#بشائر_ومبشرات:
هل فاتنا فضل الهجرة؟؟؟
لا يخفى على من درس أبجديات السيرة النبوية فضلا عمن تعمق فيها فضل الهجرة في الإسلام والثواب الموعود عليها، لكن، من المفاهيم السائدة عند كثير من الناس أن المهاجر صفة كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الهجرة تتعلق بمجرد الفرار بالدين من دار كفر إلى دار إسلام، أو من بلد بدعة لا يمكن إظهار السنة فيه، أو إذا كان البلد شعائر الإسلام فيه غير ظاهرة، ولا يتمكن المسلم من إظهار شعائر دينه بأريحية، فيهاجر ولو إلى بلد كفر يتمكن فيه من إظهار شعائر دينه بأريحية، وكل هذا بضوابطه الشرعية حق، لكن، ماذا لو حدثتك عن أن لقب المهاجر يمكن أن يشملك؟!، ماذا لو أخبرتك عن أنك يمكن أن تكون مهاجرا، وأنت في بيتك بين أهلك وخلانك، عملك أو سوقك؟!
مهلا، مهلا، هذا الكلام ليس من كيسي، بل هو أخبار من لا ينطق عن الهوى، {إن هو إلا وحي يوحى}.
هيا أيها المهاجر، أو يا من ترغب في الهجرة وبلدك بلد إسلام تتمتع فيها بإقامة شعائر دينك، إعرني سمعك.
--ذكر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:
بوب أبو داود في سننه في كِتَاب الْجِهَادِ فقال:
"بَابٌ فِي الْهِجْرَةِ هَلِ انْقَطَعَتْ؟"،
أورد فيه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو حديث عظيم هو أصل في هذا الباب، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
{قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ "ْ}.
ولا تخفى مناسبة الحديث لترجمة أبي داود رحمه الله، فهجران ما نهى الله عنه تشمل جميع النواهي، من كبار الذنوب، وأعلاها الشرك الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يغفره إلا لمن تاب منه، إلى أصغر المنهيات من المكروهات.
وروى الإمام أحمد من مسند عبد الله بن عمرو هذا الحديث بسياق أتم فقال:
6779 حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبِي ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " ، قَالَ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ " *
ورواه أيضا بلفظ مقارب من مسند أنس بن مالك رضي الله عنه حديث رقم, 12366، بلفظ {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ}.
وفي سنن ابن ماجه كِتَابُ الْفِتَنِ >> بَابُ حُرْمَةِ دَمِ الْمُؤْمِنِ وَمَالِهِ(، حديث رقم 3959، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ "
ورواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من مسند فضالة بن عبيد بسياق أتم فقال:
23415 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا لَيْثٌ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ "
وفي السلسلة الصحيحة قال الشيخ الألباني:
"551 - " أفضل الساعات جوف الليل الآخر ".
أخرجه أحمد (5 / 385) عن محمد بن ذكوان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة
قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله من تبعك على
هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام
الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، قال: قلت: أي الإسلام
أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟
قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت، قال: قلت:
أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك عز وجل، قال: قلت: أي الجهاد
أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه، قال: قلت: أي الساعات أفضل، قال:
جوف الليل الآخر ... ".
قلت: وهذا إسناد ضعيف محمد بن ذكوان وهو الطاحي وشهر ضعيفان لكن الحديث ثبت
غالبه من طرق أخرى".
إلى أن قال (2/92-93):
ثانيا: فقرة " أي الجهاد أفضل؟ "، فقد أخرج أحمد (4 / 114) من طريق أبي
قلابة عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن يسلم
قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك قال: فأي الإسلام أفضل؟
قال: الإيمان قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
والبعث بعد الموت قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال الهجرة قال: فما الهجرة؟ قال
: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد.
قال: وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم.
قال: فأي الجهاد
أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة.
قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان أبو قلابة - واسمه
عبد الله بن زيد - سمعه من عمرو فإنه مدلس وعلى كل حال فهذه الفقرة ثابتة
بمجموع الطريقين والله أعلم".
ثم قال ص93:
"ثالثا: فقرة " أي الهجرة أفضل؟ ". قد جاءت في الطريق الآنفة الذكر، فهي
حسنة أيضا".
ثم قال ص94:
"553 - " أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك عز وجل ".
أخرجه أحمد من طريقين عن عمرو بن عبسة مرفوعا في أثناء حديث تقدم ذكره
وتخريجه قبل حديث، فهذا القدر منه حسن بمجموع الطريقين أيضا".
