فضل الأدب
الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد؛ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن من تمام منة الله على أمة الإسلام أن وفقها لأهدى طريق وأقوم سبيل؛ وجعل لذلك الطريق علامات تهدي إليه وتدل عليه؛ من تمسك بها ظفر وفاز؛ وتميز على أقرانه غاية الامتياز؛ ومن ضل عنها فاته خير كثير؛ وتردى في ظلمات الجهل والتقصير.
ومن تلك العلامات الهادية إلى ذلك الهدف المراد؛ التمسك بالآداب الشرعية؛ التي دلت عليها نصوص الشريعة؛ واتصف بها العقلاء في كل زمن؛ من جملة الآداب التي بلغت بهم ذرى المجد ودرجات السؤدد.
فتعلم الآداب من الأمور المطلوبة شرعاً وعرفاً؛ والأدب يكون باستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً؛ والأخذ بمكارم الأخلاق؛ والوقوف عند كل وصف مستحسن؛ وكلما عظم أدب المرء كلما زاد قدره؛ وعلا شأنه؛ وعلى قدر اكتسابه من الآداب؛ على قدر ما يكون له من علو المنزلة؛ ومن أجل ذلك فقد تتابعت النصوص عن سلف الأمة الكرام تحث على اكتساب الآداب والاتصاف بها؛ لما يؤدي إليه ذلك من فتح أبواب الخيرات؛ وكونه سبيلاً لوقاية الدين من الآفات.
قال عمرt : « تأدبوا ثم تعلموا » ؛ وقال ابن عباس: «اطلب الأدب فإنه زيادة في العقل، ودليل على المروءة؛ مؤنس في الوحدة؛ وصاحب في الغربة؛ ومال عند القلة ».
وقال النخعي : « كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله ، ثم يأخذون عنه » .
وقال الإمام عبد الله بن المبارك : « لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه بالأدب »؛ ويروى عنه أيضاً أنه قال: « طلبت العلم فأصبت منه شيئاً ، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا ».
وقال أيضاً : « إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه وأتأسف على فوته»؛ وكان يقال: « العون لمن لا عون له الأدب » .
فينبغي لكل مؤمن أن يعمل بالآداب المحمودة في كل أحواله؛ وأن يجعل الأدب لباساً يلتحف به؛ فإنه ما ستر العيوب مثل جميل الأدب وحسن الخلُق. وعلى المرء أن يغرس الآداب في نفوس أبنائه ومن كانوا تحت يده من أول نشأتهم؛ فإنه مما لا يخفى على أحد أنه كلما كان التأديب على صغر السن كلما كان أحرى بأن يؤتي ثماره ولو بعد أمد؛ وإنما هو بذل لأسباب النجاة والأخذ بمكارم الصفات والأخلاق؛ ومرد الأمر إلى الله سبحانه؛ وقد كان يقال: الأدب من الآباء، والصلاح من الله .
وقد جاء عن علي t أنه قال في قول الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً )؛ قال: أدبوهم وعلموهم.
وقال محمد بن سيرين: « كانوا يقولون: أكرم ولدك وأحسن أدبه ».
فمن أدّب ابنه صغيراً قرت به عينه كبيراً ؛ ومن أدّب ابنه أرغم أنف عدوه؛ وما ورّثت الآباءُ الأبناءَ شيئاً أفضل من الأدب؛ فإنها إذا ورثتها الآداب كسبت بالآداب الأموال والجاه والإخوان والدين والدنيا والآخرة؛ وإذا ورثتها الأموال تلفت الأموال وقعدت عُدْما من الأموال والآداب.
قال الحسن: « التعلم في الصغر كالنقش في الحجر»؛ وهو ما أشار إليه القائل بقوله:
وقال غيره :
ولما تولى الحجاج شؤون العراق؛ أمر العسس أن يطوفوا بالليل؛ فمن وجدوه ضربوا عنقه؛ فطاف العسس ذات ليلة فوجد ثلاثة صبيان؛ فقبض عليهم وسألهم: من أنتم حتى خالفتم أمر الأمير؟ فقال الأول:
فأمسك عن قتله وقال: لعله من أقارب الأمير.
