تقويم النَّفس ومحاسبتها لمعرفة ما لها وما عليها
الشيخ محمد الوزاني
إنَّ النَّاس يوم القيامة فريقان؛ منهم من يُحاسب حسابًا يسيرًا، ومنهم من يُحاسب حسابًا عسيرًا.
فمن عسر عليه الحساب هَلَكَ وخسر، ومن يُسِّر له فاز وسرر.
فعن الفريق الأول يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق:10 ـ 13] ويقول سبحانه عن الفريق الثَّاني: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق:7 ـ 9].
وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معنى الحساب اليسير والحساب العسير؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير؟ فقلت: يا رسول الله! ما الحساب اليسير؟ فقال: «الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ ثُمَّ يتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ وَلاَ يُصِيبُ عَبْدًا شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ قَاصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بهَا مِنْ خَطَايَاهُ»([1]).
فهل تعرف ـ أيُّها المسلم! ـ ما هي الأسباب الَّتي تجعل حسابك يوم القيامة يسيرًا؟
إنَّها كثيرة ومتعدِّدة، ولكن أعظمها وأساسها محاسبة النَّفس في الدُّنيا.
قال الحسن البصري رحمه الله: «المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنَّما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدُّنيا، وإنَّما شقَّ الحسابُ يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة»([2]).
إنَّ محاسبة النَّفس من أوكد الواجبات، قال ابن القيِّم رحمه الله: «قد دلَّ على وجوب محاسبة النَّفس قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [الحشر:18]، يقول تعالى: لينظرْ أحدكم ما قدَّم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصَّالحات الَّتي تنجيه، أم السَّيِّئات الَّتي توبقه؟
قال قتادة: ما زال ربُّكم يقرِّب السَّاعة حتَّى جعلها كغد.
والمقصود أنَّ صلاح القلب بمحاسبة النَّفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها» ([3]).
فيا عبد الله! حاسب نفسك في خلوتك، وتفكَّر في انقراض مدَّتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شغلك، وتدبَّر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، وانظر هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك.
لقد سعد من حاسبها، وفاز ـ والله! ـ من جاهدها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلَّما ونت عاتبها، وكلَّما توقَّفت جذبها، وكلَّما نظرت في آمال هواها غلبها.
فاتَّخذْ ـ أيُّها المسلم! ـ وقتًا تخلو فيه بنفسك، تنظر في أصناف أفعالها، ظاهرها وباطنها، وتحاسبها، فإنَّ هذا من شِيَمِ العقلاء النُّبهاء.
عن وهب بن منبِّه قال: «مكتوب في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل أن لا يَغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الَّذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويجمل، فإنَّ في هذه السَّاعة عونًا على تلك السَّاعات، وإجمامًا للقلوب » ([4]).
إنَّ نفسك قد تكون من جندك، كما قد تكون من أعدائك.
فإنْ حاسبتها سَلِمْتَ من شرِّها وأدخلتها في صفِّك، وإن خلَّيتها وأهملتها استأسدت وسلَّت سيف بَغْيها عليك فيوشك أن تقتلك أو ترديك.
قال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقيًّا حتَّى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشَّريك لشريكه.
ولهذا قيل: النَّفس كالشَّريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك» ([5]).
كيف يحاسب الشَّريك شريكه؟
إنَّه ينظر في رأس ماله؛ فإن وجده زكَا ونَمَا؛ فهذا يعني أنَّه قد ربح، فيقتسم الرِّبح مع شريكه، وإن وجد نقصًا في رأس ماله؛ فهذا يعني أنَّه خسر؛ فيطالب شريكه بضمانه ويكلِّفه بتداركه في المستقبل.
فكذلك ينبغي أن يكون المسلم مع نفسه، يسألها عن رأس ماله؛ ماذا فعلت فيه؟ ورأس مال العبد في دينه (الفرائض)، وربحه (النوافل والفضائل)، وخسارته (تضييعه لذلك وتعديه لحدود الله)، وموسم هذه التِّجارة اللَّيل والنَّهار.
