الخطبة الأولى
معاشر المؤمنين، لقد أشرقت الأرض بنور رسالة الإسلام، وأضاءت ببعثة سيد الأنام محمدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام. رسالةٌ تضمَّنت الرحمة للعالمين والزكاةَ والصلاح لحياة الناس أجمعين. ما من شيء تدعو إليه الفطر السليمة والعقول الحكيمة إلا ودعت إليه ورغّبت فيه، وما من شيء ترفضه العقول السليمة والطباع المستقيمة إلا وقد نهت عنه وحذّرت منه. جاءت بالدعوة إلى تزكية النفوس وتقويم القلوب وإصلاح الباطن والظاهر والخلق والسلوك. رسالةٌ تدور كلُّها مع أزكى السجايا وأنبل الطباع وأحسن الأخلاق وأصلح الخصال، يقول سبحانه في وصف صاحب الرسالة محمدٍ : وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
نعم، إنها الرسالة التي تقوم أصولُها التشريعية والتهذيبية على الأساس الأخلاقي. رسالةً من الأهداف الكبرى لها ومن المقاصد العظمى في تشريعاتها الأمرُ مصالح الأخلاق وكريم الطباع، والدعوةُ إلى ذلك قولا وفعلا وسلوكا، يقول سبحانه مقرِّراً مبدأً من مبادئ محاسن الأخلاق القولية: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ويقول سبحانه مؤصِّلا لمبدأ محاسن الأخلاق الفعلية: ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ [المؤمنون:96:34]، ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي هذا الشأن كله يقول من اتّصف بقمّة الكمال الإنساني وغاية النبل البشري محمد : ((إنما بُعثت لأتمِّم صالح الأخلاق)) صححه ابن عبد البر[1].
إخوة الإسلام، محاسن الأخلاق أساس من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خُلقا)) صححه ابن حبان والحاكم[2]، ويقول : ((البر حسن الخلق)) رواه مسلم[3].
معاشر المؤمنين، الالتزام بمحاسن الأخلاق سببٌ في رفع الدرجة وعلوِّ المكانة وسموّ القدر، قال : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) صححه النووي[4]. وفي صحيح البخاري قوله : ((إن من خيركم أحاسنكم أخلاقا))[5].
والمؤمن بحسن خلقه قولا وفعلا منهجا وسلوكا أخذا وإعطاءً يدرك منازلَ السعداء الفائزين والعاملين المجاهدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنةَ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) صححه ابن حبان وهو صحيح بشواهده[6]، ويقول : ((وإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) صححه ابن حبان وله شاهد صحيح عن الحاكم[7].
إخوة الإسلام، الاتصاف بمحاسن الأخلاق والتمثّل في الحياة بكريم السجايا وصالح الصفات سببٌ عظيم لمرافقة النبي في الآخرة، فرسولنا يقول: ((إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)) الحديث، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وصححه ابن حبان[8].
الالتزام بمحاسن الأخلاق سبيلٌ لنيل الصلاح والسلامة، وطريقٌ للفوز والنجاة، يقول : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذي)) رواه الترمذي وسنده حسن[9].
معاشر المؤمنين، ولأجل تحصيل هذه الخيرات المتنوِّعة والفوز بهذه الثمرات المتعدِّدة جاءت وصيةُ الرحيم المشفق محمدٍ بقوله: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"[10].
معاشر المسلمين، مفهوم محاسن الأخلاق مفهومٌ واسع وشامل في نظر الإسلام، ومفهومٌ يعني إتيان الإنسان الأرفقَ والأحمدَ من الأقوال والأفعال، ويعني أيضاً سلوكَ كريم الخصال ونبيل الطباع وحميد السجايا.
فمن الأصول الجامعة في بيان محاسن الأخلاق في الإسلام أنها بذل المعروف وكفّ الأذى قولاً كان ذلك أو فعلاً. وبالجملة فقاعدتُها العامة في الإسلام التخلُّق بأخلاق الشريعة والتأدُّب بآداب الله التي أدّب بها عباده، عن عائشة رضي الله عنها أن سعد بن هشام سألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. رواه مسلم[11].
