تكامُل مهامِّ الإمام الداعية في مسجده
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ مهامَّ الإمام الداعية المرشد التي يؤدِّيها في دعوته إلى الله تعالى على منبره أو في مسجده تتجانس في أبعادها وبواعثها ومراميها وتتوافق ولا تختلف، فلا تعارُضَ بين الإمامة وتوابعها أو ما يُلقيه الإمام في المناسبات الشرعية كالجُمَع والأعياد والاستسقاء ونحوها من شعائر الدين، وما يقوم به بالبيان والنصح من خلال خطبته بكلماتٍ وعظيةٍ وتوجيهيةٍ وتذكيريةٍ، أو بين ما يعلِّمه في دروسه وحِلَقه ومحاضراته العلمية أو ما يبثُّه من فتاوى شرعيةٍ متعلِّقةٍ بحياة المسلم الدينية والروحية، وسائر النشاطات العلمية وأعمال الحِسْبة التي يتولَّى الإمام مهمَّتها داخل المسجد؛ لأنها -وغيرها من الصلاة والذكر- معدودةٌ من العمارة الإيمانية المشمولة بقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [النور: 36]، فهذه المهامُّ تأتلف ولا تختلف، وتتكامل ولا تتناقض، ومن وجوه هذا التكامل:
- أن يحرص الإمام في دروسه العلمية وحِلَقه التكوينية على تعليم العامَّة ضرورياتِ دينهم، وأن يعمل على محاربة الجهل المنتشر في أوساطهم، ويشجِّع القدراتِ الاستيعابيةَ والمواهب الذهنية على الاستزادة من العلوم الشرعية، والتعمُّق في الفقه في الدين، تحصيلاً لعلوم المقاصد: من عقيدةٍ وفقهٍ، وعلوم المصادر: من تفسيرٍ للكتاب وشروحٍ للسنَّة، وعلوم الوسائل: من أصول الفقه وقواعده وعلوم اللغة ونحوها من العلوم النافعة.
- أن يوجِّه الإمام الخطيب الناسَ في خُطَبه ومواعظه إلى التمسُّك بالكتاب والسنَّة والْتزام نهج السلف الصالح في فهمهما، واقتفاء آثار الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، والاقتداء بسيرتهم والاهتداء بهديهم بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، كما يدعوهم إلى تحقيق العبودية لله وحده، وإعلاء السنن ولزومها واتِّباعها ونشرها، وإظهار شعائر الدين وفضائله، وتحذيرهم من الشرك والبدع والتبرُّؤ منها، ويحثُّهم على إلغاء مظاهر الجاهلية التي تفشَّت وسادت بعد القرون المفضَّلة، كما يربِّي الناسَ على اجتناب الرذائل وكبت الفواحش وتنبيه الناس على خطورة مآلها، وذلك بتنشيط الخُطَب التوجيهية والوعظية، وتفعيل العلوم النافعة وتنوير الناس بقضايا دينهم، كلُّ ذلك لإظهار الحجَّة وإقامتها على الناس تحقيقًا لخبر المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(1).
- أن يحرص على تثبيت الأمن والاستقرار في الأمَّة، وتوحيدها على توحيد المرسِل وجمع شملها على متابعة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ووعيها بالضروريات الخمس التي جاءت بها الشريعة السمحة، ويذكِّر بوجوب حفظها ورعاية أحكامها والتناصح بين الراعي والرعيَّة، وتنبيهها على آفة الخروج على الأئمَّة ومنازعتهم في ولايتهم ما لم يرَوْا كفرًا بواحًا عندهم عليه من الله برهان، وما يترتَّب عنه من آثارٍ سيِّئة العواقب على البلاد والعباد، فيوجِّه الإمام الناسَ إلى كلِّ ما يحتاجونه لمعرفة المواقف الشرعية وما تُوزَن به الدعوات المرفوعة أيَّام الفتنة، ومعالجتها بالميزان الشرعي اعتمادًا على الوحي المعصوم وبعيدًا عن مناهج أهل الفرقة والأهواء وأهل الخرافة والتخرُّصات.