وهو موافق لحديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وقد علمت أنه في الصحيحين.
وفي إرواء الغليل, (5/33):
"(120 - (وعن معاوية وغيره مرفوعاً: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه أبو داود (ص 28 .
* صحيح.
أخرجه أبو داود (2479) وكذا الدارمى (2/239 ـ 240) والنسائى فى " السنن الكبرى " (50/2) والبيهقى (9/17) وأحمد (4/99) عن عبد الرحمن بن أبى عوف عن أبى هند البجلى عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
قلت: ورجال إسناده ثقات غير أبى هند فهو مجهول , لكنه لم يتفرد به فأخرجه الإمام أحمد (1/192) من طريق إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ".
فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات , والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله , ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة , ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من الغرب , فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه , وكفى الناس العمل ".
قلت: وهذا إسناد شامى حسن , رجاله كلهم ثقات , وفى ضمضم بن زرعة كلام يسير.
وابن السعدى اسمه عبد الله واسم أبيه وقدان صحابى معروف , ولحديثه طريق أخرى عنه أخرجه النسائى , وبعضها ابن حبان (1579) والبيهقى وأحمد (5/270) .
وله عنده (4/62 , 5/363 , 375) طريقان آخران عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم , والظاهر أنه ابن السعدى نفسه.
وأحدهما إسناده صحيح".
وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/701):
2604 - (4) [صحيح] وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما قال:
خطَبَنا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
"إيَّاكُمْ والظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظلُماتٌ يومَ القِيامَةِ، وإيَّاكُمْ والفُحْشَ والتَّفَحُّشَ، وإيَّاكُمْ والشُّحَّ، فإنَّما هلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُم بالشُّحِّ، أَمَرهُم بالقَطيعةِ فقَطَّعوا، وأَمَرهُم بالبُخْلِ فبَخِلوا، وأمَرهُمْ بالفُجورِ فَفَجَروا".
فقامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! أيُّ الإِسْلامِ أفْضَل؟ قال:
"أنْ يَسْلَم المسلمونَ مِنْ لِسانِكَ وَيدِكَ".
فقال ذلك الرجل أو غَيْرُه: يا رسولَ الله! أيُّ الهِجْرَةِ أفْضَلُ؟ قال:
"أنْ تَهْجُرَ ما كَرِهَ ربُّكَ، والهِجْرَة هِجْرتَانِ: هجْرَةُ الحاضِرِ، وهِجْرَةُ البَادِي، فهِجْرَةُ البادِي أنْ يُجيبَ إذا دُعيَ، ويُطيعَ إذا أمِرَ، وهِجْرَةُ الحاضِرِ أعْظَمُها بَلِيَّةً، وأفضَلُها أجراً".
رواه أبو داود مختصراً، والحاكم واللفظ له، وقال:
"صحيح على شرط مسلم".
ومثله ما رواه أحمد رحمه الله بسند ضعيف فقال:
7095 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حَنَانُ بْنُ خَارِجَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَوِيٌّ جَرِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الْهِجْرَةِ، إِلَيْكَ أَيْنَمَا كُنْتَ، أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً، أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ، أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " قَالَ: هَا هُوَ ذَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضَرِ ".
قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة, (5/405)، تحت رقم 2383:
"قلت: وهذا إسناد ضعيف، حنان هذا قال الذهبي:
" لا يعرف، تفرد عنه العلاء بن عبد الله بن رافع، أشار ابن القطان إلى تضعيفه
للجهل بحاله ".
والحديث رواه غير أحمد أيضا، فانظر " ضعيف أبي داود " (434)" .
فهذه الأحاديث ذكرت لنا نوعا من الهجرة يسمة من تمسك به مهاجرا وإن كان في بيته، وهو نوع متاح لهذه الإمة بحمد الله ما دام على الأرض مسلم حي.
--كلام العلماء حول هذا النوع من الهجرة:
إن من الأحاديث المشتهرة عندنا حديث عمر رضي الله عنه الذي افتتح به البخاري رحمه الله صحيحه، وكذلك فعل غيره في كتبهم وهو حديث, {إنما الأعمال بالنيات}، وفيه: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله}.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه ص16-17:
"فصل: [في الهجرة إلى الله ورسوله]
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها.
وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه".
إلى أن قال ص19 20:
"والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فان المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن
يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات".
ثم شرع في بيان قوتها وضعفها فقال ص21:
"فصل: [الهجرة بين القوة والضعف]وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل. وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك لها إرادة.