فمحاسبة العبد لنفسه: أن ينظر ما حظُّه من هذه التِّجارة؟ وأين موقعه منها؟ هل هو من الحافظين لحدود الله والمؤدِّين لفرائضه؟ أم أنَّه من المضيِّعين؟
فيشكر ربَّه على توفيقه ويسأله الثَّبات والمزيد، وليتب إليه ويستغفره على التَّفريط والتَّقصير.
إنَّ الرِّبح في هذه التِّجارة به تُنال السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، وهل هناك سعادة أعظم من نيل محبَّة الله تعالى؟! وهل هناك سعادة أعظم من أن يكون العبد وليًّا لله سبحانه؟!
ألا تعلم ـ يا عبد الله! ـ بأنَّ من أدَّى الفرائض وتطوَّع بالنَّوافل؛ أحبَّه الله تعالى، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطَيَنَّهُ، ولئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مسَاءَتَهُ » ([6]).
إنَّ سلفنا الصَّالح ضربوا لنا أروع الأمثلة في محاسبة النَّفس لمن يريد أن يقتدي، وأخبارهم في ذلك كاللآلئ والحليِّ، زُيِّنت بها بطون الكتب.
ولقد انتقيت منها ما يناسب المقام:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وخرجت معه حتَّى دخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط:
«عمر بن الخطاب أميرُ المؤمنين بخ بخٍ، والله لتتَّقينَّ الله ـ ابن الخطاب! ـ أو ليعذِّبنَّك»([7]).
عن سلمة بن منصور، عن مولى لهم كان يصحب الأحنف ابن قيس قال: كنت أصحبه فكان عامَّة صلاته الدُّعاء، وكان يجيء المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حس! ثمَّ يقول: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟!
وعن زائدة بن قدامة قال: كان منصور بن المعتمر إذا رأيتَه؛ قلتَ: رجلٌ قد أصيب بمصيبة، ولقد قالت له أمُّه: ما هذا الَّذي تصنع بنفسك؟! تبكي اللَّيل عامَّته، لا تكاد أن تسكت، لعلَّك يا بنيَّ! أصبت نفسًا، أقتلت قتيلاً! فيقول: «يا أمَّاه! أنا أعلم بما صنعت نفسي»([8]).
وقال محمَّد بن المنكدر: إنِّي خلفت زياد بن أبي زياد مولى ابن عيَّاش وهو يخاصم نفسه في المسجد يقول: «اجلسي أين تريدين؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه؛ تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان؟»([9]).
ومن محاسبة النَّفس: عرض أفعالها على كتاب الله تعالى، ليعلم العبد أهو من الَّذين أحسنوا فلهم عند الله الحسنى وزيادة؟ أم أنَّه من الَّذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئات؟
وقد ذكر ابن نصر المروزي في كتابه «مختصر قيام الليل» (ص23) عن الأحنف بن قيس قصَّةً في هذا المعنى، فيها ذكرى وموعظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد.
فعنه «أنَّه كان جالسًا يومًا، فعرضت له هذه الآية: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾ [الأنبياء:10]، فانتبه فقال: عليَّ بالمصحف، لألتمس ذكري اليوم حتَّى أعلم مع من أنا ومن أشبه، فنشر المصحف فمرَّ بقوم: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم﴾ [الذاريات: 17 ـ 19]، ومر بقوم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾ [السجدة:16]، ومرَّ بقوم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان:64]، ومرَّ بقوم: ﴿... يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ [آل عمران:134]، ومرَّ بقوم: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ [الحشر:9]، ومرَّ بقوم: ﴿... يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾ [الشورى:37 ـ 38].
قال: فوقف، ثمَّ قال: اللَّهمَّ لست أعرف نفسي ههنا.
ثمَّ أخذ في السَّبيل الآخر، فمرَّ بقوم: ﴿... كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون﴾ [الصافات:35 ـ 36]، ومرَّ بقوم: ﴿... وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون﴾[الزُّمَر:45]، ومرَّ بقوم يقال لهم: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين﴾ [المدَّثر:42 -47].
قال: فوقف، ثمَّ قال: اللَّهم إنِّي أبرأ إليك من هؤلاء.
قال: فما زال يقلِّب الورق ويلتمس حتَّى وقع على هذه الآية: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾ [التوبة:102]، فقال: اللهم هؤلاء».
فيا عبد الله! إذا أردت أن تعرف قيمة هذه الحياة، وإذا أردت أن تعرف أعزَّ وأغلى ما فيها وما هو حريٌّ بأن تطلبه وتسعى في تحقيقه وتبذل النَّفس والنَّفيس في سبيل ذلك؛ تصوَّر لو مثِّلت لك نفسك في الجنَّة تأكل ثمارها وتشرب من أنهارها وتعانق أبكارها، ثمَّ مثِّلت لك نفسك في النَّار تأكل من زقُّومها وتشرب من حميمها وتعالج سلاسلها وأغلالها؛ فلو سألت نفسك حينئذ وقلت لها: أيْ نفسي! أيُّ شيء تريدين؟
فإنَّها تقول لك لا محالة: أريد أن أردَّ إلى الدُّنيا فأعمل صالحًا، فأنت في الأمنية فاعمل([10]).
والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه أحمد (25515)، وابن حبَّان (16/372)، وابن خزيمة (2/30)، والحاكم (4/249)، قال الشَّيخ الألباني : في «ضعيف أبي داود»: «إسناده حسن».
[2]«المصنف» لابن أبي شيبة (36375)، و«الزهد» لابن المبارك (307).
[3] «إغاثة اللهفان» (1/84).
[4] «الزهد» لابن المبارك (313).
[5] «محاسبة النفس» لابن أبي الدنيا (ص15).
[6] أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ا.
[7] «الموطأ» (1800)، و«الزهد» لأحمد(597).
»[8]شعب الإيمان» (813)
[9]() «شعب الإيمان» (529.
[10] من كلام إبراهيم التيمي، انظر «صفة الصفوة» (3/90 ـ 91).
الشيخ محمد الوزاني
إنَّ النَّاس يوم القيامة فريقان؛ منهم من يُحاسب حسابًا يسيرًا، ومنهم من يُحاسب حسابًا عسيرًا.
فمن عسر عليه الحساب هَلَكَ وخسر، ومن يُسِّر له فاز وسرر.
فعن الفريق الأول يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق:10 ـ 13] ويقول سبحانه عن الفريق الثَّاني: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق:7 ـ 9].
وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معنى الحساب اليسير والحساب العسير؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير؟ فقلت: يا رسول الله! ما الحساب اليسير؟ فقال: «الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ ثُمَّ يتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ وَلاَ يُصِيبُ عَبْدًا شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ قَاصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ بهَا مِنْ خَطَايَاهُ»([1]).
فهل تعرف ـ أيُّها المسلم! ـ ما هي الأسباب الَّتي تجعل حسابك يوم القيامة يسيرًا؟
إنَّها كثيرة ومتعدِّدة، ولكن أعظمها وأساسها محاسبة النَّفس في الدُّنيا.
قال الحسن البصري رحمه الله: «المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنَّما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدُّنيا، وإنَّما شقَّ الحسابُ يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة»([2]).
إنَّ محاسبة النَّفس من أوكد الواجبات، قال ابن القيِّم رحمه الله: «قد دلَّ على وجوب محاسبة النَّفس قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [الحشر:18]، يقول تعالى: لينظرْ أحدكم ما قدَّم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصَّالحات الَّتي تنجيه، أم السَّيِّئات الَّتي توبقه؟
قال قتادة: ما زال ربُّكم يقرِّب السَّاعة حتَّى جعلها كغد.
والمقصود أنَّ صلاح القلب بمحاسبة النَّفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها» ([3]).
فيا عبد الله! حاسب نفسك في خلوتك، وتفكَّر في انقراض مدَّتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شغلك، وتدبَّر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، وانظر هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك.