وقال الثاني:
فتأخر عن قتله وقال: لعله من أشراف العرب.
وقال الثالث:
فترك قتله وقال: لعله من شجعان العرب.
فلما أصبح رفع أمرهم إلى الحجاج؛ فأحضرهم وكشف عن حالهم؛ فإذا بالأول ابن حجام؛ والثاني ابن فوال؛ والثالث ابن حائك .
فتعجب الحجاج من فصاحتهم وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب؛ فلولا فصاحتُهم لضُربت أعناقهم؛ ثم أمر بإطلاقهم .
وحُكِي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت عليه العرب، وهابوا أن يكلموه، فلما جلس إليهم دخلوا عليه وكان فيهم فتى يبلغ سنه أربع عشرة سنة؛ فنظر إليه هشامٌ والتفت إلى حاجبه وقال: ما شاء امرؤ أن يدخل عليّ حتى الصبيان؛ فوثب الفتى بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن دخولي عليك لم يحط بقدرك ولكنه شرفني؛ وإن هؤلاء الوفود ائتمنوني واتمُّوا بي؛ وقدموا في أمر فهابوك دونه؛ وإن للكلام نشراً وطياً، وإنه لا يُعرَف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرتُه، فأعجبه كلامه وقال له: انشره لله درك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه أصابتنا سنون ثلاث؛ سنة أذابت الشحم؛ وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين؛ فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟؛ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجل القوم.
كما أن الأدب يصقل العقول ويهذبها؛ فالعقل يحتاج إلى مادة من الأدب؛ كما تحتاج الأبدان إلى قُوتِها من الطعام؛ ولذا فقد قال عليّt : « الأدب كنز عند الحاجة؛ عون على المروءة؛ صاحب في المجلس؛ أنيس في الوحدة؛ تُعمَر به القلوب الضعيفة، وتحيا به الألباب الميتة؛ وينال به الطالبون ما حاولوا ».
وقيل لعبد الله بن المبارك : « ما خير ما أعطِيَ الرجل؟ قال: غريزة عقل . قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن . قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره . قيل: فإن لم يكن؟ قال: صَمْتٌ طويل . قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل » .
ومن فضائل الأدب أنه يرفع قدر صاحبه؛ فإن من كَثُر أدبُه كثر شرفه وإن كان وضيعاً، وبَعُد صيته وإن كان خاملاً؛ وساد وإن كان غريباً، وكثرت حوائج الناسِ إليه وإن كان فقيراً؛ والأدب يُحرز الحظ؛ ويؤنس الوحشة ؛ وينفي الفاقة؛ ويعرِّف النكرة؛ ويُثمِّر المكسبة؛ ويكمد العدو؛ ويُكسِب الصديق؛ ويكفي من شرف الأدب أن أهله متبوعون والناس تحت راياتهم؛ فيعطِّفُ ربك تعالى عليهم قلوباً لا تعطِّفُها الأرحام؛ وتجتمع بهم كلمة لا تأتلف بالغلبة؛ وتُبذل دونهم مهج النفوس .
ومن شرف الأدب أن يتشعب منه التشرفُ وإن كان صاحبه دنيّا؛ والعزُّ وإن كان صاحبُه مهيناً؛ والقربُ وإن كان صاحبه قصيّا؛ والغنى وإن كان صاحبه فقيراً؛ والنبلُ وإن كان صاحبه حقيراً؛ والمهابةُ وإن كان وضيعاً؛ والسلامةُ وإن كان سفيهاً؛ وسمع بعض الحكماء رجلاً يقول: أنا غريب؛ فقال: الغريب من لا أدب له .
وقيل: الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والحسب؛ ومن تأدب من غير أهل الحسب ألحقه الأدب بهم؛وقد دخل أبو العالية على ابن عباس فأقعده معه على السرير؛ وأقعد رجالاً من قريش تحته، فرأى سوء نظرهم إليه وحموضةَ وجوههم فقال: ما لكم تنظرون إليّ نظر الشحيح إلى الغريم المفلس، هكذا الأدب يشرِّفُ الصغيرَ على الكبير؛ ويرفعُ المملوكَ على المولى، ويقعدُ العبيدَ على الأسرَّة .
