ذكر الشيخ بن القيم رحمه الله فى كتابه الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب
فصل فى النهى عن الإلتفات فى الصلاة
وقوله فى الحديث " وأمركم بالصلاة , فإذا صليتم فلا تلتفتوا , فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في
صلاته ما لم يلتفت ".
الإلتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان :
أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل الى غير الله تعالى
الثاني : التفات البصر وكلاهما منهى عنه .
ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه وقد سئل رسول الله عن التفات الرجل في صلاته فقال (( اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .
وفي اثر يقول الله تعالى " إلى خير مني , إلى خير منى ؟ " .
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه و يخاطبه وهو فى خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا و شمالا وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به لان قلبه ليس حاضرا معه فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان , أفليس أقل المراتب فى حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعداً قد سقط من عينيه .
فهذا المصلى لا يستوى والحاضر القلب المقبل على الله تعالى فى صلاته الذى قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت عنقه له واستحى من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه .
وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية : أن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والارض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساه غافل , فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا فما الظن بالخالق عز وجل ؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها
فكيف يكون ذلك إقبالا وقد ألهته الوساوس , والأفكار وذهبت به كل مذهب , والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه , فإنه قدم قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه , فهو يحرص ويجتهد أن لا قيمة فيه بل لايزال به يعده ويمنيه وينسيه و يجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شان الصلاة فيتهاون بها فيتركها .
فإن عجز عن ذلك منه و عصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه , فيذكره في الصلاة مالم يكن يذكر قبل دخوله فيها , حتى ربما كان قد نسي الشئ والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل فيقوم فيها بلا قلب , فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه , وأحس بأثقال قد وضعت عنه , فوجد نشاطاً وراحة وروحاً حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها لأنها قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا , فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها , ويستريح بها لا منها فالمحبون يقولون نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم (( يا بلال أرحنا بالصلاة )) ولم يقل أرحنا منها .
وقال صلى الله عليه وسلم (( جعلت قرة عيني في الصلاة )) .
فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه بدونها وكيف يطيق الصبر عنها ؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان حتى يستقل بها
الرحمن عز وجل فتقول (حفظك الله تعالى كما حفظتني ) , وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول (ضيعك الله كما ضيعتني ).
وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال ((ما من مؤمن يتم الوضوء الى أمكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئا إلا رفعت له الى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضئ بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها الى الرحمن عز وجل ومن قام الى الصلاة فلم يكمل وضوءها وأخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لاتجاوز شعر رأسه تقول ضيعك الله كما ضيعتني ضيعك الله كما ضيعتني)) . (1)
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل , فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة .
والمقبول من العمل قسمان :
أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر لله عز وجل على الدوام فأعمال هذا العبد تعرض على الله عز وجل حتى تقف قبالته فينظر الله عز وجل اليها فاذا نظر إليها رآها خالصه لوجهه مرضية قد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله عز جل ومتقرب إليه أحبها و رضيها وقبلها .
والقسم الثاني : أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب الى الله , فأركانه مشغولة بالطاعة , وقلبه لاه عن ذكر الله , وكذلك سائر أعماله , فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه ولا يقع نظره عليها , ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تعرض عليه يوم القيامة فتميز فيثيبه على ما كان له منها , ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها .
فهذا قبوله لهذا العمل : إثابته عليه : بمخلوق من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين وإثابة الأول : رضا العمل لنفسه , ورضاه عن معاملة عاملة وتقريبه منه وإعلاء درجته و منزلته فهذا يعطيه بغير حساب ,فهذا لون والأول لون .
والناس في الصلاة على مراتب خمسة :
أحدهما : مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها
الثاني : من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار .
الثالث : من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد .
الرابع : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها ورأكانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئا منها بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها , قد استغرق قلبه شأن الصلاة , وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها .
الخامس: من إذا قام الى الصلاة قام إليها كذلك ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل ناظراً بقلبه إليه , مراقبا له , ممتلئا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده , وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات , وارتفعت حجبها بينه وبين ربه , فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض , وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين به .
فالقسم الاول معاقب , والثاني محاسب , والثالث مكفر عنه , والرابع مثاب , والخامس مقرب من ربه , لأن له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة , فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة , وقرت عينه أيضا به في الدنيا ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين, ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات .
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل : " ارفعوا الحجب فاذا التفت قال ارخوها " , وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل الى غيره فإذا التفت إلى غيره أرخى الحجاب بينه وبين العبد فدخل الشيطان وعرض عليه أمور الدنيا وأراه إياها في صورة المرآة وإذا اأقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدرالشيطان على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب , وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب فإن فر إلى الله تعالى وأحضر قلبه فر الشيطان , فإن التفت حضر الشيطان فهو هكذا شأنه وشان عدوه في الصلاة .
وإنما يقوي العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا قهر شهوته وهواه , وإلا
فقلب قد قهرته الشهوه وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدا تمكن فيه .
كيف يخلص من الوساوس والافكار؟
والقلوب ثلاثة :
القلب الأول: قلب خال من الايمان وجميع الخير فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه لأنه قد اتخذه بيتا ووطنا وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن .
القلب الثاني : قلب قد استنار بنور الايمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع فالحرب دول وسجال وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة , فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر , ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر , ومنهم من هو تارة وتارة .
القلب الثالث: قلب محشو بالايمان قد استنار بنور الإيمان وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات فلنوره في صدره إشراق ولذلك الإشراق إيقاد , لو دنا منه الوسواس احترق به , فهو كالسماء التي حرست بالنجوم , فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجم فاحترق , وليست السماء بأعظم حرمه من المؤمن , وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء , والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة , والمحبة والمعرفة والإيمان , وفيه أنوارها , فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئا إلا على غرة وغفلة وخطفة .
ا.هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الطبرانى فى الأوسط وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (1/302) وقال : وفيه عباد بن كثير وقد أجمعوا على ضعفه فالحديث ضعيف .