الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، إنَّ الله تعالى يذكِّر عبادَه نِعمَه ويعرِّفهم بها لكَي يشكروه على هذه النِّعمِ، ويثنوا بها عليه ثناءً يليق بجلالِه، فهو أهل الثناء والمجد.
نِعَم الله متعدِّدةٌ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، من تِلكُم النِّعَم ما بيَّن الله في كتابِه من امتِنانهِ على عباده بأن سخَّر لهم ما يركبون وينتفعون ويقضون به حوائِجَهم ويقطعون به المسافاتِ العظيمة، كلُّ ذلك من توفيق الله، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73]. إذًا فكَون من هذه الأنعامِ ما هُو للرّكوب نِعمةٌ تحتاج أن نشكرَ الله عليها، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ثم قال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، فأخبر تعالى أنّه سيخلُق ما لا يَعلمون ولا يجولُ بِفكرهم ويتصوّرُه حالهم، وهذا من كمالِ قدرته جلّ وعلا، وقد خلق ما لا يعلَمون وأتتِ العجائب، فسبحان الخالق لكلِّ شيء.
والله جلّ علا قال لنا أيضًا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
أيّها المسلم، إنّ مِن نِعَم الله علينا وجودَ هذه المركبات، أعني السّيّارات التي هيّأها الله وسَخَّرها، وأَلهَم خَلقًا من خَلقِه لاختِراعِها وتكوِينِها، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]. هذه المراكِبُ التي بمتناوَلِ الكثير من الناس، يقودُها العاقل والسّفيه والصغير والكبير، أجل إنها بمتناوَل الفرد، ملأَتِ البلاد والبرَّ. هذه النّعمَة العظيمةُ هل شكَرنا الله علينا؟! وهل حسُن استعمالُنا لها أم ساء الاستعمال وذهب الشّكر وقلَّ الثناءُ على الله؟! إنَّ شكرَ الله عليها أمر متعيِّن، فالله الذي يسَّرها وهيَّأها، وإنَّ حسنَ استعمالها لمن شُكر نِعَم الله علينا، فكم من محسِنٍ لاستعمالها، وكم من مسيءٍ لاستعمالِها.
أيّها المسلم، إنَّ هناك فئةً من مجتمعنا هدانا الله وإيّاهم لكلِّ خير، تراهم في سيارتهم يتصرَّفون تصرّفاتٍ جنونية، وتصرّفات خارجة عن العقل والمنطِق، وتصرُّفات دالّةٍ على ضعفٍ في العقل أحيانًا وعلى قِلّة مبالاةٍ بالنّفوس والمجتمع وعَدَم رِعاية الأنظمة وعدم المبالاة بالأرواح. ترى بعضَ أبنائنا يتصرَّفون تصرّفاتٍ قل عنها: إنها تصرّفاتٌ جنونيّة خارجة عن العقل والمنطق، تصرّفَ من لا يراعي نظامًا ولا يبالي بأرواحِ المسلمين، تصرّفَ مستهتِرٍ متكبِّر مغرورٍ بنفسه معجَب بشبابه لا يبالي ولا يرعوي، لماذا؟ لأنّ الإيمانَ ضعُف في قلبه، فكانت تصرّفاتُه تصرّفاتٍ خاطئةً خارجة عن النظام والمعقول. هذه التصرفاتُ التي تراها من بعضِ السائقين المتهوِّرين الذين لا يقدِّرون للمكان قدرَه ولا لأيّ وضعٍ قدرَه يسوِّي بين قيادَتِه داخِلَ البِلاد والزِّحام وبين قِيادته خارجَ البلاد، لا يفرِّق بين ذا وبين ذا، إنما غرضُه الوصول إلى حاجَتِه مهما كانتِ الظروف ولو على جُثَث الرّجال، لا يبالي بشيءٍ من ذلك. والمسلم الذي يخاف الله ويتّقيه ويرجوه هو الذي يحترِم دماءَ المسلمين، والذي يحترِم أموالهم ولا يتعدَّى عليهم، في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : ** المؤمِنُ من أمِنه الناس على دِمائهم وأموالهم**[1].
أخي المسلم، إنّك حينما تمتطِي سيّارتَك فاتق اللهَ أولاً، واشكرِ الله على هذه النعمة وأن هيّأها لك ويسّر لك قيادَتها، فاعرف حقَّ الله واشكرِ الله وأثنِ عليه واستعِن بالله في كلِّ مهماتك، وقل: باسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوّةَ إلا بالله، يجيبك الملك: هُديتَ وكُفيتَ ووقيتَ، ويتنحَّى عنك الشيطان ويقول: ما لي برجلٍ قد هدِيَ وكُفيَ ووقِي؟![2].