وقال الحجاج لخالد بن صفوان: « من سيدُ أهل البصرة؟ قال: الحسن البصري؛ قال: وكيف ذاك وهو مولى؟!. قال: احتاج الناس إليه في دينهم؛ واستغنى عنهم في دنياهم؛ وما رأيت أحداً من أشراف أهل البصرة إلا وهو يطلب الوصول في حلقته إليه؛ ليستمع قوله ويكتب علمه؛ قال الحجاج: هذا والله السؤدد » .
وكم نحن بحاجة في هذه الأزمان التي ضعف بها التمسك بالآداب كثيراً؛ لأناس يتصفون بتلك الأخلاق التي تقودهم لكل خير؛ حتى يصبحوا قدوة لغيرهم؛ ومنارات هدى لمن يتأثر بهم؛ فإن المتصف بذلك لا يقتصر أثره على نفسه؛ بل إنه يتعدى إلى المجتمع الذي هو أحوج ما يكون إلى إحياء تلك المبادئ والقيم فيه حتى لا تندثر.
فإن وافق ذلك عند المسلم نية صالحة وقصداً حسناً؛ فقد وُفق لكل خير؛ وفاز بأجر من تابعه على ذلك؛ ومن هنا نعلم فضل الدعوة إلى التمسك بالآداب والحث عليها .
المصدر:
http://www.salemalajmi.com/main/play-315.htmlأما بعد:
فإن من تمام منة الله على أمة الإسلام أن وفقها لأهدى طريق وأقوم سبيل؛ وجعل لذلك الطريق علامات تهدي إليه وتدل عليه؛ من تمسك بها ظفر وفاز؛ وتميز على أقرانه غاية الامتياز؛ ومن ضل عنها فاته خير كثير؛ وتردى في ظلمات الجهل والتقصير.
ومن تلك العلامات الهادية إلى ذلك الهدف المراد؛ التمسك بالآداب الشرعية؛ التي دلت عليها نصوص الشريعة؛ واتصف بها العقلاء في كل زمن؛ من جملة الآداب التي بلغت بهم ذرى المجد ودرجات السؤدد.
فتعلم الآداب من الأمور المطلوبة شرعاً وعرفاً؛ والأدب يكون باستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً؛ والأخذ بمكارم الأخلاق؛ والوقوف عند كل وصف مستحسن؛ وكلما عظم أدب المرء كلما زاد قدره؛ وعلا شأنه؛ وعلى قدر اكتسابه من الآداب؛ على قدر ما يكون له من علو المنزلة؛ ومن أجل ذلك فقد تتابعت النصوص عن سلف الأمة الكرام تحث على اكتساب الآداب والاتصاف بها؛ لما يؤدي إليه ذلك من فتح أبواب الخيرات؛ وكونه سبيلاً لوقاية الدين من الآفات.
قال عمرt : « تأدبوا ثم تعلموا » ؛ وقال ابن عباس: «اطلب الأدب فإنه زيادة في العقل، ودليل على المروءة؛ مؤنس في الوحدة؛ وصاحب في الغربة؛ ومال عند القلة ».
وقال النخعي : « كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله ، ثم يأخذون عنه » .
وقال الإمام عبد الله بن المبارك : « لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه بالأدب »؛ ويروى عنه أيضاً أنه قال: « طلبت العلم فأصبت منه شيئاً ، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا ».
وقال أيضاً : « إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه وأتأسف على فوته»؛ وكان يقال: « العون لمن لا عون له الأدب » .
فينبغي لكل مؤمن أن يعمل بالآداب المحمودة في كل أحواله؛ وأن يجعل الأدب لباساً يلتحف به؛ فإنه ما ستر العيوب مثل جميل الأدب وحسن الخلُق. وعلى المرء أن يغرس الآداب في نفوس أبنائه ومن كانوا تحت يده من أول نشأتهم؛ فإنه مما لا يخفى على أحد أنه كلما كان التأديب على صغر السن كلما كان أحرى بأن يؤتي ثماره ولو بعد أمد؛ وإنما هو بذل لأسباب النجاة والأخذ بمكارم الصفات والأخلاق؛ ومرد الأمر إلى الله سبحانه؛ وقد كان يقال: الأدب من الآباء، والصلاح من الله .