وجمع بعضهم بعضَ علاماتِ حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثيرَ الحياء، قليلَ الأذى، كثيرَ الصلاح، صدوق اللسان، قليلَ الكلام، كثيرَ العمل، قليل الزلل والفضول، براً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكورا راضيا، حليما رفيقاً، عزيزا شفيقا، بشّاشا هشَّاشا، لا لعانا ولا سبّابا، ولا منَّانا ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، يحبّ في الله ويبغض في الله، ويرضى لله ويغضب لله. انتهى.
عباد الله، ومن مظاهر تلك الأصول العامة وفروعها الجزئية من عبق السنة ورياحين السيرة توجيهاتٌ سامية وإرشاداتٌ عالية مبثوثة في ثنايا السيرة وكتب الحديث، كقول رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟! كلّ قريب هيّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"[12]، وكقوله لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة))[13]، وكقوله في مقامات أخرى: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم[14]، وكقوله : ((لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) رواه مسلم[15].
إخوة الإسلام، من الأخلاق الحسنة ما يكون الإنسان مجبولا عليه، ومنه ما يكون مُنالا بالاكتساب والمجاهدة، قابلاً للتعديل والتقويم، قال القرطبي: "الخلق [جِبِلَّة] في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً"[16]، وقال الماوردي رحمه الله: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار" انتهى.
فعلى المسلم المجاهدةُ في تهذيب أخلاقه وتقويمها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه)) رواه الخطيب بسند حسن[17]، ويقول في دعائه: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه النسائي بإسناد صحيح[18].
معاشر المؤمنين، الاعتبار الفذّ في أخلاقيات الإسلام هو اعتبارٌ عقائدي، ينبع من وازع ديني. أخلاقياتٌ لم تنبع من البيئة ولا من الاعتبارات الأرضية، وهي لا تستمدّ ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات المصالح. فالتمثُّل بمحاسن الأخلاق في الإسلام غير مقيّد ولا محدود بحدود، بل هو ثابت لا يتغيَّر بتغيُّر زمان، ولا بتحوّل مكان، يشمل أحوالَ المسلم كلَّها صغيرها وكبيرَها، دقيقها وجليلَها، وليست فضائلَ مفردةً فحسب، بل هي منهجٌ متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية، وتقوم عليها فطرةُ الحياة كلِّها واتجاهاتُها جميعاً، في إطار كمال وجمال وتوازن، واستقامةٍ واطِّرادٍ وثبات.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأحسن الأخلاق، والتمسوا أكرم المقال والفعال، تنالوا الخير وجزيلَ الثواب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد (2/31، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[2] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[3] أخرجه مسلم في البر (2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (13/181): "وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (264.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6035) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو أيضا عند مسلم في الفضائل (2321).
[6] أخرجه أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2004)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وقال الترمذي: "صحيح غريب", وصححه ابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
[7] أخرجه أحمد (6/90، 133)، وأبو داود في كتاب الأدب (479، وصححه ابن حبان (480 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[8] أخرجه الترمذي في الأدب (201 من حديث جابر رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في الشعب (7986)، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد"، وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2897، 2650، 2662).
[9] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (2002)، وهو أيضا عند أحمد (6/442، 446، 44، وأبي داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[10] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[11] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746).
[12] أخرجه الترمذي في كتاب صفة يوم القيامة (248 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير في (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (93.
[13] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[14] أخرجه مسلم في صفة الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[16] انظر: فتح الباري (10/459).
[17] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/127) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه الطبراني في الأوسط (2663)، وأبو نعيم في الحلية (5/174)، والخطيب أيضا (5/201) من حديث أبي الدرداء مرفوعا، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا محمد بن الحسن"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الثوري عن عبد الملك، تفرد به محمد بن الحسن"، وقال الهيثمي في المجمع (1/12: "فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذاب"، وذكر ابن الجوزي الحديثين في العلل المتناهية (93، 1184) ونقل عن الدارقطني قوله: "وقد روي من حديث أبي الدرداء موقوفا وهو المحفوظ"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (342) عن إسناد حديث أبي هريرة: "إسناده حسن أو قريب من الحسن".