أخي المسلم، إيّاك وأن تتجاهلَ حقوقَ المسلمين، إياك وأن تقودَها وأنت جاهلٌ بالأنظمة لا تدري كيف تتصرَّف ولا كيفَ تتخلَّص من المواقف الحرجة، إياك أن تسلِّمَ قيادتها لطفلٍ صغير، لا يُرى مِن صِغَره، ولا يقدِّر للأمور قدرَها، ولا يعرِف للظروف أحوالها، إيّاك أن تقودَها وأنت يغلب عليك النعاسُ أو النّوم، فلا تدري كيفَ تتصرَّف، إياك أن تتصرَّف تصرّفاتٍ خاطئة.
مما يُؤسَف له أن البعضَ من المسلمين لا يبالي أثناءَ القَيادة، يسوِّي بين قيادته داخلَ البَلَد والازدحامات وبين قِيادتِه خارجها، يسوِّي بين قيادتِه خارجَ البلد أكان مشيُه ليلاً أم نهارًا، لا يبالي بذلك ما دامت السيّارة تمشي فإنّه لا يبالي، وربما صادَفَ بهيمةً فأدَّت إلى الكارثة، وربما وقَعَ عليه خطرٌ من غيرِ ذلك لأنه لا يقدِّر للوقتِ قدرَه.
ترى بعضَ أولئك ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يفرِّق بين سيره في طريقٍ مستقيم وطريقٍ فيه تعرُّجاتٌ شديدة، لا يبالي بين ذلك، فهو مسوٍّ بين سيره في طريقٍ مستقيم وبين سَيره في طريقٍ فيه تعرّجات يحتاج إلى تروٍّ وتأمّل في الأمر.
بعضُهم ـ هدانا الله وإياهم ـ لا [يفرِّق] بين سيرِه في طريق سريعٍ لكلِّ ذاهبٍ طريقٌ غير الآتي، ولا بين طريقٍ مزدَوجٍ يشترِك فيه الجميع. كلُّ هذه التصرّفات تدلّ على قِلّة عقلٍ وضعفِ تصرّفٍ وعدَم رعاية للمصالح الخاصّة والعامة.
أيّها المسلم، إنّك حينما تقودُ سيّارتَك، فتصوَّر أنّ الطريق ليس لك وحدَك، وأنّ الطريقَ مشترَك لك ولغيرك، فإيّاك أن تزجَّ بنفسك وأن تتلِفَ الأموال أو تجنيَ على النفوس، تدبَّر وتعقَّل في أمرك.
أخي المسلم، ربما تقول: عندي ظروفٌ والوقت قصيرٌ أريد أن أقطعَ المسافةَ الطويلة في أقصرِ مدّةٍ ممكنة، هذا التصوّر خاطئ، افرِض أنّك إن تهوَّرتَ في قيادتك، فتحمَّلتَ مصائبَ على نفسك أو على غيركَ من إخوانك المسلمين، ما كنتَ تقطعُه في الساعةِ الواحدةِ أضِف إليه دقائقَ تَسلَم بتوفيقٍ من الله من هذه البلايا، لكن أن تزجَّ بنفسك وتسرِعَ سرعةً فائقة متجاوزة للحدود، فأيُّ جنايةٍ وقعت منك فأنت تتحمَّل تبِعاتها أمامَ الله جل وعلا؛ لأنّك السببُ في حصولِ ما حصَل، فتبوء بالإثمِ وعَذابِ الله يومَ القيامة.
أخي المسلم، يقود البعضُ السيّارةَ ولا يراعون الأنظمةَ المتّبعَة، والأنظمَةُ المفروضة التي لا تخالِف شَرعًا يجِب على المسلم الالتزامُ بها وطاعةُ من نظّمها لأنَّ هذا من طاعةِ وليِّ الأمر بالمعروف.
أخي، ترى بعضَهم يسير في طريقِه لا يبالي بأنظمةِ السير: كيف يقِفُ ولا كيفَ ينطلِق، تراه يُغرِي من خلفَه، فهو يقِف مواقفَ غير مناسِبة، ولا يعطي لمن خلفَه تصوّرًا هل هو سيكون عن يَسارٍ أو يمين، يلقِي بعرَبَته أيَّ مكان دونَ مراعاةٍ لذلك، تراه أحيانًا في سرعتِه ربما قطعَ الإشارات النظاميّة من غير مبالاةٍ، ثم تقع الأخطار ويحاوِل أن يبرِّرَ موقفَه بأمرٍ هو كاذب فيه غير صادق.
