قام بنسخ المادة الأخ : أبو إسحاق الورقلي جزاه الله خيرا
خطر التعالم وضرره(1)
[color="black"]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فاعلم أرشدني الله و إياك لمعرفة الحق والعمل به أن الشيء إنما يعظم قدره بسليم كنهه وماهيته وعميم خيره ونفعه وعظيم أثره ، كذلك – بالمقابل المضاد – يعظم جرمه بفساد ماهيته وتضرر العباد بضرره وأثره ، فالضرر يزال وذرائعه تسد ، وان من أعظم مبادئ الشريعة الغراء وأكرم مقاصدها السمحاء القائمة على المحجة البيضاء جلب المصالح ودرء المفاسد فقعدت لذلك قواعد دقيقة وقررت وسائل وثيقة ، وكم من مفسدة ظنها الناس هينة وكانت المفاسد منها ناشئة وفيها مجتمعة ظاهرها مغر وباطنها مضر مؤذ ، ومن أجل صيانة العباد من الأضرار وحمايتهم من الأخطار أمر الشارع الحكيم بترك كل ما غلبت عليه شوائب الفساد وشوهته دخائن أدران الكساد ، فلا يؤخذ الشيء إلا إذا تمحض حسنه وتمحص في معينه وتمخض به في مناهله ، فإذا علمنا كون العلم نورا وهدى وسبيل العباد إلى السعادة في الدنيا والآخرة والاستقامة على الجادّة السنّية وسلّم الارتقاء والسناء ومنافعه كثيرة من غير احصاء ومقاصد شريفة وعزيزة بلا مراء ، وحملته علماء حلماء ، وبلّغوه حكماء نزهاء ، ومن أجل صيانته من البعث والتحريف قّيض الله له حفظة عدولا أمناء ، ينفون عنه تحريف الغلاة ودعاوى وتخريف الجهلاء ، ويكشفون عن خزايا المتعلمين والدخلاء ، قال ابن حزم رحمه الله { لا آفة على العلوم وأهلها أضّرمن الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون }.
فالعلم ميراث الأنبياء تركوه أمانة في كنف العلماء – وليس غير العلماء – فكانوا عن حياضه ذا ّبين ولما لايمت له بصلة رادين ، ولمن تجاسرو وغامر في رحابه من المتعاملين محذّرين ، وله منذرين من سوء العاقبة يوم الدين وشّدة عقوبة رب العالمين ، إن في ذلك لذكرى للناس أجمعين فضلا عن المتعلمين .
وإن للتعالم أضرارا وخيمة ومفاسد جسيمة ممتدّة أثارها فكانت بشّى الفنون والعلوم ملمّة وعميمة وهو سوء حلة وذميمة ، فقد طال التعالم النقول تحريفا وانتحالا وتلفيقا وكذبا نال العقول تصريفا وتخريفا ، فصال في العالم مغربا ومشرقا فيغتر الناس بما تكسبه كلماته تزيينا وتنميقا ، فترى العامي إذا سمع المتعالم يجيش بتعالمه الكذاب ويبوؤه منزلة ذوي الألباب وهو منه محل أعجاب وأنّه حامل فقه السنة والكتاب ، وأهل للحديث والفتيا في كل باب ، وأثره خطير على الفكر والكتاب قال قتادة رحمه الله : { من حدث قبل حينه افتضح في حينه } .
وذلك بكشف الأجلّة عن حقيقته وهتك باطله وما ينطوي عليه من خسف وإفك ومسلك مرد فجّ تبيانا لنزع الثقة منه والتحذير من الاغترار به ، وهذا واجب أهل الإسلام أمام كلّ متعالم يدّعي العلم وليس بعالم ، أخذا بحجزهم عن النار ، وتبصيرا لهم بوضع الأقدام ، ودفعا لسيل تعالمهم الجرار كفاحا عن بيضة الإسلام وصرحة الممرّد من كل متمرّد صيانة لذويه عن التذبذب و الانفصام والتبدد والانقسام بسيرورة التعالم بين العباد وهذا عين الحكمة والسداد ، وصدق النصح والرشاد ، وحسن توجيه السواد ، ودفع عنهم كل ما يفسد عليهم صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، فكما يحجر على الطبيب المتعالم لصالح الأبدان فإن من باب أولى وأحرى أن يحجر على العالم والفتي المتعالم من الفتيا والتوجيه لصالح الديانة ، إذ الأبدان في خدمة الأديان ، قال صلى الله عليه وسلم : { من تطّبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن } [السلسة الصحية (رقم 645) ] ، وقال في الثاني سبحانه وتعالى{وَلاَ تَقْفٌ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ٌ إنَ السَمْعَ وَ البَصَرَ والفٌؤَادَ كٌلُ أُلاَئِكَ كَانَ عنْه ُ مَسْؤولاََ } [ الاسراء 36] ففي هذين النصين الوحيين زواجر وقوارع لخوارم المتعاملين المتلاعبين بكتاب رب العالمين والمستهزئين بسنّة سيد المرسلين والمدلّسين على عوام المسلمين ، ألا يخاف هؤلاء يوم يبعثهم الله يوم الدين ويسألهم أجمعين ، عمّا قالوه وكانوا له عاملين ، { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق : 37]
ولا يخفى على الأريب أن التعالم ذريعة وعتبة الولوج في مجال قد لا يجد بعده سبيلا للخروج منه بحال ، ولقد ذكر الكثير من العلماء أكثر من مقال محذّرين الأمة من خطر التقول على الله ولانتحال ، ولقد عدّ الله تعالى التقول عليه بلا علم جرما عظيما وإثما جسيما فقال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركو ا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [الأعراف : 33] فقد ذكر في هذه الأية تلك المحرمات الأربع مرتبطة على سبيل التعالي باعتبار ما في كل واحدة من التأذي والتعدي فبدأ بالفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم ذكر ما هو أشد منها وأفحش وهو الإثم والبغي بغير الحق فذكر بعدها ما هو أعظم وأدق ثم بعد ذلك ذكر ما كان سببا و لأصلا لكل الموبقات والسيئات فبد القول على الله بلا علم من أعظم تلك الجنايات ويتعد ضررها إلى أعلم المجلات نسأله الله العصمة من هذه الطامات .
ولقد تظاهر الشكوى منهم على مدى العصور وتظافرت الفتوى في الحجر عليهم درء لما فيهم من الشرور وتناقلت المحتوى شتّى الصحائف والسطور ونذكر
بعض ذلك ترشيدا للعقل وإثلاجا للصدر ونعوذ بالله من الحور بعد الكور ، ونسأل الخلاص يوم النشور ، وهو على ذلك جدّ مشكور فان من ظواهر التعالم :
1- التزيد في الكلام والمجاهرة بمخالفة الأعلام بدعوى أنه على علم بدقائق الأفهام ، وسلامة فكر المتأخرين في موافقة نهج المتقدمين ، قال أبو اسحاق الشاطبي رحمه الله : { قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا مما أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطا أو مغالطة }{ التعالم (ص42) } ، فليس العبرة بكثرة القيل والقال وإنما العبرة بما هو عليه القول من الحال فرحمه الله على ابن القيم حيث قال : { كلام المقدمين قليل فيه البركة وكلام المتأخرين كثير قليل البركة }. ولقد جمع الحفاظ ابن رجب رحمه الله تعالى أقوالا نافعة وماتعة في الباب وجعلها محتوى الكتاب المرسوم ( بفضل علم السلف على الخلف ) .
2- التجرؤ على الفتيا : فتراهم – المتعالمين – يسارعون إلى الكلام في مسائل يتوقف فيها شيوخ الإسلام وأئمة الأعلام قال ابن القيم رحمه الله :{ قل من حرس على الفتيا وسابق اليها ، وثابر عليها إلى قل توفيقه واضطرب أمره ، وان كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد ممدوحةعنه ، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره ، كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب}(بدائع الفوائد {3/277 } ) ، فإذا كان المتعاملون يقولون مالا يعلمون ويهرفون بما لا يعرفون ويسرون بذلك ويفرحون ، فإن كثيرا من العلماء عليهم يشفقون ومن تعالمهم يتعجبون بل يبكون .
ذكر أبو عمر عن مالك : أخبرني رجل انه دخل على ربيعة فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ أمصيبة دخلت عليك ؟ و ارتاع لبكائه ، فقال : لا ولكن أستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ، قال ربيعة ( ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السراق ) قال بعض أهل العلم فكيف لو راى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا ، وتوثبه عليها ، ومدى باع التكليف اليها ، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة وهو من بين أهل العلم منكر وغريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وأثارالسلف نصيب ، وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل ، وبالمناصب لا بالأهلية ، قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم ومسارعة أجهل منهم إليهم ، تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا .
فمن أقدم بالجرأة على ماليس له بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس إستحق اسم الذم ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه هذا حكم دين الإسلام .
وإن رغمت أنوف من أناس ** فقل يارب لا ترغم سواها
فإذا كان المتعالمون لا لا يتورعون ولا من الله تعالى يستحون ولا عاقبة يخشون ويخافون وذلك بما هم على الله يقولون ما لا يعلمون ، فإن غيرهم من العلماء كانو مع علمهم يسكتون ولا ينطقون و الفتوى لبعضهم بعضا يدفعون ، ولمؤنتها يكفون وهم عالمون ، ومن قول لا أدري لا يستنكفون ، وعدم الاجابة لا يستحبون فهذا ثعلب إمام الكوفيين – رحمه الله – سأله سائل عن شيء فقال لا أدري فقال له لا أدري فقال له : أتقول لا أدري واليك تضرب الأكباد الإبل ، وإليك الرحلة من كل بلد ؟ فقال ثعلب : لو كان لأمك بعدد لا أدري بعر لاستغنت وهذا الإمام الشعبي – رحمه الله – روي أنه قيل له ::{ إن نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول لا أدري ، فقال : لكن ملائكة الله المؤمنين لم يستحوا إذا سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا : ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) }.