- والإمام -إن كان أهلاً للفتوى وقادرًا على التصدِّي لها- فإنه يعقد في مسجده جلساتٍ للفتوى يجيب عن أسئلة المستفتين الفقهية وعن قضاياهم الدينية، ويفكُّ عنهم ما أشكل من مسائل العقيدة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية، فإن علم من نفسه ضعفًا فله أن ينسِّق مع أهل العلم والفتوى، كما له أن يوجِّه إليهم فيما تجاوَزَ حدود قدرته العلمية.
- وشخصية الإمام -باعتباره سيِّد المسجد– تأبى كلَّ عملٍ غير مَرْضيٍّ أو منافٍ لرسالة المسجد: من البيع فيه وإنشاد الضالَّة، وله أن يقوِّم صلاةَ المسيئين ويعدِّل الصفوفَ على وجهٍ متراصٍّ وغير مقطوعٍ إلاَّ عند الاكتظاظ والاضطرار، ويحثُّ على حضور الجماعة وعدم التأخُّر عنها، ويتفقَّد الغائبين من أهل المسجد من المرضى والمقعدين وغيرهما ويزورهم من باب التراحم، ونحو ذلك من أعمال البرِّ والحسبة.
- ومن وجوه أعمال البرِّ: تحقيق المؤاخاة، وتجسيد التآلف وجمعُ القلوب ولَمُّ شملها على الإخلاص والمتابعة، وهي من أهمِّ مهامِّ الإمام المؤهَّل بما يتمتَّع به من قوَّةِ بيانٍ وحجَّةٍ، ورجاحةِ عقلٍ وحُسْنِ توجيهٍ وتدبيرٍ، فيعمل على إلغاء مظاهر الجاهلية وإبطالها بامتصاص النزاعات والخلافات والعصبيات ودحض الفرقة والشتات والإعراض عن العلم والدين، ويبث فيهم روح المؤاخاة والتعاون المبنيِّ على البرِّ والتقوى والتكافل والتعاطف تحقيقًا للوصف النبويِّ المتمثِّل في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»(2).
هذا، -وبغضِّ النظر عن نوعية انتماء الجهة الوصيَّة على الإمام- فله السلطة التقديرية في اختيار ما يفيد به العامَّة أو طلبة العلم من أمور دينهم، وقضايا منهجهم العامِّ والتربوي بما يحقِّق التوفيقَ بين مطالب الناس وحاجاتهم مع لزوم العدل والإنصاف ودون إعراضٍ عن بيان الحقِّ ولا إبعاد الناس عن معرفته.
نسأل اللهَ أن يقوِّيَ أئمَّتنا على إقامة الحجَّة ونشر العلم والسنن ومحاربة الجهل والبدع وأن يعينهم على إبطال مظاهر الجاهلية، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحقِّ والهدى وما فيه عزُّهم وخيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من المحرَّم 1433ه
المـوافق ل: 21 ديسمبر 2011م
1- أخرجه مسلم بهذا اللفظ في «الإمارة» (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وبألفاظٍ أُخَرَ من حديث غيره، وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ» يقاتلون وهم أهل العلم (7311) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (2586) من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما.
المصدر موقع الشيخ
تذكيرٌ للداعية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالدعوة إلى الله تعالى دعوة علمٍ ويقينٍ وإصلاحٍ وخيرٍ، وهي وظيفة الرسل والأنبياء جميعًا، ودعوتهم قائمةٌ على عبادة الله وحده والتبرُّؤ من عبادة ما سواه، والقيام بعبادة الله بجميع أنواعها على وجهٍ مُرْضٍ مهما أمكن، والزجر عن كلِّ ما نهى الله عنه، سالكين سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء النصيحة للمدعوِّين على وجهها الكامل، وترتقي مكانة الداعي إلى الله بحسب مقدار عمله وقدرته، ذلك لأنَّ دعوته تبعٌ لدعوة الأنبياء والمرسلين، يعمل على تعليم الجاهلين ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين والمناوئين والشانئين بالتي هي أحسن، والحثِّ على مكارم الأخلاق، والإحسان -في دعوته- إلى عموم الخلق، والترغيب في الطريق الموصل إلى الله تعالى، وربط المدعوين بكتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم، والترغيب في اقتباس العلم والهدى منهما، فدعوتُه -إذًا- مشروطةٌ بالعلم النافع -وهو بطبيعته قابلٌ للتجزئة والتبعيض-، إذ لا يخفى أنَّ العلم بصحَّة ما يدعو إليه الداعي شرطٌ لصحَّة الدعوة، لذلك يعمل الداعية على تفادي الوقوع في فساد العلم بعدم تحقيق موافقة علمه ومطابقته لمراد الله تعالى، كما يعمل على تجنُّب الوقوع في فساد الإرادة، وذلك بتجريدها من شوائب الهوى وإرادة الخلق، وهما آفتان تفسدان علمه وعمله، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وأمَّا العلم فآفته عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبُّه الله ويرضاه وذلك يكون من فساد العلم تارةً، ومن فساد الإرادة تارةً؛ ففساده من جهة العلم أن يعتقد أنَّ هذا مشروعٌ ومحبوبٌ لله وليس كذلك، أو يعتقد أنه يقرِّبه إلى الله وإن لم يكن مشروعًا، فيظنُّ أنه يتقرَّب إلى الله بهذا العمل وإن لم يعلم أنه مشروعٌ.