إنَّ الأقدارَ بيد الله، وكلّ ما يجري في الكونِ بقضاء الله وقَدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. هذا حقٌّ نؤمِن به ونصدّقه، ولكن لا يكون الإنسان سببًا في حصولِ الكوارث. إنَّ على المسلم أن يتّقيَ أسبابَ الكوارث بقدرِ إمكانه، والأمرُ الذي يقدِّره الله أمرٌ لا رادَّ له، لكن لا تكن ـ يا أخي ـ سببًا في حصولِ ما حصَل، أنت خُذ بالأسبابِ النافعة، وتوقَّ الشرَّ قدرَ استطاعَتِك، وما وقع بغيرِ إرادَتِك فالله جلّ وعلا لا يؤاخِذُك بذلك، أما أن تكونَ السببَ في إتلاف النفوس والأموالِ فأنت إذًا من الخاسرين، هدانا الله جميعًا سواءَ السبيل.
أخي المسلم، فكِّر قليلاً في نتائجِ هذه الكوارثِ، فكِّر قليلاً فيما يحصل مِن هذه الكوارثِ العظيمَة، ربما [بقيادتك] وتهوّرك تجني على فردٍ أو تجنِي على عدّةِ أشخاص، فتكون بقيادتِك تتلِف نفوسًا كثيرة، أحيانًا واحدَة، وأحيانًا ربما أتلفتَ عددًا من النّاس بسبَبِ سرعتك، فتندَم على سوءِ تصرّفك، ولا ينفعك النّدَم إذّاك.
أخي المسلم، يترتَّب عليه أمور: أولاً معصيةُ الله جل وعلا بارتكاب الأسبابِ التي تخِلّ بنظامِ السّير، ومعصية والي الأمرِ فيما وضَعه من نظامٍ يكفل بتوفيق الله للسَّير الانتظامَ وأداء المهمة.
أمرٌ آخر: فكِّر ـ يا أخي ـ في هذه الحوادثِ العظيمة، كم تقتُل بها نفوسًا، وكم تعيقُ بها آخَرين، فما بين من زهقت نفسهُ، وما بين من أُعيق بقطع أطرافه، وما بين مَن أصبح عالةً على مجتمَعِه في إغماءٍ عظيم بما يحصل من هذه الكوارثِ.
وأمر آخر: أفقَدتَ هذه النفوسَ حياتَها، ذلكم المسلمُ الذي يغتَنِم حياتَه لطاعةِ اللهِ ويتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، كنتَ السببَ في فَقدِه حياته وانقطاعِ أعمالِه التي يرجو أن تكونَ زادًا له يومَ لقاء الله. هذا الشخصُ الذي أتلفتَه له امرأةٌ ترمَّلت وأطفالٌ صاروا بذلك أيتامًا، وأموال تلِفت، سيّاراتٌ تلِفت، يحتاج إصلاحُها إلى مال أو تعويضها إلى مالٍ، فتبقى بالحقيقةِ نادمًا على تصرّفاتِك الخاطئة إن يكن فيك بقيّةٌ مِن خير.
أيّها المسلم، إذًا فعلى الجميع تقوَى الله، وعليهم التبصُّرُ في أمرِهم، وعليهم أن يعينَ بعضهم بعضًا. اعرِف أنَّ الطريق ليس لكَ وحدَك، فمن خلفكَ ومن أمامك وعن جانبيك، كلُّهم شركاءُ لك في الطّريق، وكلٌّ مثلك يريد قضاءَ حاجتِه، فلنكُن متواضِعِين في أنفسِنا، ولنجتنِب الغرورَ والخداع. ما بالُك وأنت تنظُر لبَعض شبابِنا يتسابَقون في الطرقاتِ العامة سباقًا بينَهم لا لهدفٍ سليم، ولكن مفاخرةً وإعجابًا بالنّفوس وسيّارات ما تعِبوا على أثمانها، ولا بذَلوا فيها جهدًا، هيّأها لهم آباؤهم، فهم لا يبالون أتلَفوا اليومَ ويُعوَّضونَ غدًا، أو مؤمَّنٌ عليهم لا يبالون بما يفعَلون.
ترى بعضَ أهلِ الأجرة من السيارات يلقِي بعربَتِه متى ما رأى من يشير إليه دونَ مبالاةٍ بالطريق ومَن خلفَه ومَن أمامَه، كلُّ هذه التّصرّفاتِ الخاطئة تحمِّل المسلمَ إثمًا عظيمًا، لا يغرّنّك أنّك أمّنتَ على سيّارتك وأنّ مؤسّسةَ التأمين ستعفيك عن المسؤوليّة، إن أُعفيتَ عن المسؤوليّة في الدنيا فبأيِّ شيءٍ تلاقي الله يومَ قدومِك عليه؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ بقتلِك الخطأ تتحمَّل الكفّارةَ المغلّظَة: عِتقَ رقبةٍ، فإن عَجزتَ عنها فلا بدَّ مِن صيام شهرين كامِلَين متتابعَين، لا تفطِر بينها إلاّ لعذرٍ قهريّ كمَرَضٍ أو نحوه، ولو أفطرتَ بلا عذرٍ يومًا لأعدتَ الشهرين كاملَين توبةً من الله، وكان الله عليمًا حكيمًا.