والذي يقضي منه العجب: أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره. وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال. والله المستعان، وبالله التوفيق، لا اله غيره ولا رب سواه".
وأما الهجرة إلى رسول الله فقال في تبيين غربة صاحبها حين يستمسك بالسنة:
"فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، ... ".
إلى آخر ما قاله رحمه الله، والكتاب نافع لمن أراد الفائدة.
وفي شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين (1/21):
"الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك.
وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلي بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب علي الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام إذا كان غير قادر علي إظهار دينه.
وأما إذا كان قادراً علي إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء علي ذلك يكون السفر إلي بلد الكف أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه.
فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلي بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع".
إلى أن قال (1/27-27):
"القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه)) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلي هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.
القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.
ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلي صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلي الله وعاد إلي الإسلام انتفع بذلك.
أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفعن وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان.
فيبقي النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم - الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلي الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعا عظيماً ولجأوا إلي الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم.
هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العام"ل.
وينسب للشيخ صالح الفوزان حفظه الله مقال بعنوان أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب، جاء فيه:
"من أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.
وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي:
هجر أمكنة الكفر... وهجر الأشخاص الضالين... وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.
فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي، أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك، فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!!
يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم، ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صالح بن فوزان الفوزان".
دار القاسم
والحاصل أن هناك هجرة لم يغلق بابها بحمد الله بعد، وهي هجرة السوء مما كرهه الله ونهى عنه من الذنوب والخطايا، يسمى صاحبها مهاجرا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هجرة بالقلب، ولولا هذه الهجرة ما وقعت هجرة البدن، وهي هجرة متجددة دائما، تقوى بقوة محبة المهاجر إليه وهو الله ورسوله، أما هجرة الأبدان فعلى فضلها فقد لا تتهيأ للمرء إلا مرة واحدة، أو لا تتهيأ له أصلا, لسكناه في بلد إسلام، شعائر الإسلام فيها ظاهرة، والغلبة للسنة لا للبدعة، ولا يفهم من هذا الكلام التقليل من هجرة السابقين الأولين، أو الاستنقاص من هجرة البدن، فالسابقون الأولون جمع الله لهم بين الهجرتين، فكانوا هم المهاجرون حقا، ولذا قال الله فيهم:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}.
هل فاتنا فضل الهجرة؟؟؟
لا يخفى على من درس أبجديات السيرة النبوية فضلا عمن تعمق فيها فضل الهجرة في الإسلام والثواب الموعود عليها، لكن، من المفاهيم السائدة عند كثير من الناس أن المهاجر صفة كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الهجرة تتعلق بمجرد الفرار بالدين من دار كفر إلى دار إسلام، أو من بلد بدعة لا يمكن إظهار السنة فيه، أو إذا كان البلد شعائر الإسلام فيه غير ظاهرة، ولا يتمكن المسلم من إظهار شعائر دينه بأريحية، فيهاجر ولو إلى بلد كفر يتمكن فيه من إظهار شعائر دينه بأريحية، وكل هذا بضوابطه الشرعية حق، لكن، ماذا لو حدثتك عن أن لقب المهاجر يمكن أن يشملك؟!، ماذا لو أخبرتك عن أنك يمكن أن تكون مهاجرا، وأنت في بيتك بين أهلك وخلانك، عملك أو سوقك؟!
مهلا، مهلا، هذا الكلام ليس من كيسي، بل هو أخبار من لا ينطق عن الهوى، {إن هو إلا وحي يوحى}.
هيا أيها المهاجر، أو يا من ترغب في الهجرة وبلدك بلد إسلام تتمتع فيها بإقامة شعائر دينك، إعرني سمعك.
--ذكر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:
بوب أبو داود في سننه في كِتَاب الْجِهَادِ فقال:
"بَابٌ فِي الْهِجْرَةِ هَلِ انْقَطَعَتْ؟"،
أورد فيه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو حديث عظيم هو أصل في هذا الباب، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
{قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ "ْ}.
ولا تخفى مناسبة الحديث لترجمة أبي داود رحمه الله، فهجران ما نهى الله عنه تشمل جميع النواهي، من كبار الذنوب، وأعلاها الشرك الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يغفره إلا لمن تاب منه، إلى أصغر المنهيات من المكروهات.
وروى الإمام أحمد من مسند عبد الله بن عمرو هذا الحديث بسياق أتم فقال:
6779 حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبِي ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " ، قَالَ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ " *
ورواه أيضا بلفظ مقارب من مسند أنس بن مالك رضي الله عنه حديث رقم, 12366، بلفظ {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ}.