[18] أخرجه النسائي في الافتتاح (897) من حديث علي رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في صلاة المسافرين (771).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
يا أمة الإسلام، هذا هو الحديث عن أصل من أصول الإسلام، قِيمٌ عليا وأخلاقٌ نُبلى وفضائل لا تُحصى.
ومع هذا الوضوح والجلاء فإن أعداءَ الإسلام يشُنون الحملات على هذا الدين وعلى أهل هذا الدين، يفترون على دين الإسلام ويفترون على بلاد الحرمين بنعوتٍ وصفات لا تتَّفق مع المنهج الإسلامي الحق، ولا مع السلوك العملي الذي يزاوله أهل الإسلام من المنطلقات الصحيحة لدينهم كما سمعنا آنفا.
وكل ذلك ما هو إلا من إفرازات بغضٍ دفين وحقد مكين لهذا الدين، فهل يدرك العقلاء أن ما يشنّه المغرضون ما هو إلا قلب للمفاهيم، وإفساد للتصورات الصادقة، وتغيير للحقائق الثابتة؟!
ألا فلتفخرْ الأمة بدينها، وتعتزَّ بشريعتها، وتبذلْ قصارى جهدها في الدعوة إليه والدفاع عنه.
فواجب المسلمين العيشُ للإسلام، والدعوة إليه، والاهتمامُ بقضاياه حقَّ الاهتمام، والانشغال بهموم الأمة ومآسيها، فتلكم مسؤولياتٌ كبرى يتحمَّلها الجميع، ويُسأل عنها كلُّ أحد أمام رب العالمين.
إخوة الإسلام، ومن وراء تلك الحفنة الحاقدة نابتةٌ من بني جلدة المسلمين، من يرفض الإسلام ديناً ومنهجاً، عبثوا بالأسس الدينية والقيم الأخلاقية والمقرّرات التاريخية، سخَّروا الأقلام والإعلام لتقويض دعائم الحياة الصالحة والأخلاق الفاضلة، بهدف خلق جيل مظلم الروح، ضعيف اليقين، قليل الدين، فاقد الخلق، عديم الحياء، فاللهم سلم المسلمين من شرورهم، واجعل كيدَهم في نحورهم.
معاشر المسلمين، ونحن نعيش لحظاتٍ ماتعة عن حديثٍ في المنهج الأخلاقي في الإسلام الواضح الجلي، فإن الإنسان يعجب أشدّ العجب كيف يوصَف الإسلام بما هو منه براء، وكيف تُعكس الحقائق وتُقلب المفاهيم، أين هؤلاء من الصهاينة الحاقدين الذين لا يعرفون من الأخلاق إلا اسمَها، ولا يألفون من الطباع إلا أخسَّها، ولا يسلكون من الصفات إلا أقبحها؟!
الصهاينة قسوةٌ في القلوب، شرَهٌ في النفوس، بغيٌ في الأرض، تطاولٌ على الخلق، سبيلهم الزعزعةُ والهدم، وسُبُلهم المخادعة والتضليل والتلاعب، نقضٌ للعهود والمواثيق، تحريفٌ للكلم عن مواضعه، لا ينصاعون لمساومات ولا يصدُقون في محادثات، الخيانة خلقُهم، والكذبُ مطيَّتهم، والدسائس في السراديب المظلمة مسلكُهم، خلقُهم فظائع في الخلق مروِّعة، ومذابح منفّرة. فيا ترى، ويا عقلاء العالم، من هو عدوّ الأخلاق الكريمة إذاً؟! ومن هو مخترقُ الحقوق الإنسانية والكرامة حينئذ؟!
أيها الناس، إن ميلَ الميزان في كل شأن لا يعدِّله إلا القرآن، والحلّ بيّن والحقُّ واضح، فهل يفيق الذين في سكراتهم يعمون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ [البقرة:145-147].