لقد سعد من حاسبها، وفاز ـ والله! ـ من جاهدها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلَّما ونت عاتبها، وكلَّما توقَّفت جذبها، وكلَّما نظرت في آمال هواها غلبها.
فاتَّخذْ ـ أيُّها المسلم! ـ وقتًا تخلو فيه بنفسك، تنظر في أصناف أفعالها، ظاهرها وباطنها، وتحاسبها، فإنَّ هذا من شِيَمِ العقلاء النُّبهاء.
عن وهب بن منبِّه قال: «مكتوب في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل أن لا يَغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الَّذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويجمل، فإنَّ في هذه السَّاعة عونًا على تلك السَّاعات، وإجمامًا للقلوب » ([4]).
إنَّ نفسك قد تكون من جندك، كما قد تكون من أعدائك.
فإنْ حاسبتها سَلِمْتَ من شرِّها وأدخلتها في صفِّك، وإن خلَّيتها وأهملتها استأسدت وسلَّت سيف بَغْيها عليك فيوشك أن تقتلك أو ترديك.
قال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقيًّا حتَّى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشَّريك لشريكه.
ولهذا قيل: النَّفس كالشَّريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك» ([5]).
كيف يحاسب الشَّريك شريكه؟
إنَّه ينظر في رأس ماله؛ فإن وجده زكَا ونَمَا؛ فهذا يعني أنَّه قد ربح، فيقتسم الرِّبح مع شريكه، وإن وجد نقصًا في رأس ماله؛ فهذا يعني أنَّه خسر؛ فيطالب شريكه بضمانه ويكلِّفه بتداركه في المستقبل.
فكذلك ينبغي أن يكون المسلم مع نفسه، يسألها عن رأس ماله؛ ماذا فعلت فيه؟ ورأس مال العبد في دينه (الفرائض)، وربحه (النوافل والفضائل)، وخسارته (تضييعه لذلك وتعديه لحدود الله)، وموسم هذه التِّجارة اللَّيل والنَّهار.
فمحاسبة العبد لنفسه: أن ينظر ما حظُّه من هذه التِّجارة؟ وأين موقعه منها؟ هل هو من الحافظين لحدود الله والمؤدِّين لفرائضه؟ أم أنَّه من المضيِّعين؟
فيشكر ربَّه على توفيقه ويسأله الثَّبات والمزيد، وليتب إليه ويستغفره على التَّفريط والتَّقصير.
إنَّ الرِّبح في هذه التِّجارة به تُنال السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، وهل هناك سعادة أعظم من نيل محبَّة الله تعالى؟! وهل هناك سعادة أعظم من أن يكون العبد وليًّا لله سبحانه؟!
ألا تعلم ـ يا عبد الله! ـ بأنَّ من أدَّى الفرائض وتطوَّع بالنَّوافل؛ أحبَّه الله تعالى، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطَيَنَّهُ، ولئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مسَاءَتَهُ » ([6]).
إنَّ سلفنا الصَّالح ضربوا لنا أروع الأمثلة في محاسبة النَّفس لمن يريد أن يقتدي، وأخبارهم في ذلك كاللآلئ والحليِّ، زُيِّنت بها بطون الكتب.
ولقد انتقيت منها ما يناسب المقام:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وخرجت معه حتَّى دخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط:
«عمر بن الخطاب أميرُ المؤمنين بخ بخٍ، والله لتتَّقينَّ الله ـ ابن الخطاب! ـ أو ليعذِّبنَّك»([7]).
عن سلمة بن منصور، عن مولى لهم كان يصحب الأحنف ابن قيس قال: كنت أصحبه فكان عامَّة صلاته الدُّعاء، وكان يجيء المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حس! ثمَّ يقول: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟!
وعن زائدة بن قدامة قال: كان منصور بن المعتمر إذا رأيتَه؛ قلتَ: رجلٌ قد أصيب بمصيبة، ولقد قالت له أمُّه: ما هذا الَّذي تصنع بنفسك؟! تبكي اللَّيل عامَّته، لا تكاد أن تسكت، لعلَّك يا بنيَّ! أصبت نفسًا، أقتلت قتيلاً! فيقول: «يا أمَّاه! أنا أعلم بما صنعت نفسي»([8]).
