الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمنِ حبَّ الخير لإخوانِه المؤمنين، فهو يحِبّ لهم الخيرَ أين كانوا، ويكره لهم الشرَّ حيث كانوا، يحِبّ لهم الخيرَ كما يحبّ لنفسه، ويكره لهم الشرَّ والأذى كما يكرَه لنفسه؛ ولذا يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : **لا يؤمِن أحدُكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه**، هكذا الإيمان الصادِق الحقيقيّ. وبضدّ هذا ـ والعياذ بالله ـ من يؤذون المؤمنين ويلحِقون الضرر بهم، وهذا الأذى يكون تارةً بالقول وأخرَى بالفعل، وقد ذمَّ الله من يؤذي المؤمنين ويعرِّضهم للأذى بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أيّها المسلم، فمن أنواعِ الأذى ما يؤذي به بعضُ الناس إخوانَه المسلمين بأقواله، فمن تلك الأذيّة التي يؤذيهم بلسانه بأن ينسِب لهم باطلاً، ويقول عليهم زورًا وبهتانًا، يحكم عليهم بالفِسقِ وهو لا يعلم، وربما كفَّرهم ـ والعياذ بالله ـ بغير رويَّةٍ ولا بَصيرة ولا تأمّلٍ ولا نظر في العواقب، وإنما يطلِق الكلِمات لا يزن لها وزنًا، ولا يقيم لها شأنًا، إنما هي ألفاظٌ يذكُرها بلِسانه، ولا يتصوَّر هذا القائل مدَى خطورتها وضرَرَ إثمها على المسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم محذِّرًا لنا من ذلِك أنّ مَن قال لأخيه: يا عدوَّ الله أو يا كافر وليس كذلك إلا حارَ عليه، أي: إلا رجَع عليه مثل ما قال. فليحذرِ المسلم أن يطلقَ الكلمات من غير أن يزِن لها وزنًا، وليتثبَّت فيما يقول، والله محاسبُه عن ألفاظه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
يؤذي المسلمينَ أحيانًا بسبِّهم وشتمِهم ولعنِهم، وهو لا يتصوَّر نتائجَ تلك الكلماتِ القبيحة، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: **لعنُ المسلم كقتله**، ويقول أيضًا: **سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر**.
يؤذيهم بلسانِه فيسعَى بينهم بالنّميمة ليفسدَ العلاقةَ القائمةَ بين الإخوان، وربما سعَى بالإفساد بين الزوجَين، وربما سعَى بين الأخَوين وبين الأبِ وأولاده أو الرّحم بعضهم مع بعض. نميمة خبيثة، نقلُ الكلام السيّئ على وجهِ الإفساد وإلحاقِ الضررِ وتصديعِ بناء المجتمع المسلم.
يؤذيهم بأقواله فترَاه يغتابهم وينتهِك أعراضَهم بلا رويّة ولا بصيرة، يتشفّى في أعراض المسلمين، كفاه إثما لو عاد لنفسِه وصحَّح أوضاعَه وأصلح أخطاءه، لكان في ذلك كفاية وغُنية من أن يشتغلَ بأعراضِ المسلمين ثَلبًا وعيبًا من غير بصيرةٍ ولا تأمّل.
يؤذيهم بلسانِه فينسِب لهم البُهتان ويحكِي عنهم الزورَ والأقوالَ الخبيثة، وهم قد لا يكونون قالوها ولم يحكوها، لكنّه يتلقّف الكلامَ من كلِّ قائل من غير أن يتثبَّت فيما يُنقَل إليه، ولذا قال الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
يؤذيهم بلسانِه فيشهَد عَليهم زورًا وبهتانًا، شهادةً ظالمة جائِرة لا صحّةَ لها؛ لكي ينفَع شَخصًا ويضرَّ آخر، وتلك شهادة الزورِ الباطلة التي حذَّرنا منها ربّنا وحذّرنا منها نبيّنا صلى الله عليه وسلم حيث يقول لما عدّ الكبائر وكان متكِّئًا فجلس فقال: **ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور**، فما زال يكرِّرها حتى قال الصحابة: ليته سكت.