ثم إن من أفضل الأعمال وأزكاها الصلاةَ والسلام على النبي محمد.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
معاشر المؤمنين، لقد أشرقت الأرض بنور رسالة الإسلام، وأضاءت ببعثة سيد الأنام محمدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام. رسالةٌ تضمَّنت الرحمة للعالمين والزكاةَ والصلاح لحياة الناس أجمعين. ما من شيء تدعو إليه الفطر السليمة والعقول الحكيمة إلا ودعت إليه ورغّبت فيه، وما من شيء ترفضه العقول السليمة والطباع المستقيمة إلا وقد نهت عنه وحذّرت منه. جاءت بالدعوة إلى تزكية النفوس وتقويم القلوب وإصلاح الباطن والظاهر والخلق والسلوك. رسالةٌ تدور كلُّها مع أزكى السجايا وأنبل الطباع وأحسن الأخلاق وأصلح الخصال، يقول سبحانه في وصف صاحب الرسالة محمدٍ : وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
نعم، إنها الرسالة التي تقوم أصولُها التشريعية والتهذيبية على الأساس الأخلاقي. رسالةً من الأهداف الكبرى لها ومن المقاصد العظمى في تشريعاتها الأمرُ مصالح الأخلاق وكريم الطباع، والدعوةُ إلى ذلك قولا وفعلا وسلوكا، يقول سبحانه مقرِّراً مبدأً من مبادئ محاسن الأخلاق القولية: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ويقول سبحانه مؤصِّلا لمبدأ محاسن الأخلاق الفعلية: ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ [المؤمنون:96:34]، ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي هذا الشأن كله يقول من اتّصف بقمّة الكمال الإنساني وغاية النبل البشري محمد : ((إنما بُعثت لأتمِّم صالح الأخلاق)) صححه ابن عبد البر[1].
إخوة الإسلام، محاسن الأخلاق أساس من أسس كمال الإيمان، ومظهر من مظاهر الإسلام، يقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خُلقا)) صححه ابن حبان والحاكم[2]، ويقول : ((البر حسن الخلق)) رواه مسلم[3].
معاشر المؤمنين، الالتزام بمحاسن الأخلاق سببٌ في رفع الدرجة وعلوِّ المكانة وسموّ القدر، قال : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) صححه النووي[4]. وفي صحيح البخاري قوله : ((إن من خيركم أحاسنكم أخلاقا))[5].
والمؤمن بحسن خلقه قولا وفعلا منهجا وسلوكا أخذا وإعطاءً يدرك منازلَ السعداء الفائزين والعاملين المجاهدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنةَ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) صححه ابن حبان وهو صحيح بشواهده[6]، ويقول : ((وإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) صححه ابن حبان وله شاهد صحيح عن الحاكم[7].
إخوة الإسلام، الاتصاف بمحاسن الأخلاق والتمثّل في الحياة بكريم السجايا وصالح الصفات سببٌ عظيم لمرافقة النبي في الآخرة، فرسولنا يقول: ((إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)) الحديث، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وصححه ابن حبان[8].
الالتزام بمحاسن الأخلاق سبيلٌ لنيل الصلاح والسلامة، وطريقٌ للفوز والنجاة، يقول : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذي)) رواه الترمذي وسنده حسن[9].
معاشر المؤمنين، ولأجل تحصيل هذه الخيرات المتنوِّعة والفوز بهذه الثمرات المتعدِّدة جاءت وصيةُ الرحيم المشفق محمدٍ بقوله: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"[10].
معاشر المسلمين، مفهوم محاسن الأخلاق مفهومٌ واسع وشامل في نظر الإسلام، ومفهومٌ يعني إتيان الإنسان الأرفقَ والأحمدَ من الأقوال والأفعال، ويعني أيضاً سلوكَ كريم الخصال ونبيل الطباع وحميد السجايا.
فمن الأصول الجامعة في بيان محاسن الأخلاق في الإسلام أنها بذل المعروف وكفّ الأذى قولاً كان ذلك أو فعلاً. وبالجملة فقاعدتُها العامة في الإسلام التخلُّق بأخلاق الشريعة والتأدُّب بآداب الله التي أدّب بها عباده، عن عائشة رضي الله عنها أن سعد بن هشام سألها فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. رواه مسلم[11].
