بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين والصدِّقين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فمنزلة الصدق -كما قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين باختصار- : هي منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، مَن صال به لم تُرَدّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين.
وقد أمر الله -سبحانه- أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [ التوبة: 119 ].
وخص المنعَم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [ النساء: 69 ] فهم الرفيق الأعلى، وحسن أولئك رفيقا.
ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مرتبة المعية مع الله، فإن الله مع الصادقين، ولهم منزلة القرب منه؛ إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين.
ووعد -سبحانه- الصادقين بالجنة والرضوان فقال: {لهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم مِن الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقرة: 177 ] وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
وقسَّم الله -سبحانه- الناس إلى صادق ومنافق فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [ الأحزاب: 24 ] .
والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارِب للآخر.
وأخبر سبحانه أنه فى يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ المائدة: 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ الزمر: 34 ] فالذي جاء بالصدق: هو من شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله.
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة.
فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقيته، ولذلك كان لأبي بكر الصديق -رضى الله عنه وأرضاه- ذروة سنام الصديقية سُمِّي الصِّديق على الإطلاق.فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسَل.
وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [ الإسراء: 80 ] وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84 ] وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [ يونس: 2 ] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [ القمر: 54-55 ] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في تلك الغزوة، وكذلك مدخله المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.
فكل مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق. وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك يريد: أن لا يكون المخرج مخرج صدق.
وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [ مريم: 50 ].
وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى. ووصْف ذلك كله بالصدق مستلزِم ثبوته واستقراره وأنه حق، ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله، فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضار، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.
ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب: حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصدق طمأنينة والكذب ريبة))، وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النب صلى الله عليه وسلم يقال: ((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عندالله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عندالله كذابا))، فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته، فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله، ولا سيما الكذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه، فليس في هؤلاء صديق أبدا، وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه، كل ذلك مناف للصديقية، وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم، فلذلك كانت الصديقية: كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا، حتى إن صدق المتبايعَين يُحِلُّ البركة في بيعهما، وكذبهما يمحق بركة بيعهما، كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)).
* يتبع بإذن الله
تعليق