يؤذيهم بأقوالِه فيقيم دَعوى كيديّة لا صحّةَ لها ولا أصل لها ولا بِناء ثابت لها، لكنها الدّعوَى الكيديّة التي يقصد منها إلحاقَ الضرر وإيصالَ الهمّ والغمّ على أخيه المسلم، وقد تنكشف الأمور ضدَّ ما يريد، لكن يكفيه أن ألحقَ الضرَرَ بأخيه المسلم وأساءَ إليه وعطَّل مصالحَه، وتلك والعياذ بالله كبيرةٌ عظمى.
يؤذيهم بلسانِه فيكتب فيهم ما لم يقولوه، ويحكِي عنهم ما لم يتحدّثوا به، وكلّ هذا من أذَى المسلمين، فالواجب على المسلِمِ تقوى الله والكفُّ عن هذا الأذى السيّئ.
يؤذيهم في أموالهم، فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، تارة يؤذيهم فيجحَد الحقوقَ التي لهم، ويماطل أحيانًا بالوفاء، فلا يعطِي الناس حقوقَهم إلاّ بعد كلفةٍ ومشقّة، ولذا سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ظالمًا بقوله: **مَطلُ الغنيِّ ظلم يحِلُّ عِرضَه وعقوبته**.
يؤذيهم في أموالهم فيجحَد حقوقهم، ويجحَد حقوقَهم التي في ذمّتِه، إمّا لأن صاحبَه ليس عنده توثُّق قويّ، فيستغلّ ذلك فيجحَد الحقوق، والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
يؤذيهم فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، وفي الحديث: **من اقتطَع شبرًا من الأرض طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرضين**.
يؤذيهم في أموالهم بالتعدِّي عليها سَرِقة أو إتلافًا أو غِشًّا في البيوع وخِداعًا وتدليسًا، فيكون بذلك مؤذيًا لهم حيث أخَذ من أموالهم بغيّر حقِّها. فجُحود الحقوقِ والمماطلة بها وعدَم الوفاء وعدَم الوضوح في التّعامل كلّ هذا من أذَى المسلمين، لو فكّر المسلم في ذلك لاتَّقى الله وترفَّع عن هذه الأذيّة.
ويؤذيهم بسفكِ دمائهم بغير حقّ، وكلّ هذا حرام، ولهذا النبيّ يقول: **إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام**. إنَّ سفكَ الدماء بغيرِ حقّ ظلم وعدوان، **ولا يزال العبدُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا**.
وعكسُ هذا مَن وفَّقه الله فسلم المسلمون من شرِّ لسانه ويدِه، كما قال صلى الله عليه وسلم : **المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم**. فحقيقة الإسلام الصادِق الذي سلِم المسلمون من شرِّ لسانه ويده، فلا يؤذيهم بلسانه، ولا يؤذيهم بيده، ويأمَنونه على الدّماء والأموال؛ لأن هذه حقيقةُ الإيمان الدّالّة على صدق الإيمان وقوّة اليقين.
فلنكن ـ أيها المسلمون ـ بعيدًا عن إيذاء الآخرين، مترفِّعين عن ذلك، سالكين الطريقَ المستقيم في تعاملنا مع إخواننا؛ ليكون إيماننا الإيمانَ الصادق، فليس الإيمان بدعوى أو أمور ظاهرة وأنت في خلاف ذلك، فكم من متظاهرٍ بالإسلام والخيرِ لكنه عند التعامُل تجِد الرّوَغان، وتجِد المماطلة، وتجد الأمور المتناقضة التي تتنافى مع دين الإسلام، فدين الإسلام دينٌ ومعاملة، صِدقٌ في القلب ويقينٌ وأعمال ظاهرة تدلّ على ما في القلبِ من إيمانٍ وصِدق حتى يكونَ الإيمان حقيقيًّا، فالإيمان الصادِق هو الذي يحمل المسلمَ على البعد عن أذَى المسلمين بكلِّ أنواع الأذى، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لنا: **من كان عِنده لأخيه مظلمَة من دمٍ أو مال فليتحلَّل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم، إن كان له حسناتٌ أُخِذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيّئاتهم ثم طرِحَت عليه فطرِحَ في النار**. فليحذر المسلِمُ ذلك، وليتَّق اللهَ في تعامله مع إخوانه، ولا يحملنَّه عدمُ عِلم الآخرين بحقوقهم أن يجحَدها ويظلمها ويؤذيهم فيها، فإنّ ذلك من الأذى المحرَّم الذي حرَّمه الله ورسوله.