وجمع بعضهم بعضَ علاماتِ حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثيرَ الحياء، قليلَ الأذى، كثيرَ الصلاح، صدوق اللسان، قليلَ الكلام، كثيرَ العمل، قليل الزلل والفضول، براً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكورا راضيا، حليما رفيقاً، عزيزا شفيقا، بشّاشا هشَّاشا، لا لعانا ولا سبّابا، ولا منَّانا ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، يحبّ في الله ويبغض في الله، ويرضى لله ويغضب لله. انتهى.
عباد الله، ومن مظاهر تلك الأصول العامة وفروعها الجزئية من عبق السنة ورياحين السيرة توجيهاتٌ سامية وإرشاداتٌ عالية مبثوثة في ثنايا السيرة وكتب الحديث، كقول رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟! كلّ قريب هيّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"[12]، وكقوله لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة))[13]، وكقوله في مقامات أخرى: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم[14]، وكقوله : ((لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) رواه مسلم[15].
إخوة الإسلام، من الأخلاق الحسنة ما يكون الإنسان مجبولا عليه، ومنه ما يكون مُنالا بالاكتساب والمجاهدة، قابلاً للتعديل والتقويم، قال القرطبي: "الخلق [جِبِلَّة] في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً"[16]، وقال الماوردي رحمه الله: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار" انتهى.
فعلى المسلم المجاهدةُ في تهذيب أخلاقه وتقويمها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه)) رواه الخطيب بسند حسن[17]، ويقول في دعائه: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه النسائي بإسناد صحيح[18].
معاشر المؤمنين، الاعتبار الفذّ في أخلاقيات الإسلام هو اعتبارٌ عقائدي، ينبع من وازع ديني. أخلاقياتٌ لم تنبع من البيئة ولا من الاعتبارات الأرضية، وهي لا تستمدّ ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات المصالح. فالتمثُّل بمحاسن الأخلاق في الإسلام غير مقيّد ولا محدود بحدود، بل هو ثابت لا يتغيَّر بتغيُّر زمان، ولا بتحوّل مكان، يشمل أحوالَ المسلم كلَّها صغيرها وكبيرَها، دقيقها وجليلَها، وليست فضائلَ مفردةً فحسب، بل هي منهجٌ متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية، وتقوم عليها فطرةُ الحياة كلِّها واتجاهاتُها جميعاً، في إطار كمال وجمال وتوازن، واستقامةٍ واطِّرادٍ وثبات.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأحسن الأخلاق، والتمسوا أكرم المقال والفعال، تنالوا الخير وجزيلَ الثواب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد (2/31، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[2] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[3] أخرجه مسلم في البر (2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (13/181): "وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (264.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6035) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو أيضا عند مسلم في الفضائل (2321).
[6] أخرجه أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد (289، 294)، والطيالسي في المسند (324)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2004)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وقال الترمذي: "صحيح غريب", وصححه ابن حبان (476 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (4/324)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1723).
[7] أخرجه أحمد (6/90، 133)، وأبو داود في كتاب الأدب (479، وصححه ابن حبان (480 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب (2643).
[8] أخرجه الترمذي في الأدب (201 من حديث جابر رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، والبيهقي في الشعب (7986)، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد"، وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2897، 2650، 2662).
[9] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (2002)، وهو أيضا عند أحمد (6/442، 446، 44، وأبي داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[10] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[11] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746).
[12] أخرجه الترمذي في كتاب صفة يوم القيامة (248 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/415)، وابن حبان (469 ـ الإحسان ـ)، والطبراني في الكبير في (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة (93.
[13] أخرجه مسلم في الإيمان (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[14] أخرجه مسلم في صفة الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[16] انظر: فتح الباري (10/459).
[17] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9/127) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وأخرجه الطبراني في الأوسط (2663)، وأبو نعيم في الحلية (5/174)، والخطيب أيضا (5/201) من حديث أبي الدرداء مرفوعا، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا محمد بن الحسن"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الثوري عن عبد الملك، تفرد به محمد بن الحسن"، وقال الهيثمي في المجمع (1/12: "فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو كذاب"، وذكر ابن الجوزي الحديثين في العلل المتناهية (93، 1184) ونقل عن الدارقطني قوله: "وقد روي من حديث أبي الدرداء موقوفا وهو المحفوظ"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (342) عن إسناد حديث أبي هريرة: "إسناده حسن أو قريب من الحسن".