وقد جاء عن علي t أنه قال في قول الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً )؛ قال: أدبوهم وعلموهم.
وقال محمد بن سيرين: « كانوا يقولون: أكرم ولدك وأحسن أدبه ».
فمن أدّب ابنه صغيراً قرت به عينه كبيراً ؛ ومن أدّب ابنه أرغم أنف عدوه؛ وما ورّثت الآباءُ الأبناءَ شيئاً أفضل من الأدب؛ فإنها إذا ورثتها الآداب كسبت بالآداب الأموال والجاه والإخوان والدين والدنيا والآخرة؛ وإذا ورثتها الأموال تلفت الأموال وقعدت عُدْما من الأموال والآداب.
قال الحسن: « التعلم في الصغر كالنقش في الحجر»؛ وهو ما أشار إليه القائل بقوله:
حرض بنيك على الآداب في الصغرِ
كيما تقر بهم عيناك في الكبرِ
وإنما مثل الآداب نجمعـــــــها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجرِ
وقال غيره :
قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في مهلٍ
وليس ينفع بعد الكِبْرَة الأدبُ
إن الغصون إذا قوَّمْتَها اعتدلت
ولا تلين إذا قومتَها الخشُبُ
ولما تولى الحجاج شؤون العراق؛ أمر العسس أن يطوفوا بالليل؛ فمن وجدوه ضربوا عنقه؛ فطاف العسس ذات ليلة فوجد ثلاثة صبيان؛ فقبض عليهم وسألهم: من أنتم حتى خالفتم أمر الأمير؟ فقال الأول:
أنا ابن من تخضع الرقابُ له
ما بين مخزومِها وهاشمِها
تأتيه بالذل وهي صاغرةٌ
يأخذ من مالِها ومن دمِها
فأمسك عن قتله وقال: لعله من أقارب الأمير.
وقال الثاني:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهرَ قدرُه
وإن نزلت يوماً فسوف تعودُ
ترى الناسَ أفواجاً إلى ضوء نارِه
فمنهم قيامٌ حولها وقعودُ
فتأخر عن قتله وقال: لعله من أشراف العرب.
وقال الثالث:
انا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه
وقوَّمَها بالسيف حتى استقامتِ
ركاباه لا تنفك رجلاه عنهما
إذا الخيل في يوم الكريهة ولّتِ
فترك قتله وقال: لعله من شجعان العرب.
فلما أصبح رفع أمرهم إلى الحجاج؛ فأحضرهم وكشف عن حالهم؛ فإذا بالأول ابن حجام؛ والثاني ابن فوال؛ والثالث ابن حائك .
فتعجب الحجاج من فصاحتهم وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب؛ فلولا فصاحتُهم لضُربت أعناقهم؛ ثم أمر بإطلاقهم .
وحُكِي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت عليه العرب، وهابوا أن يكلموه، فلما جلس إليهم دخلوا عليه وكان فيهم فتى يبلغ سنه أربع عشرة سنة؛ فنظر إليه هشامٌ والتفت إلى حاجبه وقال: ما شاء امرؤ أن يدخل عليّ حتى الصبيان؛ فوثب الفتى بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن دخولي عليك لم يحط بقدرك ولكنه شرفني؛ وإن هؤلاء الوفود ائتمنوني واتمُّوا بي؛ وقدموا في أمر فهابوك دونه؛ وإن للكلام نشراً وطياً، وإنه لا يُعرَف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرتُه، فأعجبه كلامه وقال له: انشره لله درك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه أصابتنا سنون ثلاث؛ سنة أذابت الشحم؛ وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين؛ فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟؛ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجل القوم.