ومِن أنواع الأذى المماطلةُ بالحقوق، كتأخير قِسمةِ الميراث أحيانًا؛ لأن بعضَهم قد يريد بها ظلمَ الآخرين والتحايلَ عليهم ومحاولةَ تنازلهم عن بعض حقوقِهم، لأجل المصالح الشخصيّة، فالمسلم يتباعَدُ عن هذا، وإن ائتُمِنَ أدَّى أمانته بصدقٍ وإخلاص.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
مِن نِعَم الله عليك ـ أيها المسلم ـ أنَّ الله أوجدَك من العدَم، فحياتك مِن نِعَم الله عليك، أوجدك ربّك من العَدَم، وربّاك بالنِّعم، ووهَب لك الحواسّ، وهيّأ لك كلَّ سُبُل الاكتساب، وهيّأ لك سبل الهدى مِنَ الضلال، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23].
إذًا فوجودُك ـ أيها المسلم ـ في الحياة نِعمة؛ لأنّك وُجدتَ وقد كرَّمك الله وفضَّلك على سائر المخلوقات، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]. ما سِوى ابن آدم تنتهِي حياتهم بموتهم، أنتَ ـ يا ابن آدم ـ خُلِقتَ لأمرٍ عظيم؛ لطاعةِ ربك وعبادته، وُعِدتَ بالنعيم المقيم إن استقمتَ على الخير والهدى، وتُوعِّدتَ بالعذاب الأليم إن أعرضتَ عن شرع الله ودينه.
أيها المسلم، فالمسلِم يفرَح بالحياة لا للحياة، ولكن ليتزوّدَ منها عملاً صالحًا قبلَ لقاء الله، يعلَم أن حياته مقدَّرة بزمنٍ قدَّره ودبَّره من علِم الأمور كلَّها، فهو يعيش منتظرًا أجلَه الذي قدَّره الله له، إذًا فهو يجِدّ ويعمَل صالحًا ليتزوّد من حياتِه لمعادِه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. فالمؤمن يتميَّز عن غير المؤمن، غيرُ المؤمِن حياته مادّتُه، لا يرجو حسابًا ولا يخاف عقابًا، أمّا المؤمن فلا، حياتُه لهدفٍ وغاية؛ طاعةُ الله، عمارة الأرض بطاعة الله، تزوّدٌ من هذه الدنيا لدار القرار. إذًا فهو يفرَح بالحياة لهذا، ولهذا نهِيَ المؤمن عن تمنِّي الموت، فقال لنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم : **لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان محسِنًا فإنه يزدَاد خيرًا، وإن كان مسيئًا فيستَعتِب**. إذًا فتمنِّي الموت لا يليق بالمسلم، لا يتمنّاه، لماذا؟ لأنّه يريد ولو ساعة يعيشها في الدنيا، فعسَى توبة نصوحا، وعسى رجوعا إلى الله، وعسى إنابة، وعسى كلمة يقولها يختِم الله بها خيرًا.
أخي المسلم، إذا علِمنَا ذلك وعلِمنا أيضًا أنّ الشرعَ أوجَب على المسلمِ حِفظَ نفسه، وحرَّم عليه التعدّيَ عليها والجنايةَ عليها، فقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. إذًا فنفسك أمانةٌ عندك، لا تتعدَّى عليها، ولا تزجُّ بها فيما تعلم النتائجَ السيّئة، بل حافظ عليها حتى يأذنَ الله بمفارقةِ الروح للجسد.