تنظُرُ إلى أطفالِ هذا الذي أزهقتَ نفسَه وإلى أهله، وكم أضَعتَ، وكم أحزَنتَ، وكَم ارتكبتَ وكم ارتكبتَ، فبالله عليك اتَّقِ الله في نفسك، وراقِبِ الله في سيرِك، ولنكُن ـ أيها المسلمون ـ على خلقٍ في تعامُلنا، في قيادةِ سيّاراتنا وسيرِنا في طرُقنا، طرقُنا ولله الحمد في غايةٍ من التنظيم والإعدادِ الذي يُعتَبَر فريدًا بين دُوَل العالم، ولكن الخطأُ والإساءة إنما هي في تصرّفاتِنا التي لا تنطلِق من عقلٍ سليم. وعلى الجميعِ نصحُ أبنائهم وسائِقِيهم، وحثُّ الجميع على الاعتدالِ والبُعد عن التهوّر الذي لا خيرَ فيه، أسأل الله أن يوفِّقَني وإياكم لما يحبّه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآيات والذّكر الحكِيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد 2/379 ، والترمذي في الإيمان 2627، والنسائي في الإيمان 4995 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان 180، والحاكم 22، وهو في صحيح سنن الترمذي 2118 .
[2] جاء في ذلك حديث عن أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الأدب 5095، والترمذي في الدعوات 3426 وقال: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان 822، والضياء في المختارة 4/372-373 ، وهو في صحيح سنن أبي داود 4249 .
--------------------------------------------------------------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، سيّدُ ولَدِ آدَم إمامُ المتّقين وسيِّد الأوَّلين والآخرين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه رسَمَ لأمّتِه كيف التعامُل أثناءَ الزّحام، وكيف السّير أثناءَ الكَثرة؛ انصرَفَ من عرفةَ إلى مزدلفة فكان على ناقَتِه يشنقُ لها الزِّمام، إن رأَى سعةً نصَّ وإن رَأَى ضِيقًا تمهَّل في السير[1].
هكذا كان صلى الله عليه وسلم ، وهو قدوةُ المسلمين وإمامُ المسلمين، والصحابةُ يحبّونَه فوقَ محبَّتهم لأنفسِهم وأهليهم وأموالهم، وبالإمكان أن يُفسَحَ الطريق له وأن يكونَ المقدَّم على كلِّهم، لكنه صلى الله عليه وسلم . سلَكَ هذا المسلَكَ العظيمَ مسلَكَ تربيةِ الناس وإعلامهم كيف السّيرُ وكيف الأمر، لم يسرِع ولكنّه كان يتمهَّل، إن رأى سعَةً نصَّ أي: أسرع، وإلا مشى العنَق مشيًا خفيفًا، وكان يشير إليهم بيده: السكينةَ السكينةَ[2]، يمنعُهم مِن أن يؤذيَ بعضهم بَعضًا ويهلِك بعضُهم بعضًا، هكذا كان هديُه صلى الله عليه وسلم .
إذًا فنحن ـ أيّها المسلمون ـ يجب أن نكونَ محترِمين للأنظمةِ النافِعة المفيدة، وأن نعتقدَ أنّ احترامَها والتقيّد بها أمرٌ مطلوبٌ منّا شرعًا، لأنّ سلامةَ الأرواح والأموال مطلوبةٌ من المسلم، فالتهوّر وعدم المبالاة ليست مِن أخلاق المسلمين.
إنَّ أخلاقَ المسلمين قَبول الأنظمة النافعة وتطبيقُها، كلٌّ يطبّقها على نفسه ليسلمَ مجتمعُنا بتوفيق الله من هذه الكوارثِ التي تقضّ مضطَجَح المسلم وتؤلمه إيلامًا شديدًا. ما نسمَع في الصُّحف كلَّ يومٍ عن حوادِثَ مروّعة إنما أسبابها ـ بأمرِ الله ـ السّرعةُ الزائدة، التصرّفاتُ الخاطئة، قيادةُ السيارةِ لمن لا يحسِن القيادةَ ولا يطبّق الأنظمةَ ولا يعرف للسيرِ حقَّه.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنلتَزِم سلامةَ إخوانِنا ديانةً ندين الله بها، أسأل الله أن يأخذَ بنواصي الجميعِ لما يحبّه ويرضاه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرج البخاري في الحج 1666 عن أسامة رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم . يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ.
[2] أخرجه مسلم في الحج1218 من حديث جابر رضي الله عنهما.
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، إنَّ الله تعالى يذكِّر عبادَه نِعمَه ويعرِّفهم بها لكَي يشكروه على هذه النِّعمِ، ويثنوا بها عليه ثناءً يليق بجلالِه، فهو أهل الثناء والمجد.
نِعَم الله متعدِّدةٌ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، من تِلكُم النِّعَم ما بيَّن الله في كتابِه من امتِنانهِ على عباده بأن سخَّر لهم ما يركبون وينتفعون ويقضون به حوائِجَهم ويقطعون به المسافاتِ العظيمة، كلُّ ذلك من توفيق الله، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73]. إذًا فكَون من هذه الأنعامِ ما هُو للرّكوب نِعمةٌ تحتاج أن نشكرَ الله عليها، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ثم قال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، فأخبر تعالى أنّه سيخلُق ما لا يَعلمون ولا يجولُ بِفكرهم ويتصوّرُه حالهم، وهذا من كمالِ قدرته جلّ وعلا، وقد خلق ما لا يعلَمون وأتتِ العجائب، فسبحان الخالق لكلِّ شيء.
والله جلّ علا قال لنا أيضًا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
أيّها المسلم، إنّ مِن نِعَم الله علينا وجودَ هذه المركبات، أعني السّيّارات التي هيّأها الله وسَخَّرها، وأَلهَم خَلقًا من خَلقِه لاختِراعِها وتكوِينِها، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]. هذه المراكِبُ التي بمتناوَلِ الكثير من الناس، يقودُها العاقل والسّفيه والصغير والكبير، أجل إنها بمتناوَل الفرد، ملأَتِ البلاد والبرَّ. هذه النّعمَة العظيمةُ هل شكَرنا الله علينا؟! وهل حسُن استعمالُنا لها أم ساء الاستعمال وذهب الشّكر وقلَّ الثناءُ على الله؟! إنَّ شكرَ الله عليها أمر متعيِّن، فالله الذي يسَّرها وهيَّأها، وإنَّ حسنَ استعمالها لمن شُكر نِعَم الله علينا، فكم من محسِنٍ لاستعمالها، وكم من مسيءٍ لاستعمالِها.
أيّها المسلم، إنَّ هناك فئةً من مجتمعنا هدانا الله وإيّاهم لكلِّ خير، تراهم في سيارتهم يتصرَّفون تصرّفاتٍ جنونية، وتصرّفات خارجة عن العقل والمنطِق، وتصرُّفات دالّةٍ على ضعفٍ في العقل أحيانًا وعلى قِلّة مبالاةٍ بالنّفوس والمجتمع وعَدَم رِعاية الأنظمة وعدم المبالاة بالأرواح. ترى بعضَ أبنائنا يتصرَّفون تصرّفاتٍ قل عنها: إنها تصرّفاتٌ جنونيّة خارجة عن العقل والمنطق، تصرّفَ من لا يراعي نظامًا ولا يبالي بأرواحِ المسلمين، تصرّفَ مستهتِرٍ متكبِّر مغرورٍ بنفسه معجَب بشبابه لا يبالي ولا يرعوي، لماذا؟ لأنّ الإيمانَ ضعُف في قلبه، فكانت تصرّفاتُه تصرّفاتٍ خاطئةً خارجة عن النظام والمعقول. هذه التصرفاتُ التي تراها من بعضِ السائقين المتهوِّرين الذين لا يقدِّرون للمكان قدرَه ولا لأيّ وضعٍ قدرَه يسوِّي بين قيادَتِه داخِلَ البِلاد والزِّحام وبين قِيادته خارجَ البلاد، لا يفرِّق بين ذا وبين ذا، إنما غرضُه الوصول إلى حاجَتِه مهما كانتِ الظروف ولو على جُثَث الرّجال، لا يبالي بشيءٍ من ذلك. والمسلم الذي يخاف الله ويتّقيه ويرجوه هو الذي يحترِم دماءَ المسلمين، والذي يحترِم أموالهم ولا يتعدَّى عليهم، في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : ** المؤمِنُ من أمِنه الناس على دِمائهم وأموالهم**[1].
أخي المسلم، إنّك حينما تمتطِي سيّارتَك فاتق اللهَ أولاً، واشكرِ الله على هذه النعمة وأن هيّأها لك ويسّر لك قيادَتها، فاعرف حقَّ الله واشكرِ الله وأثنِ عليه واستعِن بالله في كلِّ مهماتك، وقل: باسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوّةَ إلا بالله، يجيبك الملك: هُديتَ وكُفيتَ ووقيتَ، ويتنحَّى عنك الشيطان ويقول: ما لي برجلٍ قد هدِيَ وكُفيَ ووقِي؟![2].