كما أن الأدب يصقل العقول ويهذبها؛ فالعقل يحتاج إلى مادة من الأدب؛ كما تحتاج الأبدان إلى قُوتِها من الطعام؛ ولذا فقد قال عليّt : « الأدب كنز عند الحاجة؛ عون على المروءة؛ صاحب في المجلس؛ أنيس في الوحدة؛ تُعمَر به القلوب الضعيفة، وتحيا به الألباب الميتة؛ وينال به الطالبون ما حاولوا ».
وقيل لعبد الله بن المبارك : « ما خير ما أعطِيَ الرجل؟ قال: غريزة عقل . قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن . قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره . قيل: فإن لم يكن؟ قال: صَمْتٌ طويل . قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل » .
ومن فضائل الأدب أنه يرفع قدر صاحبه؛ فإن من كَثُر أدبُه كثر شرفه وإن كان وضيعاً، وبَعُد صيته وإن كان خاملاً؛ وساد وإن كان غريباً، وكثرت حوائج الناسِ إليه وإن كان فقيراً؛ والأدب يُحرز الحظ؛ ويؤنس الوحشة ؛ وينفي الفاقة؛ ويعرِّف النكرة؛ ويُثمِّر المكسبة؛ ويكمد العدو؛ ويُكسِب الصديق؛ ويكفي من شرف الأدب أن أهله متبوعون والناس تحت راياتهم؛ فيعطِّفُ ربك تعالى عليهم قلوباً لا تعطِّفُها الأرحام؛ وتجتمع بهم كلمة لا تأتلف بالغلبة؛ وتُبذل دونهم مهج النفوس .
ومن شرف الأدب أن يتشعب منه التشرفُ وإن كان صاحبه دنيّا؛ والعزُّ وإن كان صاحبُه مهيناً؛ والقربُ وإن كان صاحبه قصيّا؛ والغنى وإن كان صاحبه فقيراً؛ والنبلُ وإن كان صاحبه حقيراً؛ والمهابةُ وإن كان وضيعاً؛ والسلامةُ وإن كان سفيهاً؛ وسمع بعض الحكماء رجلاً يقول: أنا غريب؛ فقال: الغريب من لا أدب له .
لكل شيءٍ زينةٌ في الورى
وزينةُ المرءِ تمامُ الأدبْ
قد يشرفُ المرءُ بآدابِه
فينا وإن كان وضيعَ الأدبْ
وقيل: الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والحسب؛ ومن تأدب من غير أهل الحسب ألحقه الأدب بهم؛وقد دخل أبو العالية على ابن عباس فأقعده معه على السرير؛ وأقعد رجالاً من قريش تحته، فرأى سوء نظرهم إليه وحموضةَ وجوههم فقال: ما لكم تنظرون إليّ نظر الشحيح إلى الغريم المفلس، هكذا الأدب يشرِّفُ الصغيرَ على الكبير؛ ويرفعُ المملوكَ على المولى، ويقعدُ العبيدَ على الأسرَّة .
وقال الحجاج لخالد بن صفوان: « من سيدُ أهل البصرة؟ قال: الحسن البصري؛ قال: وكيف ذاك وهو مولى؟!. قال: احتاج الناس إليه في دينهم؛ واستغنى عنهم في دنياهم؛ وما رأيت أحداً من أشراف أهل البصرة إلا وهو يطلب الوصول في حلقته إليه؛ ليستمع قوله ويكتب علمه؛ قال الحجاج: هذا والله السؤدد » .
وكم نحن بحاجة في هذه الأزمان التي ضعف بها التمسك بالآداب كثيراً؛ لأناس يتصفون بتلك الأخلاق التي تقودهم لكل خير؛ حتى يصبحوا قدوة لغيرهم؛ ومنارات هدى لمن يتأثر بهم؛ فإن المتصف بذلك لا يقتصر أثره على نفسه؛ بل إنه يتعدى إلى المجتمع الذي هو أحوج ما يكون إلى إحياء تلك المبادئ والقيم فيه حتى لا تندثر.
فإن وافق ذلك عند المسلم نية صالحة وقصداً حسناً؛ فقد وُفق لكل خير؛ وفاز بأجر من تابعه على ذلك؛ ومن هنا نعلم فضل الدعوة إلى التمسك بالآداب والحث عليها .
المصدر: