهم وفق وليَّ أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك ، وارزقه البطانة الناصحة الصالحة ، ووفِّق جميع ولاة المسلمين لما تحب وترضى .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم أصلح ذات بيننا ، وألِّف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرِّيّاتنا واجعلنا مباركين أينما كنّا .
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والزلازل والمحن والفتن كلها ما ظهر منها وما بطن ، اللهم أصلح لنا شأننا كله يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، سرَّه وعلنه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.