أخي المسلم، إيّاك وأن تتجاهلَ حقوقَ المسلمين، إياك وأن تقودَها وأنت جاهلٌ بالأنظمة لا تدري كيف تتصرَّف ولا كيفَ تتخلَّص من المواقف الحرجة، إياك أن تسلِّمَ قيادتها لطفلٍ صغير، لا يُرى مِن صِغَره، ولا يقدِّر للأمور قدرَها، ولا يعرِف للظروف أحوالها، إيّاك أن تقودَها وأنت يغلب عليك النعاسُ أو النّوم، فلا تدري كيفَ تتصرَّف، إياك أن تتصرَّف تصرّفاتٍ خاطئة.
مما يُؤسَف له أن البعضَ من المسلمين لا يبالي أثناءَ القَيادة، يسوِّي بين قيادته داخلَ البَلَد والازدحامات وبين قِيادتِه خارجها، يسوِّي بين قيادتِه خارجَ البلد أكان مشيُه ليلاً أم نهارًا، لا يبالي بذلك ما دامت السيّارة تمشي فإنّه لا يبالي، وربما صادَفَ بهيمةً فأدَّت إلى الكارثة، وربما وقَعَ عليه خطرٌ من غيرِ ذلك لأنه لا يقدِّر للوقتِ قدرَه.
ترى بعضَ أولئك ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يفرِّق بين سيره في طريقٍ مستقيم وطريقٍ فيه تعرُّجاتٌ شديدة، لا يبالي بين ذلك، فهو مسوٍّ بين سيره في طريقٍ مستقيم وبين سَيره في طريقٍ فيه تعرّجات يحتاج إلى تروٍّ وتأمّل في الأمر.
بعضُهم ـ هدانا الله وإياهم ـ لا [يفرِّق] بين سيرِه في طريق سريعٍ لكلِّ ذاهبٍ طريقٌ غير الآتي، ولا بين طريقٍ مزدَوجٍ يشترِك فيه الجميع. كلُّ هذه التصرّفات تدلّ على قِلّة عقلٍ وضعفِ تصرّفٍ وعدَم رعاية للمصالح الخاصّة والعامة.
أيّها المسلم، إنّك حينما تقودُ سيّارتَك، فتصوَّر أنّ الطريق ليس لك وحدَك، وأنّ الطريقَ مشترَك لك ولغيرك، فإيّاك أن تزجَّ بنفسك وأن تتلِفَ الأموال أو تجنيَ على النفوس، تدبَّر وتعقَّل في أمرك.
أخي المسلم، ربما تقول: عندي ظروفٌ والوقت قصيرٌ أريد أن أقطعَ المسافةَ الطويلة في أقصرِ مدّةٍ ممكنة، هذا التصوّر خاطئ، افرِض أنّك إن تهوَّرتَ في قيادتك، فتحمَّلتَ مصائبَ على نفسك أو على غيركَ من إخوانك المسلمين، ما كنتَ تقطعُه في الساعةِ الواحدةِ أضِف إليه دقائقَ تَسلَم بتوفيقٍ من الله من هذه البلايا، لكن أن تزجَّ بنفسك وتسرِعَ سرعةً فائقة متجاوزة للحدود، فأيُّ جنايةٍ وقعت منك فأنت تتحمَّل تبِعاتها أمامَ الله جل وعلا؛ لأنّك السببُ في حصولِ ما حصَل، فتبوء بالإثمِ وعَذابِ الله يومَ القيامة.
أخي المسلم، يقود البعضُ السيّارةَ ولا يراعون الأنظمةَ المتّبعَة، والأنظمَةُ المفروضة التي لا تخالِف شَرعًا يجِب على المسلم الالتزامُ بها وطاعةُ من نظّمها لأنَّ هذا من طاعةِ وليِّ الأمر بالمعروف.
أخي، ترى بعضَهم يسير في طريقِه لا يبالي بأنظمةِ السير: كيف يقِفُ ولا كيفَ ينطلِق، تراه يُغرِي من خلفَه، فهو يقِف مواقفَ غير مناسِبة، ولا يعطي لمن خلفَه تصوّرًا هل هو سيكون عن يَسارٍ أو يمين، يلقِي بعرَبَته أيَّ مكان دونَ مراعاةٍ لذلك، تراه أحيانًا في سرعتِه ربما قطعَ الإشارات النظاميّة من غير مبالاةٍ، ثم تقع الأخطار ويحاوِل أن يبرِّرَ موقفَه بأمرٍ هو كاذب فيه غير صادق.