[18] أخرجه النسائي في الافتتاح (897) من حديث علي رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في صلاة المسافرين (771).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
يا أمة الإسلام، هذا هو الحديث عن أصل من أصول الإسلام، قِيمٌ عليا وأخلاقٌ نُبلى وفضائل لا تُحصى.
ومع هذا الوضوح والجلاء فإن أعداءَ الإسلام يشُنون الحملات على هذا الدين وعلى أهل هذا الدين، يفترون على دين الإسلام ويفترون على بلاد الحرمين بنعوتٍ وصفات لا تتَّفق مع المنهج الإسلامي الحق، ولا مع السلوك العملي الذي يزاوله أهل الإسلام من المنطلقات الصحيحة لدينهم كما سمعنا آنفا.
وكل ذلك ما هو إلا من إفرازات بغضٍ دفين وحقد مكين لهذا الدين، فهل يدرك العقلاء أن ما يشنّه المغرضون ما هو إلا قلب للمفاهيم، وإفساد للتصورات الصادقة، وتغيير للحقائق الثابتة؟!
ألا فلتفخرْ الأمة بدينها، وتعتزَّ بشريعتها، وتبذلْ قصارى جهدها في الدعوة إليه والدفاع عنه.
فواجب المسلمين العيشُ للإسلام، والدعوة إليه، والاهتمامُ بقضاياه حقَّ الاهتمام، والانشغال بهموم الأمة ومآسيها، فتلكم مسؤولياتٌ كبرى يتحمَّلها الجميع، ويُسأل عنها كلُّ أحد أمام رب العالمين.
إخوة الإسلام، ومن وراء تلك الحفنة الحاقدة نابتةٌ من بني جلدة المسلمين، من يرفض الإسلام ديناً ومنهجاً، عبثوا بالأسس الدينية والقيم الأخلاقية والمقرّرات التاريخية، سخَّروا الأقلام والإعلام لتقويض دعائم الحياة الصالحة والأخلاق الفاضلة، بهدف خلق جيل مظلم الروح، ضعيف اليقين، قليل الدين، فاقد الخلق، عديم الحياء، فاللهم سلم المسلمين من شرورهم، واجعل كيدَهم في نحورهم.
معاشر المسلمين، ونحن نعيش لحظاتٍ ماتعة عن حديثٍ في المنهج الأخلاقي في الإسلام الواضح الجلي، فإن الإنسان يعجب أشدّ العجب كيف يوصَف الإسلام بما هو منه براء، وكيف تُعكس الحقائق وتُقلب المفاهيم، أين هؤلاء من الصهاينة الحاقدين الذين لا يعرفون من الأخلاق إلا اسمَها، ولا يألفون من الطباع إلا أخسَّها، ولا يسلكون من الصفات إلا أقبحها؟!
الصهاينة قسوةٌ في القلوب، شرَهٌ في النفوس، بغيٌ في الأرض، تطاولٌ على الخلق، سبيلهم الزعزعةُ والهدم، وسُبُلهم المخادعة والتضليل والتلاعب، نقضٌ للعهود والمواثيق، تحريفٌ للكلم عن مواضعه، لا ينصاعون لمساومات ولا يصدُقون في محادثات، الخيانة خلقُهم، والكذبُ مطيَّتهم، والدسائس في السراديب المظلمة مسلكُهم، خلقُهم فظائع في الخلق مروِّعة، ومذابح منفّرة. فيا ترى، ويا عقلاء العالم، من هو عدوّ الأخلاق الكريمة إذاً؟! ومن هو مخترقُ الحقوق الإنسانية والكرامة حينئذ؟!
أيها الناس، إن ميلَ الميزان في كل شأن لا يعدِّله إلا القرآن، والحلّ بيّن والحقُّ واضح، فهل يفيق الذين في سكراتهم يعمون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ [البقرة:145-147].
ثم إن من أفضل الأعمال وأزكاها الصلاةَ والسلام على النبي محمد.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
تعليق