وفي سنن ابن ماجه كِتَابُ الْفِتَنِ >> بَابُ حُرْمَةِ دَمِ الْمُؤْمِنِ وَمَالِهِ(، حديث رقم 3959، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ "
ورواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من مسند فضالة بن عبيد بسياق أتم فقال:
23415 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا لَيْثٌ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ "
وفي السلسلة الصحيحة قال الشيخ الألباني:
"551 - " أفضل الساعات جوف الليل الآخر ".
أخرجه أحمد (5 / 385) عن محمد بن ذكوان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة
قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله من تبعك على
هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام
الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، قال: قلت: أي الإسلام
أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟
قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت، قال: قلت:
أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك عز وجل، قال: قلت: أي الجهاد
أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه، قال: قلت: أي الساعات أفضل، قال:
جوف الليل الآخر ... ".
قلت: وهذا إسناد ضعيف محمد بن ذكوان وهو الطاحي وشهر ضعيفان لكن الحديث ثبت
غالبه من طرق أخرى".
إلى أن قال (2/92-93):
ثانيا: فقرة " أي الجهاد أفضل؟ "، فقد أخرج أحمد (4 / 114) من طريق أبي
قلابة عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن يسلم
قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك قال: فأي الإسلام أفضل؟
قال: الإيمان قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
والبعث بعد الموت قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال الهجرة قال: فما الهجرة؟ قال
: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد.
قال: وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم.
قال: فأي الجهاد
أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة.
قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان أبو قلابة - واسمه
عبد الله بن زيد - سمعه من عمرو فإنه مدلس وعلى كل حال فهذه الفقرة ثابتة
بمجموع الطريقين والله أعلم".
ثم قال ص93:
"ثالثا: فقرة " أي الهجرة أفضل؟ ". قد جاءت في الطريق الآنفة الذكر، فهي
حسنة أيضا".
ثم قال ص94:
"553 - " أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك عز وجل ".
أخرجه أحمد من طريقين عن عمرو بن عبسة مرفوعا في أثناء حديث تقدم ذكره
وتخريجه قبل حديث، فهذا القدر منه حسن بمجموع الطريقين أيضا".
وهو موافق لحديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وقد علمت أنه في الصحيحين.
وفي إرواء الغليل, (5/33):
"(120 - (وعن معاوية وغيره مرفوعاً: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه أبو داود (ص 28 .
* صحيح.
أخرجه أبو داود (2479) وكذا الدارمى (2/239 ـ 240) والنسائى فى " السنن الكبرى " (50/2) والبيهقى (9/17) وأحمد (4/99) عن عبد الرحمن بن أبى عوف عن أبى هند البجلى عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
قلت: ورجال إسناده ثقات غير أبى هند فهو مجهول , لكنه لم يتفرد به فأخرجه الإمام أحمد (1/192) من طريق إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ".
فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات , والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله , ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة , ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من الغرب , فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه , وكفى الناس العمل ".
قلت: وهذا إسناد شامى حسن , رجاله كلهم ثقات , وفى ضمضم بن زرعة كلام يسير.
وابن السعدى اسمه عبد الله واسم أبيه وقدان صحابى معروف , ولحديثه طريق أخرى عنه أخرجه النسائى , وبعضها ابن حبان (1579) والبيهقى وأحمد (5/270) .
وله عنده (4/62 , 5/363 , 375) طريقان آخران عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم , والظاهر أنه ابن السعدى نفسه.
وأحدهما إسناده صحيح".
وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/701):
2604 - (4) [صحيح] وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما قال:
خطَبَنا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
"إيَّاكُمْ والظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظلُماتٌ يومَ القِيامَةِ، وإيَّاكُمْ والفُحْشَ والتَّفَحُّشَ، وإيَّاكُمْ والشُّحَّ، فإنَّما هلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُم بالشُّحِّ، أَمَرهُم بالقَطيعةِ فقَطَّعوا، وأَمَرهُم بالبُخْلِ فبَخِلوا، وأمَرهُمْ بالفُجورِ فَفَجَروا".
فقامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! أيُّ الإِسْلامِ أفْضَل؟ قال:
"أنْ يَسْلَم المسلمونَ مِنْ لِسانِكَ وَيدِكَ".