إنَّ الأقدارَ بيد الله، وكلّ ما يجري في الكونِ بقضاء الله وقَدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. هذا حقٌّ نؤمِن به ونصدّقه، ولكن لا يكون الإنسان سببًا في حصولِ الكوارث. إنَّ على المسلم أن يتّقيَ أسبابَ الكوارث بقدرِ إمكانه، والأمرُ الذي يقدِّره الله أمرٌ لا رادَّ له، لكن لا تكن ـ يا أخي ـ سببًا في حصولِ ما حصَل، أنت خُذ بالأسبابِ النافعة، وتوقَّ الشرَّ قدرَ استطاعَتِك، وما وقع بغيرِ إرادَتِك فالله جلّ وعلا لا يؤاخِذُك بذلك، أما أن تكونَ السببَ في إتلاف النفوس والأموالِ فأنت إذًا من الخاسرين، هدانا الله جميعًا سواءَ السبيل.
أخي المسلم، فكِّر قليلاً في نتائجِ هذه الكوارثِ، فكِّر قليلاً فيما يحصل مِن هذه الكوارثِ العظيمَة، ربما [بقيادتك] وتهوّرك تجني على فردٍ أو تجنِي على عدّةِ أشخاص، فتكون بقيادتِك تتلِف نفوسًا كثيرة، أحيانًا واحدَة، وأحيانًا ربما أتلفتَ عددًا من النّاس بسبَبِ سرعتك، فتندَم على سوءِ تصرّفك، ولا ينفعك النّدَم إذّاك.
أخي المسلم، يترتَّب عليه أمور: أولاً معصيةُ الله جل وعلا بارتكاب الأسبابِ التي تخِلّ بنظامِ السّير، ومعصية والي الأمرِ فيما وضَعه من نظامٍ يكفل بتوفيق الله للسَّير الانتظامَ وأداء المهمة.
أمرٌ آخر: فكِّر ـ يا أخي ـ في هذه الحوادثِ العظيمة، كم تقتُل بها نفوسًا، وكم تعيقُ بها آخَرين، فما بين من زهقت نفسهُ، وما بين من أُعيق بقطع أطرافه، وما بين مَن أصبح عالةً على مجتمَعِه في إغماءٍ عظيم بما يحصل من هذه الكوارثِ.
وأمر آخر: أفقَدتَ هذه النفوسَ حياتَها، ذلكم المسلمُ الذي يغتَنِم حياتَه لطاعةِ اللهِ ويتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، كنتَ السببَ في فَقدِه حياته وانقطاعِ أعمالِه التي يرجو أن تكونَ زادًا له يومَ لقاء الله. هذا الشخصُ الذي أتلفتَه له امرأةٌ ترمَّلت وأطفالٌ صاروا بذلك أيتامًا، وأموال تلِفت، سيّاراتٌ تلِفت، يحتاج إصلاحُها إلى مال أو تعويضها إلى مالٍ، فتبقى بالحقيقةِ نادمًا على تصرّفاتِك الخاطئة إن يكن فيك بقيّةٌ مِن خير.
أيّها المسلم، إذًا فعلى الجميع تقوَى الله، وعليهم التبصُّرُ في أمرِهم، وعليهم أن يعينَ بعضهم بعضًا. اعرِف أنَّ الطريق ليس لكَ وحدَك، فمن خلفكَ ومن أمامك وعن جانبيك، كلُّهم شركاءُ لك في الطّريق، وكلٌّ مثلك يريد قضاءَ حاجتِه، فلنكُن متواضِعِين في أنفسِنا، ولنجتنِب الغرورَ والخداع. ما بالُك وأنت تنظُر لبَعض شبابِنا يتسابَقون في الطرقاتِ العامة سباقًا بينَهم لا لهدفٍ سليم، ولكن مفاخرةً وإعجابًا بالنّفوس وسيّارات ما تعِبوا على أثمانها، ولا بذَلوا فيها جهدًا، هيّأها لهم آباؤهم، فهم لا يبالون أتلَفوا اليومَ ويُعوَّضونَ غدًا، أو مؤمَّنٌ عليهم لا يبالون بما يفعَلون.
ترى بعضَ أهلِ الأجرة من السيارات يلقِي بعربَتِه متى ما رأى من يشير إليه دونَ مبالاةٍ بالطريق ومَن خلفَه ومَن أمامَه، كلُّ هذه التّصرّفاتِ الخاطئة تحمِّل المسلمَ إثمًا عظيمًا، لا يغرّنّك أنّك أمّنتَ على سيّارتك وأنّ مؤسّسةَ التأمين ستعفيك عن المسؤوليّة، إن أُعفيتَ عن المسؤوليّة في الدنيا فبأيِّ شيءٍ تلاقي الله يومَ قدومِك عليه؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ بقتلِك الخطأ تتحمَّل الكفّارةَ المغلّظَة: عِتقَ رقبةٍ، فإن عَجزتَ عنها فلا بدَّ مِن صيام شهرين كامِلَين متتابعَين، لا تفطِر بينها إلاّ لعذرٍ قهريّ كمَرَضٍ أو نحوه، ولو أفطرتَ بلا عذرٍ يومًا لأعدتَ الشهرين كاملَين توبةً من الله، وكان الله عليمًا حكيمًا.