أيها المسلم، هذا مبدأُ الإسلام، حرَّم المسلم التعدّيَ على النفس، كما يحرم عليك التعدّي على نفوس الآخرين فيحرم عليك التعدّي على نفسِك والسعيِ في إزهاق نفسك، فإنّ هذا من كبائرِ الذنوب. وقضايا الانتحارِ قضايا جاء الإسلام بضدِّها، ولا يقدم عليها من في قَلبِه إيمان؛ لأنَّ المؤمن مأمورٌ بالصّبر في البلاءِ والرّضا بقضاء الله وقدره، وأنّ هذه المصائبَ تكفِّر المعايب وترفع الدرجات وتحطّ الخطايا. إذًا فقتلُ النفس جريمةٌ وكبيرة من كبائر الذنوب، بل هي ـ والعياذ بالله ـ من علاماتِ سوءِ الخاتمة، أي: أنَّ الذي يقتل نفسَه يدلّ على أنه خُتِم له بشرٍّ والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.
ونبيّنا صلى الله عليه وسلم حذّرنا من هذه الجريمةِ أشدَّ تحذير، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إحدى غزواته التقى المشركون والمسلِمون، ومال النبيّ إلى عسكره، ومال المشركون إلى معسكرهم، وإذا رجلٌ في عسكر النبيّ لا يدَع للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلا قضى عليها بسيفه، فقال بعض المسلمين: ما فازَ اليومَ فينا مثلُ فلان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: **والذي نفسي بيده، إنه من أهل النار**، فشقَّ على الصحابة وقال قائلهم: إذا كان هذا في النارِ فمن يدخل الجنة؟! فقال رجل منهم: أنا كفيل به، أتتبَّعُه في كلِّ مواقِفه، فما زال معه حتى إذا أثخنته الجراحُ أخذ سَيفَه فجعل ذأبته بين ثديَيه واعتمَد عليه حتى قتَل نفسَه، فرجع إلى النبيّ وقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، قال: **وما ذاك؟** قال: الذي قلت: إنه في النار هكذا فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: **إن العبدَ ليعمَل بطاعةِ الله فيما يظهر للناس فيختَم له بشرٍّ فيدخل النار، وإنّ أحدَكم ليعمَل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس فيسبِق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها**.
أيها المسلم، ونبيّنا يقول: **من قتل نفسه بشيء عذِّب به يوم القيامة**، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن قاتلَ نفسه يُعذَّب يوم القيامة في نار جهنم بتلك الوسيلةِ التي قتل بها نفسه، فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: **من تردّى من جبلٍ فهو يتردّى في النار يوم القيامة خالدًا مخلدًا فيها أبدًا إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسَه بسمٍّ فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يدِه يجَأ بها بطنَه يومِ القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا**. كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من الإقدامِ على الجرائم، ونأي له عن أن يقدم على هذه الجريمةِ النكراء التي لا يقدِم عليها إلاّ قلب فارغ من الإيمان ليس له في الآخرة نصيب.
هؤلاء المنتحِرون يَرونَ هذا الانتحارَ تخلُّصًا أو يعدُّه بعضُهم شجاعةً أو يعدّه ويعدّه، كلّ هذا من تحسين الشيطان، كلّ هذا من الضّلال، المسلِم يتبصَّر في أمورِه وفيما يقدِم عليه وفي مواقفِه كلِّها؛ حتى يكونَ على صراطٍ مستقيم، لكن أن يقتل نفسه أن يفجِّر نفسَه ويمزِّقَ أشلاءه بأيِّ حقٍّ ذلك؟! كيف تلقَى الله وقد مزّقتَ أشلاءك؟! كيف تلقى الله بهذه الجريمة النكراء التي هي اتباعٌ للشيطان وطاعةٌ للهوى وتنفيذ لأوامر أعدائك الحاقدين الذين يريدونَ أن يقضوا على حياتك بهذه الصورة المشينة القبيحة التي لا يرضاها مسلم لنفسه؟!
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يجنِّبنا وإياكم نزعاتِ الشيطان، ويحفظنا وذرّياتنا وسائرَ المسلمين بحفظه، ويجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، إنّه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين الأئمّة المهديّين...