فقال ذلك الرجل أو غَيْرُه: يا رسولَ الله! أيُّ الهِجْرَةِ أفْضَلُ؟ قال:
"أنْ تَهْجُرَ ما كَرِهَ ربُّكَ، والهِجْرَة هِجْرتَانِ: هجْرَةُ الحاضِرِ، وهِجْرَةُ البَادِي، فهِجْرَةُ البادِي أنْ يُجيبَ إذا دُعيَ، ويُطيعَ إذا أمِرَ، وهِجْرَةُ الحاضِرِ أعْظَمُها بَلِيَّةً، وأفضَلُها أجراً".
رواه أبو داود مختصراً، والحاكم واللفظ له، وقال:
"صحيح على شرط مسلم".
ومثله ما رواه أحمد رحمه الله بسند ضعيف فقال:
7095 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حَنَانُ بْنُ خَارِجَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَوِيٌّ جَرِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الْهِجْرَةِ، إِلَيْكَ أَيْنَمَا كُنْتَ، أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً، أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ، أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " قَالَ: هَا هُوَ ذَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضَرِ ".
قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة, (5/405)، تحت رقم 2383:
"قلت: وهذا إسناد ضعيف، حنان هذا قال الذهبي:
" لا يعرف، تفرد عنه العلاء بن عبد الله بن رافع، أشار ابن القطان إلى تضعيفه
للجهل بحاله ".
والحديث رواه غير أحمد أيضا، فانظر " ضعيف أبي داود " (434)" .
فهذه الأحاديث ذكرت لنا نوعا من الهجرة يسمة من تمسك به مهاجرا وإن كان في بيته، وهو نوع متاح لهذه الإمة بحمد الله ما دام على الأرض مسلم حي.
--كلام العلماء حول هذا النوع من الهجرة:
إن من الأحاديث المشتهرة عندنا حديث عمر رضي الله عنه الذي افتتح به البخاري رحمه الله صحيحه، وكذلك فعل غيره في كتبهم وهو حديث, {إنما الأعمال بالنيات}، وفيه: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله}.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه ص16-17:
"فصل: [في الهجرة إلى الله ورسوله]
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها.
وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه".
إلى أن قال ص19 20:
"والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فان المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن
يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات".
ثم شرع في بيان قوتها وضعفها فقال ص21:
"فصل: [الهجرة بين القوة والضعف]وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل. وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك لها إرادة.
والذي يقضي منه العجب: أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره. وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال. والله المستعان، وبالله التوفيق، لا اله غيره ولا رب سواه".
وأما الهجرة إلى رسول الله فقال في تبيين غربة صاحبها حين يستمسك بالسنة:
"فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، ... ".
إلى آخر ما قاله رحمه الله، والكتاب نافع لمن أراد الفائدة.
وفي شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين (1/21):
"الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك.
وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلي بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب علي الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام إذا كان غير قادر علي إظهار دينه.
وأما إذا كان قادراً علي إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء علي ذلك يكون السفر إلي بلد الكف أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه.
فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلي بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع".
إلى أن قال (1/27-27):
"القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه)) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلي هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.
القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.
ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلي صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلي الله وعاد إلي الإسلام انتفع بذلك.
أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفعن وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان.
فيبقي النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم - الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلي الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعا عظيماً ولجأوا إلي الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم.
هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العام"ل.
وينسب للشيخ صالح الفوزان حفظه الله مقال بعنوان أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب، جاء فيه:
"من أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.
ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.
ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.
وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي:
هجر أمكنة الكفر... وهجر الأشخاص الضالين... وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.
فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي، أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك، فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!!
يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟
فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم، ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صالح بن فوزان الفوزان".
دار القاسم
والحاصل أن هناك هجرة لم يغلق بابها بحمد الله بعد، وهي هجرة السوء مما كرهه الله ونهى عنه من الذنوب والخطايا، يسمى صاحبها مهاجرا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هجرة بالقلب، ولولا هذه الهجرة ما وقعت هجرة البدن، وهي هجرة متجددة دائما، تقوى بقوة محبة المهاجر إليه وهو الله ورسوله، أما هجرة الأبدان فعلى فضلها فقد لا تتهيأ للمرء إلا مرة واحدة، أو لا تتهيأ له أصلا, لسكناه في بلد إسلام، شعائر الإسلام فيها ظاهرة، والغلبة للسنة لا للبدعة، ولا يفهم من هذا الكلام التقليل من هجرة السابقين الأولين، أو الاستنقاص من هجرة البدن، فالسابقون الأولون جمع الله لهم بين الهجرتين، فكانوا هم المهاجرون حقا، ولذا قال الله فيهم:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}.