الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
آداب العزلة وقيودها:
العزلة لاتنفع جميع الناس, وهي نافعة لأصحاب العلم والهمم العالية,الذين يعرفون ما لهم وما عليهم,وقد صدق من قال :"العزلة بغير عين العلم(زلّة).وبغير زاي الزهد( علّة)"
وقال الخطابي:"فالعزلة انما تنفع العلماء العقلاء ,وهي من أضر شيءعلى الجهال"
والعزلة لا تكون الا في حق "من لم يتعين عليه فرض, من جهاد أو تغيير منكر وتعلم وتعليم ,أو مانع شرعي ممن يجب طاعته شرعا , من أحد الوالدين,أوامام,أو خصم له حق واجب , أو حق مسلم لازم أو راجح ,لم تعارضه خوف فتنة في الدين , فينبغي من حد صاحب (الخلوة)أن لا يصل الى حد العقوق والجفاء ,والله المستعان ما لم تخف فتنة"
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني:"ولو اعتزل الانسان الناس مهما اعتزل ,لم يكن له متسعا في الشرع اعتزال الجمعة والجماعات"
ولذا أوصى الشافعي صاحبه يونس بقوله:"يا يونس؟ الانقباض على الناس مكسبة للعداوة, والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء,فكن بين المنقبض والمنبسط"
قال علي القاري:"والمختار هو التوسط بين العزلة عن أكثر الناس وعوامّهم,والخلطة بالصالحين,والاإجتماع مع عامّتهم في نحو جمعهم وجماعتهم"
والحاصل أن العزلة تكون كلية تارة وجزئية وأخرى ,خادمة لمطلوب أو مقصود"
وقد ذكر العلماء جملة من الآداب لمن أراد العزلة ,منها :أن ينوي بعزلته كف شره عن النّاس أولا ,ثم طلب السلامة من الأشرار ثانيا ,ثم الخلاص من أفات الاختلاط ثالثا,ثم التجرد بكنه الهمة لعبادة الله رابعا ,ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل والذكر والفكر ,ليجتني ثمرة العزلة,وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته فيشوش عليه وقته ,وليكف عن السؤال عن أخبارهم والإصغاء إلى أراجيف البلد,فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة أو الفكر من حيث لا يحتسب.
وبالجملة ,يقطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله ,وليقنع باليسير من المعيشة وإلا اضطره التوسع إلى الناس ,وليكن له أهل صالحة أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه عن كد المواظبة في اليوم ساعة,ففيه عون على بقية الساعات ,ولا يتم له الصبر في العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا وما في أيدي أهلها,وطريق ذلك أن لا يقد ر لنفسه عمرا طويلا ,بل يصبح على أن لا يمسي ,ويمسي على أن لا يصبح ,فيسهل عليه صبر يوم واحد,وإلا ,فلا يسهل عليه الصبر عشرين سنة أو قدر تراخي الأجل .
اعلم أن الخلوة غير مقصودة لنفسها ,وإنما هي وسيلة إلى ترك المآثم ةالمهالك وتزكية النفس بالفضائل وتطهيرها من الرذائل ,وأنت وإن خلوت من الناس ,فما خلوت من النفس ,وإن خولت من شياطين الإنس,فما خلوت من شياطين الجن,فلا تحسب أنه قد حصل لك المقصود بمجرد الخلوة ,ولا بلغت المراد ,بل أنت مثل من سار أكثر الطريق إلى حبيبه الذي في لقائه قرّة عينه وبلوغ آماله ,وفي الغيبة عنه عذاب قلبه وقالبه وجميع آلامه ومكارهه.
ولقد أجاد من قال:
وأعظم ما يكون الشوق**** يوما إذا دنت الدّيار من الدّيار
فمن قطع أكثر المسافة وأعظمها وأعسرها ,حتى إذا قرب من لقاء الحبيب ,ترك بقية السير إليه ,وتعرض للقواطع عنه ,فما صدق في صحبته ومحبة لقائه أبدا.
فكذلك المختلي إذا حصلت له الخلوة بألطاف الله الخفية ,وصرف عنه الدنيا طوعا وكرها وكفاه المؤن بالزهد والفضول ,وقوذى له طبيعة القناعة التي هي الملك الأكبر والغنى الحقيقي ,كما قال القائل:
ملك القناعة لا تخشى عليه****ولا تحتاج فيه إلى الأنصار والخول
غنيت عن الدنيا بترك فضولها ****وإنّ الا عن الشيء لا به
وقال آخر:
ما كل فوق البسيطة كافيا ****فإذا قنعت فبعض الشيء كاف
وقال آخر:
راعك الزهد إنما الزهد**** رفض لفضول تلهي وكد وجهد
وقال آخر:
لم تكن تمنع الزهادة رزقا**** بل يجيئك المقسوم من غير بدّ
فمتى عرف مقدار ما أنعم الله عليه من نعمتي الإسلام والعافية,وما صرف عنه من الشواغل إلى الآخرة,وشربت عروق قلبه الرضا بتدبير الله ,وذاق حلاوة التوكل على الله والتفويض إليه والثقة به ,فإنه حينئذ أنشط الناس إلى لقاء الله عزوجل على أحسن الأحوال إلى الله تعالى ,وأحذرهم من لقاء الله تعالى على الحال التي يكرهها الله تعالى منه.
فإذا حصلت لك الخلوة بلطف الله,فشمّر في العمل على موافقة الكتاب والسنة ,وطالع كتب الصالحين بعدهما ,وقدّم الكتب الصحيحة على غيرها ,وأحسن ما يطالع في ذلك كتاب رياض الصالحين للنووي فإنّه اقتصر على كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة ,ولم يمزجه بشيء من البدع والمذاهب.
واعلم أنّ صلاح القلب هو الأصل ,فابتدئ بتطهيره من الحسد والغل ,والعجب وطول الأمل والعجز والكسل وغلبة الهوى,وحب اطّلاع الناس على عملك بكتمك له ما أمكنك ,وعاهد قلبك وأعمالك معاهدة الطبيب الماهر الذي يداويه والزارع لأرضه وما زرع فيها.
وأنت في ابتداء ذلك وانتهائه مستعين بالله , مستغيث به , متضرع إليه,ملتجئ, معترف بالضعف ,متبرّ من الحول والقوة إلا بالله ,كالساقط في البحر ليس معه سبب ولا هو يحسن العيامة ,تدعو إلى الله تعالى على الدوام دعاء الغريق وترجو الفرج بنظرة رحمة توصلك إلى لقائه هو عنك راض.
والحمد لله أولا وآخرا أحب الحمد إليه ,وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من كتاب :"العزلة والأنفراد" لــ أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد البغدادي(ت281ه)