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمنِ حبَّ الخير لإخوانِه المؤمنين، فهو يحِبّ لهم الخيرَ أين كانوا، ويكره لهم الشرَّ حيث كانوا، يحِبّ لهم الخيرَ كما يحبّ لنفسه، ويكره لهم الشرَّ والأذى كما يكرَه لنفسه؛ ولذا يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : **لا يؤمِن أحدُكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه**، هكذا الإيمان الصادِق الحقيقيّ. وبضدّ هذا ـ والعياذ بالله ـ من يؤذون المؤمنين ويلحِقون الضرر بهم، وهذا الأذى يكون تارةً بالقول وأخرَى بالفعل، وقد ذمَّ الله من يؤذي المؤمنين ويعرِّضهم للأذى بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أيّها المسلم، فمن أنواعِ الأذى ما يؤذي به بعضُ الناس إخوانَه المسلمين بأقواله، فمن تلك الأذيّة التي يؤذيهم بلسانه بأن ينسِب لهم باطلاً، ويقول عليهم زورًا وبهتانًا، يحكم عليهم بالفِسقِ وهو لا يعلم، وربما كفَّرهم ـ والعياذ بالله ـ بغير رويَّةٍ ولا بَصيرة ولا تأمّلٍ ولا نظر في العواقب، وإنما يطلِق الكلِمات لا يزن لها وزنًا، ولا يقيم لها شأنًا، إنما هي ألفاظٌ يذكُرها بلِسانه، ولا يتصوَّر هذا القائل مدَى خطورتها وضرَرَ إثمها على المسلم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم محذِّرًا لنا من ذلِك أنّ مَن قال لأخيه: يا عدوَّ الله أو يا كافر وليس كذلك إلا حارَ عليه، أي: إلا رجَع عليه مثل ما قال. فليحذرِ المسلم أن يطلقَ الكلمات من غير أن يزِن لها وزنًا، وليتثبَّت فيما يقول، والله محاسبُه عن ألفاظه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
يؤذي المسلمينَ أحيانًا بسبِّهم وشتمِهم ولعنِهم، وهو لا يتصوَّر نتائجَ تلك الكلماتِ القبيحة، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: **لعنُ المسلم كقتله**، ويقول أيضًا: **سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر**.
يؤذيهم بلسانِه فيسعَى بينهم بالنّميمة ليفسدَ العلاقةَ القائمةَ بين الإخوان، وربما سعَى بالإفساد بين الزوجَين، وربما سعَى بين الأخَوين وبين الأبِ وأولاده أو الرّحم بعضهم مع بعض. نميمة خبيثة، نقلُ الكلام السيّئ على وجهِ الإفساد وإلحاقِ الضررِ وتصديعِ بناء المجتمع المسلم.
يؤذيهم بأقواله فترَاه يغتابهم وينتهِك أعراضَهم بلا رويّة ولا بصيرة، يتشفّى في أعراض المسلمين، كفاه إثما لو عاد لنفسِه وصحَّح أوضاعَه وأصلح أخطاءه، لكان في ذلك كفاية وغُنية من أن يشتغلَ بأعراضِ المسلمين ثَلبًا وعيبًا من غير بصيرةٍ ولا تأمّل.
يؤذيهم بلسانِه فينسِب لهم البُهتان ويحكِي عنهم الزورَ والأقوالَ الخبيثة، وهم قد لا يكونون قالوها ولم يحكوها، لكنّه يتلقّف الكلامَ من كلِّ قائل من غير أن يتثبَّت فيما يُنقَل إليه، ولذا قال الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
يؤذيهم بلسانِه فيشهَد عَليهم زورًا وبهتانًا، شهادةً ظالمة جائِرة لا صحّةَ لها؛ لكي ينفَع شَخصًا ويضرَّ آخر، وتلك شهادة الزورِ الباطلة التي حذَّرنا منها ربّنا وحذّرنا منها نبيّنا صلى الله عليه وسلم حيث يقول لما عدّ الكبائر وكان متكِّئًا فجلس فقال: **ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور**، فما زال يكرِّرها حتى قال الصحابة: ليته سكت.
