حقيقة البركة وبما تنال
وهي مطلب عظيم رفيع وكلٌّ يرجو أن تحلَّ عليه بركة يسعد بها في دنياه وأخراه ويهنأ بها في معاشه ومعاده ويوم يلقى ربه وسيده ومولاه.
والبركة منَّة الله على من شاء من عباده فهي بيده سبحانه وتعالى إذ أزمّة الأمور كلِّها بيده جلّ وعلا (( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) [ فاطر: 1 ] وهو سبحانه الذي يبارك من شاء قال جل وعلا فيما ذكره عن عيسى عليه السلام قال: (( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)) [ مريم: 31 ] ولا تُنال إلا بطاعته عزّ وجلّ واتباع رضاه، والبعد عن عِصيانه (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))[ الأعراف: 96 ].
فبهذين (آمَنُوا وَاتَّقَوْا)تُنال البركة، فلا يحصِّلها العبد إلا بإيمانه بالله ويأتي في مقدّمة ذلك الإيمان بأصول الإيمان العظام: بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. فكلما عَمُر القلب بالإيمان تحقيقاً وتكميلاً وتتميماً تنزلت عليه من البركة منًّا من الله وتفضّلا بحسب ذلك.
وبتقوى الله جلّ وعلا فعلا للأوامر وتركا للنواهي؛ إذ تقوى الله جلّ وعلا ليست قولا يقوله الإنسان بلسانه أو دعوى يدعيها وإنما حقيقتها: عمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله, وترك معصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله.
فمن أراد البركة لنفسه وأهله وبيته وماله وولده فليُقبل على الله عز وجل عابدا مطيعا وليعتن بذكره جل وعلا حمدا وتسبيحا وتلاوة لكلامه، وليحافظ على الصلاة وكذا عموم الطّاعات؛ كبرِّ الوالدين, وصلة الأرحام والإحسان إلى الناس, وكذلكم أكل الحلال واجتناب الحرام, وتجنب الآثام, والبعد عن كل ما يسخط الله جل وعلا.
فإن المعاصي ممحقة للبركة, قال الله تعالى: ((يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)) [البقرة: 276]، وقال عليه الصلاة والسلام عن الحلف في البيع قال: "منفقة للسلعة ممحقة للبركة" فالبركة تمحق بالكذب والغش وخداع الناس والمكر والتدليس والتلبيس, وتنال بالصدق والوفاء والإحسان وحسن المعاملة وطيب الكلام وغير ذلك من أبواب الإحسان.
ومما تنال به البركة المحافظة على التبكير، فالبكور بركة وقد قال عليه الصلاة والسلام: "بورك لأمتي في بكورها"، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا" فالتبكير والغدو ومجاهدة النفس على حسن العمل مع تمام التوكل على الله وحسن الاعتماد عليه كل ذلك من أسباب نيل البركة من الله جلّ وعلا, ومن أعظم ذلك التوجه الصادق إلى الله الذي بيده البركة سبحانه بالدّعاء بأن يُبارك في الأهل والمال والولد، وهو سبحانه لا يرد عبدا دعاه ولا يخيب مؤمنا ناجاه وفي الدّعاء المأثور: "اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا".
والله جلّ وعلا جعل في الأزمنة والأمكنة بركة؛ خصّها جل وعلا بذلك وميّزها به, ففي الأزمنة رمضان شهر مبارك وليلة القدر أبرك الليالي, وفي الأمكنة المسجد الحرام مكان مبارك، والله جل وعلا قال عن المسجد الأقصى: ((الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [ الإسراء: 1 ] وعموم المساجد أماكن مباركة هي أحبّ البقاع إلى الله جل وعلا, والبركة في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة لا تنال إلا بطاعة الله فيها وفعل ما أمر سبحانه في ضوء شرعه وهدي رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولكن عندما يغيب العلم ويتوافر الجهل في الناس تغيب عنهم حقيقة طلب البركة ووسيلة نيلها فتتحول إلى نوع من الممارسات الخاطئة والأعمال الجاهلية التي يفعلها بعض الناس ظنا منهم أنها وسيلة لاستجلاب البركة، روى الترمذي في "جامعه" وصحّحه عن أبي واقد الليثيّ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر فمررنا على سِدرة للمشركين - أي شجرة – يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم - أي يعلقون أسلحتهم - فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر - وفي رواية قال: سبحان الله - قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: ((اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [ الأعراف: 138 ] لتركبنّ سنناً من كان قبلكم".
ولنتأمّل هذا الحديث العظيم في بيان هذا العمل المنكر الذي كان عليه أهل الجاهلية في البقاع التي يتوهمون فيها بركة أو يظنون أنها مصدر ومنبع لها، فهذه سِدرة لهم ينوطون بها أسلحتهم ويعكفون عندها ـ والعُكوف هو المكث الطويل رجاء نيل البركة ـ, وكذلك تعليق الأسلحة لنيل البركة من جهتها فوقع هؤلاء في ثلاثة أخطاء جسام في باب البركة والتبرك:
الخطأ الأول: تعظيمهم لهذه السدرة تعظيما لا يليق إلا بالله.
والخطأ الثاني: عكوفهم عندها رجاء البركة من جهتها.
والخطأ الثالث: تعليق أسلحتهم بها لتنالهم بركتها.
فهذه الأخطاء والممارسات تنشأ عندما يكون الإنسان على جاهلية جهلاء وضلالة عمياء ولهذا اعتذر أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال: "كنا حدثاء عهد بكفر" أي نجهل تفاصيل الإسلام وأحكامَ الشريعة ولذا طلبنا من النبي عليه الصلاة والسلام ما طلبنا, أما من تمكّن من التوحيد وعرف جوانبه على التمام والوفاء وعرف أسباب الشرك ووسائله فإنه لا يقول مثل هذا.
وبهذا نعلم أن البركة لا تُنال إلا من الله ولا يظفر بها إلا بطاعة الله ولزوم شرعه لا أن يذهب الإنسان مذهبا بعيدا منحرفا فاسدا في طلبه للبركة بالتوجه إلى بقاع معينة إما أن يعكف عندها أو أن يتمسَّح بها أو أن يأخذ من تربتها أو نحو ذلك من الممارسات الجاهلية التي ليست هي سببا لنيل البركة بل هي سبب لمحقها لأنه شرك بالله وهو أعظم ما تمحق به البركة ، لأنه أعظم الذنوب وأخطرها وأشنعها وأفظعها.
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبارك لنا أجمعين في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذريتنا ، وأن يعيذنا سبحانه من أسباب محق البركة إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.