وأمَّا فساده من جهة القصد فأن لا يقصد به وجهَ الله والدار الآخرة بل يقصد به الدنيا والخَلْق. وهاتان الآفتان في العلم والعمل لا سبيل إلى السلامة منهما إلاَّ بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة، فمتى خلا من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمُه وعمله»(1)، وإذا كانت الدعوة إلى الله ملازمة ومتضمنة للعلم فليست مقيَّدةً بفئةٍ معيَّنةٍ، وإنما هي لكلِّ من يمتلك المواصفاتِ الشرعيةَ للدعوة، فهو أهلٌ لها، ولا هي مقيَّدةٌ بوقتٍ محدَّدٍ أو قاصرةٌ على خُطَبٍ تُلقى، أو على دروسٍ أو حلقاتٍ تُملى، وقد تكون على فتراتٍ متقطِّعةٍ من الزمن، وإنما الدعوة إلى الله تؤدَّى في جميع الأحوال بما تسمح بالقيام بها قدرات الداعية وظروفه في كلِّ الأوقات، سواءً تعلَّقت الأوقات بالمواسم أو العوارض أو النوازل أو المصائب أو ما يناسب ذلك الحالَ أو غيره ممَّا تشْمَله الدعوة إلى الخير كلِّه والترهيب من الشرِّ كلِّه، ويتجلَّى هذا المعنى فيما أخبر الله به تعالى عن نوحٍ عليه السلام حيث قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 5-9]، ويوسف عليه السلام لم يشغله السجن وضيقه عن واجب الدعوة إلى الله تعالى، فقد دعا السجينين إلى الله تعالى قبل أن يجيبهما عن رؤيا رآها كلُّ واحدٍ منهما، قال تعالى مخبرًا عنه: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 39-40]، وكذلك كان نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو قومه ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، لم يشغله شيءٌ عن الدعوة إلى الله تعالى.
وعلى الداعي إلى الله أن يؤدِّيَ واجبَه في البلاغ والتبيين من غير أن ينتظر استجابةَ الناس له، وإنما يستمرُّ في دعوته كما يداوم على أداء سائر العبادات الداخلة في تكليفه، وله أن يسأل الأجر والمثوبة من الله دون أن يجعل بغيتَه الجزاءَ والشكور من عباد الله، ولا أن يتَّخذ دعوته مطيَّةً لتحصيل الأعواض المالية والمنافع المادِّية والمعنوية كالثناء والشهرة والجاه والمناصب ونحو ذلك مما يصبو إليها أهل الدنيا والطمع فيما عند الناس، فإنَّ هذا لا يجري على هدي الأنبياء والمرسلين من الإخلاص لله والاستعانة به والطمع فيما عنده، فقال الله تعالى مخبرًا عنهم: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72]، وقال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: 20-21]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 56-57]، فالأجر من الله عظيمٌ وباقٍ، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعليٍّ رضي الله عنه: «فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(2)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم -أيضا-: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»(3)، والمعلوم الذي تجري عليه سنن الله في خلقه أنَّ من لم يجرِّد قصْدَه عن الهوى وإرادة الخَلْق دون الخالق وجعل الدنيا همَّه؛ فإنَّ الله يَكِلُه إلى نفسه، ويُبلى بعبودية المخلوق ومحبَّته وخدمته.
هذا، وأخيرًا فإنَّ أحسن الكلام وأفضل طريقٍ -في ميزان الله تعالى- هو الدعوة إلى الله تعالى بتحبيب الإسلام وإظهار محاسنه، والنهي عمَّا يُضادُّه من الكفر والشرك، وتوجيه عموم الناس إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم: تعليمًا وتربيةً ووعظًا وإرشادًا وتوجيهًا يسلكه الداعي في مهمَّته الدعوية، متحلِّيًا بالعلم النافع والعمل الصالح على وجه الطاعة والانقياد، وبالمواصفات الأخلاقية الكريمة والحكمة والموعظة الحسنة، فإنَّ العلم النافع والعمل الصالح هما دعوة الحقِّ والسبيل الوحيد للسعادة والفلاح، وقد جمع الله تعالى بين معرفة الحقِّ والعمل به في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2]، وعُنِيَ بذكرهما في قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ [الرعد: 14]، فدعوة الحقِّ -إذًا- هي إخلاص العمل لله تعالى وحده لا شريك له المتضمِّن معرفة الله تعالى ومعرفة شرعه ودينه(4)، وتمام هذه الرتبة للصدِّيقين الذين عملوا على إصلاح أنفُسهم وتكميلها، ووسَّعوا دائرة الإصلاح والتكميل إلى غيرهم، خاصَّةً عند إنكار الجاحدين ومحاربة المبطلين والمعاندين وشيوع التمرُّد على الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فُصِّلت: 33]، «ولا يتمُّ الإيمان إلاَّ بتلقِّي المعرفة من مشكاة النبوَّة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخَلْق، فيكون علمُه مقتبسًا من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة، فهذا أصحُّ الناس علمًا وعملاً، وهو من الأئمَّة الذين يهدون بأمر الله، ومن خلفاء رسوله في أمَّته»(5)، تلك هي الوراثة التامَّة من الأنبياء والرسل تتفاضل مراتبها، وقد ترتفع إلى أعلى علِّيِّين بحسب الأعمال الحسنة المقدَّمة إخلاصًا وصدقًا، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132].
نسأل اللهَ التوفيقَ والسداد، للمزيد من العمل الجادِّ، وعلى الله قصدُ السبيل والاتِّكالُ في الحال والمآل.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 من ذي الحجة 1432ه
المـوافق ل: 20 نوفمبر 2011م
1- «الفوائد» لابن القيم (85).
2- متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب دعاء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الناس إلى الإسلام والنبوَّة، وأن لا يتَّخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله (2942)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (2406) من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «العلم» (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- انظر: «مجموع الفوائد» للسعدي (180).
5- «الفوائد» لابن القيم (85).
المصدر موقع الشيخ
في مسؤولية ناظر الوقف بين التغيير الجائز والمحرَّم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد حثَّ الشرع على الوقف وندب إليه، وجعله قربةً يَلْحق المؤمنَ من ثوابها في حياته، وتجري بها حسناتُه بعد موته، لأنها من كسبه وسعيه، وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»(1)، والحديث لا يعارض قولَه تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] لأنَّ ولده، وما يخلِّفه من علمٍ، وما يتركه من صدقةٍ جاريةٍ كلُّها من سعيه.
وهذه الأعمال الصالحة غيرُ محصورةٍ في الحديث، بل هي تمثيلٌ لخصالٍ حسنةٍ وأبوابِ برٍّ وإحسانٍ تزيد عن ذلك، وقد جاء في الحديث ما يفيد هذا المعنى في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»(2)، ولا تزال أمَّتُنا تقف من أموالها إلى يومنا هذا.
والواقف جائزُ التصرُّف إن وقف مِلْكه الثابتَ المعيَّن على جهة برٍّ كالمساجد أو المدارس القرآنية والمصاحف أو كتبِ العلم النافع؛ فإنه يجب العمل بشرطه إلا إذا تضمَّن ما يخالف الشرعَ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»(3)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ...»، الحديث(4).
والوقف إن كان مسجدًا فالنظارة للحاكم أو من يقوم مقامَه نيابةً عنه، ولا يجوز له التصرُّف في الوقف بالبيع والهبة والإرث وغيرها من أنواع التناقل لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في شأن الوقف لعمر: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ»(5)، كلُّ ذلك ما لم تتعطَّل منافع الوقف بالكلِّيَّة: كالمسجد الذي خَرِبَ محلُّه فإنه يجوز إبدالُه لمصلحةٍ راجحةٍ، ويباع ويُصرف ثمنُه في مثله أيْ: في مسجدٍ آخَرَ أصْلَحَ لأهل البلد منه، وكذلك إذا زاد ريعه عن قدر حاجته، فإنَّ الزائد يُصرف إلى مسجدٍ غيره، وذلك لأنَّ صرْفَه إلى مثله انتفاعٌ به في جنس ما وُقف له، وفي تقرير هذا المعنى أجاب ابن تيمية -رحمه الله-: عن الوقف إذا فَضَلَ ريعُه واستغنى بأنه «يُصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فَضَل عن مصالحه صُرف في مسجدٍ آخَرَ؛ لأنَّ الواقف غرضُه في الجنس والجنسُ واحدٌ، فلو قُدِّر أنَّ المسجد الأوَّل خَرِبَ ولم ينتفع به أحدٌ صُرف ريعُه في مسجدٍ آخَرَ، فكذلك إذا فَضَل عن مصلحته شيءٌ؛ فإنَّ هذا الفاضل لا سبيلَ إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله، فصرفُه في جنس المقصود أَوْلى وهو أقربُ الطرق إلى مقصود الواقف»(6)، كما تجوز الصدقة بالفاضل من غلَّة وقف المسجد على المساكين-أيضًا-، بل يجب إن عَلِم أنَّ وقْفَه لا يبقى دائمًا، لأنَّ ترْكَ فائض ريع الوقف من غير انتفاعٍ تضييعٌ وفسادٌ(7)، وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن إضاعة المال(.
هذا، والأوقاف الخيرية اؤتُمن عليها ناظرُ الوقف، فعليه أن يتَّقيَ اللهَ فيها، ويحافظَ عليها، ويُحسن ولايتَه على ما تولاَّه أمانةً بكلِّ ما وَسِعَه، تحقيقًا لمقصود الواقف من التقرُّب إلى الله بالبرِّ ومختلف الطاعات، لذلك يَحْرُم على ناظر الوقف تغييرُ أو تبديلُ جزءٍ منها أو تحويلُ أو صرفُ منافعها إلى جهاتٍ منافيةٍ لشعائر التقوى، فلا يجوز تغييرُه إلى معابد الكفَّار أو بناء المشاهد والأضرحة عليها أو دفنِ الموتى في المساجد أو في أفنيتها أو ساحاتها، أو صرفُ غلَّة الأوقاف على سدنة الأضرحة والقباب أو في إسراجها وتنويرها وسترها وتبخيرها، كما يَحْرُم اقتطاع جزءٍ منها لاتِّخاذ التماثيل والأنصبة التذكارية وغير التذكارية أو رفعِ الصور عليها أو على الجزء المقتطع، أو تخصيصها للملاهي والمعاصي ونحو ذلك مما هو منافٍ للتوحيد أو لكماله أو مضادٌّ للبرِّ والتقوى، فإنَّ ذلك من التغيير المحرَّم، والتعاونُ عليه معدودٌ من الإثم والعدوان المنهيِّ عنه في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 شوال 1432 ه
الموافق ل: 18 سبتمبر 2011 م
1- أخرجه الترمذي في «الأحكام» بابٌ في الوقف (1376)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (793) وفي «الإرواء» (1580).
2- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة» باب ثواب معلم الناس الخير (242)، وابن خزيمة في «صحيحه» (2490)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (2231).
3- أخرجه الترمذي في «الأحكام» باب ما ذُكر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصلح بين الناس (1352) من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «الإرواء» (1303).
4- أخرجه بهذا اللفظ النسائي في «الطلاق» باب: خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (3451)، وابن ماجه في «العتق» باب المكاتب (2521)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه البخاري في «البيوع» باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ (216، ومسلم في «الطلاق» (1504) بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ».
5- أخرجه البخاري في «الوصايا» باب الوقف كيف يكتب؟ (2772) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي عند إخراجه للحديث في «الأحكام» باب في الوقف (1375): «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدِّمين منهم في ذلك اختلافًا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك».
6- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (31/ 206).
7- انظر: «المستدرك على مجموع الفتاوى» لابن قاسم (4/ 10.
8- أخرجه البخاري في «الزكاة» باب قول الله تعالى: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273] وكم الغنى؟ (1477) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
المصدر موقع الشيخ
تعليق