يؤذيهم بأقوالِه فيقيم دَعوى كيديّة لا صحّةَ لها ولا أصل لها ولا بِناء ثابت لها، لكنها الدّعوَى الكيديّة التي يقصد منها إلحاقَ الضرر وإيصالَ الهمّ والغمّ على أخيه المسلم، وقد تنكشف الأمور ضدَّ ما يريد، لكن يكفيه أن ألحقَ الضرَرَ بأخيه المسلم وأساءَ إليه وعطَّل مصالحَه، وتلك والعياذ بالله كبيرةٌ عظمى.
يؤذيهم بلسانِه فيكتب فيهم ما لم يقولوه، ويحكِي عنهم ما لم يتحدّثوا به، وكلّ هذا من أذَى المسلمين، فالواجب على المسلِمِ تقوى الله والكفُّ عن هذا الأذى السيّئ.
يؤذيهم في أموالهم، فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، تارة يؤذيهم فيجحَد الحقوقَ التي لهم، ويماطل أحيانًا بالوفاء، فلا يعطِي الناس حقوقَهم إلاّ بعد كلفةٍ ومشقّة، ولذا سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ظالمًا بقوله: **مَطلُ الغنيِّ ظلم يحِلُّ عِرضَه وعقوبته**.
يؤذيهم في أموالهم فيجحَد حقوقهم، ويجحَد حقوقَهم التي في ذمّتِه، إمّا لأن صاحبَه ليس عنده توثُّق قويّ، فيستغلّ ذلك فيجحَد الحقوق، والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
يؤذيهم فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، وفي الحديث: **من اقتطَع شبرًا من الأرض طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرضين**.
يؤذيهم في أموالهم بالتعدِّي عليها سَرِقة أو إتلافًا أو غِشًّا في البيوع وخِداعًا وتدليسًا، فيكون بذلك مؤذيًا لهم حيث أخَذ من أموالهم بغيّر حقِّها. فجُحود الحقوقِ والمماطلة بها وعدَم الوفاء وعدَم الوضوح في التّعامل كلّ هذا من أذَى المسلمين، لو فكّر المسلم في ذلك لاتَّقى الله وترفَّع عن هذه الأذيّة.
ويؤذيهم بسفكِ دمائهم بغير حقّ، وكلّ هذا حرام، ولهذا النبيّ يقول: **إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام**. إنَّ سفكَ الدماء بغيرِ حقّ ظلم وعدوان، **ولا يزال العبدُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا**.
وعكسُ هذا مَن وفَّقه الله فسلم المسلمون من شرِّ لسانه ويدِه، كما قال صلى الله عليه وسلم : **المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم**. فحقيقة الإسلام الصادِق الذي سلِم المسلمون من شرِّ لسانه ويده، فلا يؤذيهم بلسانه، ولا يؤذيهم بيده، ويأمَنونه على الدّماء والأموال؛ لأن هذه حقيقةُ الإيمان الدّالّة على صدق الإيمان وقوّة اليقين.
فلنكن ـ أيها المسلمون ـ بعيدًا عن إيذاء الآخرين، مترفِّعين عن ذلك، سالكين الطريقَ المستقيم في تعاملنا مع إخواننا؛ ليكون إيماننا الإيمانَ الصادق، فليس الإيمان بدعوى أو أمور ظاهرة وأنت في خلاف ذلك، فكم من متظاهرٍ بالإسلام والخيرِ لكنه عند التعامُل تجِد الرّوَغان، وتجِد المماطلة، وتجد الأمور المتناقضة التي تتنافى مع دين الإسلام، فدين الإسلام دينٌ ومعاملة، صِدقٌ في القلب ويقينٌ وأعمال ظاهرة تدلّ على ما في القلبِ من إيمانٍ وصِدق حتى يكونَ الإيمان حقيقيًّا، فالإيمان الصادِق هو الذي يحمل المسلمَ على البعد عن أذَى المسلمين بكلِّ أنواع الأذى، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لنا: **من كان عِنده لأخيه مظلمَة من دمٍ أو مال فليتحلَّل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم، إن كان له حسناتٌ أُخِذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيّئاتهم ثم طرِحَت عليه فطرِحَ في النار**. فليحذر المسلِمُ ذلك، وليتَّق اللهَ في تعامله مع إخوانه، ولا يحملنَّه عدمُ عِلم الآخرين بحقوقهم أن يجحَدها ويظلمها ويؤذيهم فيها، فإنّ ذلك من الأذى المحرَّم الذي حرَّمه الله ورسوله.