وقال محمَّد بن المنكدر: إنِّي خلفت زياد بن أبي زياد مولى ابن عيَّاش وهو يخاصم نفسه في المسجد يقول: «اجلسي أين تريدين؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه؛ تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان؟»([9]).
ومن محاسبة النَّفس: عرض أفعالها على كتاب الله تعالى، ليعلم العبد أهو من الَّذين أحسنوا فلهم عند الله الحسنى وزيادة؟ أم أنَّه من الَّذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئات؟
وقد ذكر ابن نصر المروزي في كتابه «مختصر قيام الليل» (ص23) عن الأحنف بن قيس قصَّةً في هذا المعنى، فيها ذكرى وموعظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد.
فعنه «أنَّه كان جالسًا يومًا، فعرضت له هذه الآية: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾ [الأنبياء:10]، فانتبه فقال: عليَّ بالمصحف، لألتمس ذكري اليوم حتَّى أعلم مع من أنا ومن أشبه، فنشر المصحف فمرَّ بقوم: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم﴾ [الذاريات: 17 ـ 19]، ومر بقوم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾ [السجدة:16]، ومرَّ بقوم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان:64]، ومرَّ بقوم: ﴿... يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ [آل عمران:134]، ومرَّ بقوم: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ [الحشر:9]، ومرَّ بقوم: ﴿... يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾ [الشورى:37 ـ 38].
قال: فوقف، ثمَّ قال: اللَّهمَّ لست أعرف نفسي ههنا.
ثمَّ أخذ في السَّبيل الآخر، فمرَّ بقوم: ﴿... كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون﴾ [الصافات:35 ـ 36]، ومرَّ بقوم: ﴿... وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون﴾[الزُّمَر:45]، ومرَّ بقوم يقال لهم: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين﴾ [المدَّثر:42 -47].
قال: فوقف، ثمَّ قال: اللَّهم إنِّي أبرأ إليك من هؤلاء.
قال: فما زال يقلِّب الورق ويلتمس حتَّى وقع على هذه الآية: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾ [التوبة:102]، فقال: اللهم هؤلاء».
فيا عبد الله! إذا أردت أن تعرف قيمة هذه الحياة، وإذا أردت أن تعرف أعزَّ وأغلى ما فيها وما هو حريٌّ بأن تطلبه وتسعى في تحقيقه وتبذل النَّفس والنَّفيس في سبيل ذلك؛ تصوَّر لو مثِّلت لك نفسك في الجنَّة تأكل ثمارها وتشرب من أنهارها وتعانق أبكارها، ثمَّ مثِّلت لك نفسك في النَّار تأكل من زقُّومها وتشرب من حميمها وتعالج سلاسلها وأغلالها؛ فلو سألت نفسك حينئذ وقلت لها: أيْ نفسي! أيُّ شيء تريدين؟
فإنَّها تقول لك لا محالة: أريد أن أردَّ إلى الدُّنيا فأعمل صالحًا، فأنت في الأمنية فاعمل([10]).
والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه أحمد (25515)، وابن حبَّان (16/372)، وابن خزيمة (2/30)، والحاكم (4/249)، قال الشَّيخ الألباني : في «ضعيف أبي داود»: «إسناده حسن».
[2]«المصنف» لابن أبي شيبة (36375)، و«الزهد» لابن المبارك (307).
[3] «إغاثة اللهفان» (1/84).
[4] «الزهد» لابن المبارك (313).
[5] «محاسبة النفس» لابن أبي الدنيا (ص15).
[6] أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ا.
[7] «الموطأ» (1800)، و«الزهد» لأحمد(597).
»[8]شعب الإيمان» (813)
[9]() «شعب الإيمان» (529.
[10] من كلام إبراهيم التيمي، انظر «صفة الصفوة» (3/90 ـ 91).