تنظُرُ إلى أطفالِ هذا الذي أزهقتَ نفسَه وإلى أهله، وكم أضَعتَ، وكم أحزَنتَ، وكَم ارتكبتَ وكم ارتكبتَ، فبالله عليك اتَّقِ الله في نفسك، وراقِبِ الله في سيرِك، ولنكُن ـ أيها المسلمون ـ على خلقٍ في تعامُلنا، في قيادةِ سيّاراتنا وسيرِنا في طرُقنا، طرقُنا ولله الحمد في غايةٍ من التنظيم والإعدادِ الذي يُعتَبَر فريدًا بين دُوَل العالم، ولكن الخطأُ والإساءة إنما هي في تصرّفاتِنا التي لا تنطلِق من عقلٍ سليم. وعلى الجميعِ نصحُ أبنائهم وسائِقِيهم، وحثُّ الجميع على الاعتدالِ والبُعد عن التهوّر الذي لا خيرَ فيه، أسأل الله أن يوفِّقَني وإياكم لما يحبّه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآيات والذّكر الحكِيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه أحمد 2/379 ، والترمذي في الإيمان 2627، والنسائي في الإيمان 4995 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان 180، والحاكم 22، وهو في صحيح سنن الترمذي 2118 .
[2] جاء في ذلك حديث عن أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الأدب 5095، والترمذي في الدعوات 3426 وقال: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان 822، والضياء في المختارة 4/372-373 ، وهو في صحيح سنن أبي داود 4249 .
--------------------------------------------------------------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، سيّدُ ولَدِ آدَم إمامُ المتّقين وسيِّد الأوَّلين والآخرين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه رسَمَ لأمّتِه كيف التعامُل أثناءَ الزّحام، وكيف السّير أثناءَ الكَثرة؛ انصرَفَ من عرفةَ إلى مزدلفة فكان على ناقَتِه يشنقُ لها الزِّمام، إن رأَى سعةً نصَّ وإن رَأَى ضِيقًا تمهَّل في السير[1].
هكذا كان صلى الله عليه وسلم ، وهو قدوةُ المسلمين وإمامُ المسلمين، والصحابةُ يحبّونَه فوقَ محبَّتهم لأنفسِهم وأهليهم وأموالهم، وبالإمكان أن يُفسَحَ الطريق له وأن يكونَ المقدَّم على كلِّهم، لكنه صلى الله عليه وسلم . سلَكَ هذا المسلَكَ العظيمَ مسلَكَ تربيةِ الناس وإعلامهم كيف السّيرُ وكيف الأمر، لم يسرِع ولكنّه كان يتمهَّل، إن رأى سعَةً نصَّ أي: أسرع، وإلا مشى العنَق مشيًا خفيفًا، وكان يشير إليهم بيده: السكينةَ السكينةَ[2]، يمنعُهم مِن أن يؤذيَ بعضهم بَعضًا ويهلِك بعضُهم بعضًا، هكذا كان هديُه صلى الله عليه وسلم .
إذًا فنحن ـ أيّها المسلمون ـ يجب أن نكونَ محترِمين للأنظمةِ النافِعة المفيدة، وأن نعتقدَ أنّ احترامَها والتقيّد بها أمرٌ مطلوبٌ منّا شرعًا، لأنّ سلامةَ الأرواح والأموال مطلوبةٌ من المسلم، فالتهوّر وعدم المبالاة ليست مِن أخلاق المسلمين.
إنَّ أخلاقَ المسلمين قَبول الأنظمة النافعة وتطبيقُها، كلٌّ يطبّقها على نفسه ليسلمَ مجتمعُنا بتوفيق الله من هذه الكوارثِ التي تقضّ مضطَجَح المسلم وتؤلمه إيلامًا شديدًا. ما نسمَع في الصُّحف كلَّ يومٍ عن حوادِثَ مروّعة إنما أسبابها ـ بأمرِ الله ـ السّرعةُ الزائدة، التصرّفاتُ الخاطئة، قيادةُ السيارةِ لمن لا يحسِن القيادةَ ولا يطبّق الأنظمةَ ولا يعرف للسيرِ حقَّه.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنلتَزِم سلامةَ إخوانِنا ديانةً ندين الله بها، أسأل الله أن يأخذَ بنواصي الجميعِ لما يحبّه ويرضاه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرج البخاري في الحج 1666 عن أسامة رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم . يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ.
[2] أخرجه مسلم في الحج1218 من حديث جابر رضي الله عنهما.