ومِن أنواع الأذى المماطلةُ بالحقوق، كتأخير قِسمةِ الميراث أحيانًا؛ لأن بعضَهم قد يريد بها ظلمَ الآخرين والتحايلَ عليهم ومحاولةَ تنازلهم عن بعض حقوقِهم، لأجل المصالح الشخصيّة، فالمسلم يتباعَدُ عن هذا، وإن ائتُمِنَ أدَّى أمانته بصدقٍ وإخلاص.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
مِن نِعَم الله عليك ـ أيها المسلم ـ أنَّ الله أوجدَك من العدَم، فحياتك مِن نِعَم الله عليك، أوجدك ربّك من العَدَم، وربّاك بالنِّعم، ووهَب لك الحواسّ، وهيّأ لك كلَّ سُبُل الاكتساب، وهيّأ لك سبل الهدى مِنَ الضلال، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23].
إذًا فوجودُك ـ أيها المسلم ـ في الحياة نِعمة؛ لأنّك وُجدتَ وقد كرَّمك الله وفضَّلك على سائر المخلوقات، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]. ما سِوى ابن آدم تنتهِي حياتهم بموتهم، أنتَ ـ يا ابن آدم ـ خُلِقتَ لأمرٍ عظيم؛ لطاعةِ ربك وعبادته، وُعِدتَ بالنعيم المقيم إن استقمتَ على الخير والهدى، وتُوعِّدتَ بالعذاب الأليم إن أعرضتَ عن شرع الله ودينه.
أيها المسلم، فالمسلِم يفرَح بالحياة لا للحياة، ولكن ليتزوّدَ منها عملاً صالحًا قبلَ لقاء الله، يعلَم أن حياته مقدَّرة بزمنٍ قدَّره ودبَّره من علِم الأمور كلَّها، فهو يعيش منتظرًا أجلَه الذي قدَّره الله له، إذًا فهو يجِدّ ويعمَل صالحًا ليتزوّد من حياتِه لمعادِه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. فالمؤمن يتميَّز عن غير المؤمن، غيرُ المؤمِن حياته مادّتُه، لا يرجو حسابًا ولا يخاف عقابًا، أمّا المؤمن فلا، حياتُه لهدفٍ وغاية؛ طاعةُ الله، عمارة الأرض بطاعة الله، تزوّدٌ من هذه الدنيا لدار القرار. إذًا فهو يفرَح بالحياة لهذا، ولهذا نهِيَ المؤمن عن تمنِّي الموت، فقال لنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم : **لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان محسِنًا فإنه يزدَاد خيرًا، وإن كان مسيئًا فيستَعتِب**. إذًا فتمنِّي الموت لا يليق بالمسلم، لا يتمنّاه، لماذا؟ لأنّه يريد ولو ساعة يعيشها في الدنيا، فعسَى توبة نصوحا، وعسى رجوعا إلى الله، وعسى إنابة، وعسى كلمة يقولها يختِم الله بها خيرًا.
أخي المسلم، إذا علِمنَا ذلك وعلِمنا أيضًا أنّ الشرعَ أوجَب على المسلمِ حِفظَ نفسه، وحرَّم عليه التعدّيَ عليها والجنايةَ عليها، فقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. إذًا فنفسك أمانةٌ عندك، لا تتعدَّى عليها، ولا تزجُّ بها فيما تعلم النتائجَ السيّئة، بل حافظ عليها حتى يأذنَ الله بمفارقةِ الروح للجسد.
أيها المسلم، هذا مبدأُ الإسلام، حرَّم المسلم التعدّيَ على النفس، كما يحرم عليك التعدّي على نفوس الآخرين فيحرم عليك التعدّي على نفسِك والسعيِ في إزهاق نفسك، فإنّ هذا من كبائرِ الذنوب. وقضايا الانتحارِ قضايا جاء الإسلام بضدِّها، ولا يقدم عليها من في قَلبِه إيمان؛ لأنَّ المؤمن مأمورٌ بالصّبر في البلاءِ والرّضا بقضاء الله وقدره، وأنّ هذه المصائبَ تكفِّر المعايب وترفع الدرجات وتحطّ الخطايا. إذًا فقتلُ النفس جريمةٌ وكبيرة من كبائر الذنوب، بل هي ـ والعياذ بالله ـ من علاماتِ سوءِ الخاتمة، أي: أنَّ الذي يقتل نفسَه يدلّ على أنه خُتِم له بشرٍّ والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.
ونبيّنا صلى الله عليه وسلم حذّرنا من هذه الجريمةِ أشدَّ تحذير، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إحدى غزواته التقى المشركون والمسلِمون، ومال النبيّ إلى عسكره، ومال المشركون إلى معسكرهم، وإذا رجلٌ في عسكر النبيّ لا يدَع للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلا قضى عليها بسيفه، فقال بعض المسلمين: ما فازَ اليومَ فينا مثلُ فلان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: **والذي نفسي بيده، إنه من أهل النار**، فشقَّ على الصحابة وقال قائلهم: إذا كان هذا في النارِ فمن يدخل الجنة؟! فقال رجل منهم: أنا كفيل به، أتتبَّعُه في كلِّ مواقِفه، فما زال معه حتى إذا أثخنته الجراحُ أخذ سَيفَه فجعل ذأبته بين ثديَيه واعتمَد عليه حتى قتَل نفسَه، فرجع إلى النبيّ وقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، قال: **وما ذاك؟** قال: الذي قلت: إنه في النار هكذا فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: **إن العبدَ ليعمَل بطاعةِ الله فيما يظهر للناس فيختَم له بشرٍّ فيدخل النار، وإنّ أحدَكم ليعمَل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس فيسبِق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها**.
أيها المسلم، ونبيّنا يقول: **من قتل نفسه بشيء عذِّب به يوم القيامة**، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن قاتلَ نفسه يُعذَّب يوم القيامة في نار جهنم بتلك الوسيلةِ التي قتل بها نفسه، فيقول لنا صلى الله عليه وسلم: **من تردّى من جبلٍ فهو يتردّى في النار يوم القيامة خالدًا مخلدًا فيها أبدًا إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسَه بسمٍّ فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يدِه يجَأ بها بطنَه يومِ القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا**. كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من الإقدامِ على الجرائم، ونأي له عن أن يقدم على هذه الجريمةِ النكراء التي لا يقدِم عليها إلاّ قلب فارغ من الإيمان ليس له في الآخرة نصيب.
هؤلاء المنتحِرون يَرونَ هذا الانتحارَ تخلُّصًا أو يعدُّه بعضُهم شجاعةً أو يعدّه ويعدّه، كلّ هذا من تحسين الشيطان، كلّ هذا من الضّلال، المسلِم يتبصَّر في أمورِه وفيما يقدِم عليه وفي مواقفِه كلِّها؛ حتى يكونَ على صراطٍ مستقيم، لكن أن يقتل نفسه أن يفجِّر نفسَه ويمزِّقَ أشلاءه بأيِّ حقٍّ ذلك؟! كيف تلقَى الله وقد مزّقتَ أشلاءك؟! كيف تلقى الله بهذه الجريمة النكراء التي هي اتباعٌ للشيطان وطاعةٌ للهوى وتنفيذ لأوامر أعدائك الحاقدين الذين يريدونَ أن يقضوا على حياتك بهذه الصورة المشينة القبيحة التي لا يرضاها مسلم لنفسه؟!
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يجنِّبنا وإياكم نزعاتِ الشيطان، ويحفظنا وذرّياتنا وسائرَ المسلمين بحفظه، ويجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، إنّه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين الأئمّة المهديّين...